الوعي والطاقة الحرارية:
السؤال الذي يطرح نفسه والمتصل الفكرة ذاتها في كربلاء:
هذه الأمة التي صنعت المعاجز تحت قيادة تاريخية ربانية هي قيادة النبي (ص)، وتحملت أشد الصعاب لأجل العقيدة، كيف انقلبت بشكل سريع وتراجعت على مستوى الوعي وفهم الواقع حتى وصل بها الأمر لقتل أخر صلة مباشرة لها بالنبي (ص)، وهو سبطه الإمام الحسين (ع) مع إدراكها ووعيها لمقامه وموقعيته وحقّانيته، أين يكمن الخلل؟
"وما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ".
هناك فرق بين أن تتفاعل مع محيطك في بعده العاطفي كطاقة حرارية تستمد وهجها من شخص النبي (ص)، وبين أن تتفاعل مع شخص النبي (ص) بوعي وإدراك لرسالته وموقعيته في مشروع الله تعالى وجبهته، فالدين لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالدين.
وحتى ندرك طبيعة هذا الصراع، علينا أن نسلط الضوء على طبيعة هذا الصراع في بعديه الناعم والصلب.
فهناك فرق بين الوعي والطاقة الحرارية كما يذكر الشهيد محمد باقر الصدر:
الوعي: عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحقق للإسلام في نفس الأمة، الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالًا كاملًا. ويحول تمام مرافق الإنسان من مرافق الفكر الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي، والذوق الإسلامي. ولكن هل الوعي هو ذاته الإدراك؟
"يعدّ الإدراك المفهوم الأشمل للعمليات العقلية بما فيها التفكير، فهو المظلة لكل العمليات العقلية، إلا أن الوعي يمثل إدراك الإنسان بأنه يقوم بهذه العمليات العقلية بما فيها التفكير، فالوعي يعدّ المستوى الأعمق من الإدراك".
وكلما تعمّق وعي الإنسان، استشعر أبعاد المسؤولية الملقاة على عاتقه، إذ إن الوعي يرتبط بعلاقة طردية مع حجم المسؤولية وعظمها، فالخطوات على هذه الأرض ترتبط فاعليّتها وثقلها وتأثيرها بارتباط صاحبها بمبدأ المسؤولية وإدراك أبعاده ودلالاته وتطبيقاته، بل وظيفته، مهما حاول الإنسان الانفكاك الواقعي عن المسؤولية، إلا أنها ترتبط به ارتباطًا تكوينيًّا.
"وقفوهم إنهم مسؤولون"
أمرٌ مع تأكيد للصلة الوجودية، التي ستلاحق الإنسان مهما حاول الهروب منها. إلا أن الحديث عن ارتباط المسؤولية بوجود الإنسان تكوينيًّا، لا يعني بالضرورة أن الجميع على مستوى الفعل الإنساني متساوون في درجة المسؤولية، لأنهم حتمًا ليسوا متساوين على مستوى الإدراك والوعي، فالأمر ليس بهذه الراديكالية على مستوى الفعل، وإن كان على مستوى القوة الوجودية حتمي الارتباط غير منفك، وبدرجة واحدة عند كل البشر.
فعلى مستوى الفعل الإنساني، تختلف درجات المسؤولية باختلاف القابليات الإنسانية ومستويات الوعي: "لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها".
وإن كنّا هنا نتحدث عن مسؤوليتنا اتجاه قضايانا، فإننا هنا نتحدث عن ارتباط المسؤولية الإنسانية بعدة عوامل خارجية وداخلية.
فالداخلية منها هي:
– قابلية الإنسان.
– مستواه التعليمي والمعيشي وطبيعة البيئة التي نشأ بها.
– مستوى إدراكه، ووعيه لواقعه ومحيطه.
والعوامل الخارجية مرتبطة بعدة عوامل:
– الجغرافيا.
– الواقع الاجتماعي والسياسي.
– فاعلية النخب والمثقفين في ممارسة دورهم التوعوي، وفضاءات الحرية المتاحة التي يحددها طبيعة من يحكم.
لذلك ونتيجة لعملية التّجهيل التراكمي التي مورست بحق الأمة الإسلامية بعد رحيل خاتم الأنبياء محمد (ص)، فإن مستويات الوعي تراجعت بشكل كبير، وتراجع على ضوئها مستوى الإحساس بالمسؤولية وطبيعة هذه المسؤوليات، أي هل هي مسؤوليات متصلة بطبيعة استخلاف الله للإنسان فتكون في طول إرادة الخالق؟ أو هي مسؤوليات وفق رغبات صاحبها ومن يتولى من أرباب الأرض، فتكون مسؤوليته في عرض إرادة الخالق جل شأنه؟.
وهنا قد لا تسمى مسؤولية لأنها غير واقعة عن اختيار في كثير من الأحيان، بل إما تكون كما هو حال كثير ممن حارب الإمام الحسين (ع)، تحت تأثير المال، أو الخوف على الدنيا، أو الخوف من عقاب الحاكم، أو حتى طمعًا في جاه وحظوة عند هذا السلطان، وهذا غالبًا مرتبط بالرغبة والشهوات والغرائز التي تشكل الدافع الرئيس للحركة والعمل، بينما المسؤولية التي تكون في طول إرادة الله، فإنها تقع عن إرادة واختيار الإنسان، لأن لديه خيارات أخرى غير مكلفة له دنيويًّا، إلا أنه يختار تحمل المسؤولية التي أرادها له الله تعالى، وهذه تكون نتيجة إحساس بالمسؤولية التي تتولد من استشعار الرقابة الإلهية وحب الخالق وإطاعة أوامره، وهذا ما كان عليه أصحاب الإمام الحسين (ع)، الذين بذلوا مهجهم على طريق أبي عبد الله الحسين (ع).
أما الطاقة الحرارية: فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بشعور قد يبلع في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية، وبين أمة تتمتع بذلك الوعي إلا بعد التبصر.
إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية، والذي هو النبي (ص).
ويتبلور الوعي في الشدة وليس في الرخاء، ففي الرخاء قد يتفاعل الجميع مع الدعوة إلى الله، أو مع جبهة الحق، كما تفاعل أولئك الذين أرسلوا كتبهم الداعمة لمجيء الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة لنصرته وقالوا إن لك رجالًا وجنودًا مجندة، لأن حاكم الكوفة النعمان بن بشير كان ضعيفًا وفق فهم بني أمية للضعف، فكانت حركة الشيعة سهلة ويسيرة نوعًا ما، ولعب هانئ بن عروة دورًا بارزًا فيها في دعم حركة مسلم بن عقيل، ولكن عندما جاء عبيد الله بن زياد مبعوث يزيد ليعزل النعمان، وتولى شؤون الكوفة، هنا برزت حقيقة هذا الوعي في الشدة، فقتل هانئ بن عروة وسحبت جثته في الأسواق ورمي مسلم بن عقيل من شاهق كما يفعل بمرتكبي فاحشة اللواط، أمام صمت وسكوت أولئك الذي استصرخوا الإمام الحسين (ع)، وحينما أرسل موفده مسلم بن عقيل ليستقرئ الواقع فغدروا به خوفًا على دنياهم، لدرجة أن تسحب الأم يد ابنها خوفًا عليه قائلة ما لنا وصراع السلاطين، معتبرة أن الصراع بين يزيد والإمام الحسين (ع) صراع سلاطين وليس صراع جبهتين ونموذجين.
لذلك هناك فرق شديد بين التفاعل مع كربلاء كوعي ممتد في كل الأبعاد حتى الاستراتيجية منها، وبين التفاعل معها عاطفيًّا وتراجيديًّا، دون بعد عقلي ناظم وضابط ومدرك.
لذلك تمثلت النهضة في كربلاء في كونها:
1. انبعاث جديد لإشعاع النور النبوي الممتد في الحسين (ع)، حيث تضمنت خطاباته عليه السلام تأسيسات توحيدية تذكر الموجودين برابطتهم وعلقتهم بخالق السماوات والأرض، وبانتمائه إلى جبهة الله واتصاله بخاتم الأنبياء، ليزيل عنهم اللبس، ويقيم عليهم الحجة.
2. تنوير مسار الأمة بطاقة شعورية متجددة تم تعميدها بأزكى الدماء وأطهرها، بعد خمودها ومرورها بتجارب أبعدتها عن التجربة الإسلامية الرشيدة في عهد النبوة، وباتت هناك أجيال تم بناء بنيتها الفكرية على مفاهيم مخلوطة ومغلوطة فحاول الإمام من خلال واقعة كربلاء فلترة موازين هذه المفاهيم وضبطها، وإعادة النصاب للمنظومة المفاهيمية الصحيحة الممتدة للنبوة.
3. تجديد هذه الطاقة الشعورية كانت بمثابة قفزة وعي تُرشّد التجربة الإسلامية، وتعيد للأمة مسارها التصاعدي من جديد.
مصاديق النهضة في الفكر الحسيني:
خرج الإمام الحسين عليه السلام معلنًا أول خطوة في طريق النهضة في وجه من مثل الاستبداد في زمانه "يزيد بن معاوية بن أبي سفيان"، فقال: "والله ما خرجت أشرًا ولا بطرًا، ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
والإصلاح يعني التنظيم والترتيب، وهو حركة تحدث تغييرًا نحو الأصلح والأكمل، أي حركة ديناميكية مستمرة. وهي أيضًا من مصاديق النهضة.
1. إحياء حياة فكرية جديدة تتجاوز انغلاق فترة زمنية سابقة وقيودها المعيقة، وقد استطاع الامام الحسين عليه السلام من خلال عدة مواقف أن يبعث الحياة في أساس الفكر النقي المتسق مع الفطرة البشرية السليمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر لو نظرنا إلى المكونات العرقية والقبلية والدينية لجماعة وأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، نجدها تحمل في عمقها تنوعًا فريدًا ضم في صفوف الطبقات الاجتماعية، والأديان السماوية والقبائل المختلفة والمتعددة، وهو مواجهة صريحة ورسالة واضحة لترسيخ مفهوم التقوى الذي مايز بين البشر والقبائل والعشائر والناس، قبالة التمييز على أساس العرق والقبيلة والطبقة، وغيرها من الأمور التي كرستها ثقافة أهل الشام، بل كرس ثقافة الرفض الطبقي الذي أسست له الشريعة الاسلامية مع بدايات الدعوة المحمدية.
2. هي مؤسسة على المراجعة والتقويم وليست مبنية على الاجتثاث والقطيعة، إذ إنها تتصل بالماضي اتصالًا مرتبطًا بالهوية والانتماء الفكري والعقدي، فمجرد إعلان الإمام الحسين الهدف الرئيس من ثورته وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لهو دلالة صريحة وواضحة وإمارة جلية على مراجعة وتقويم التجربة الإسلامية بعد انحرافها عن أهدافها الانسانية ومقاصدها، والذي يعدّ العدل والعدالة من أسسه، فهو لم يصرح بأنه ثار من أجل دين جديد أو فكر جديد، بل الإصلاح الذي يعدّ من مصاديق النهضة ويعمد إلى ترتيب وتنظيم ما فسد ليعيد له أصله السليم.
ولعل الخطب التي ألقاها الامام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، والتي بيّن فيها معالم نهضته للجنود في صفوف العدو، كانت رسائل واضحة للقوم في تقويم الفكرة ومراجعتها وإقامة الحجة عليهم، وهي وثيقة للتاريخ تثبت بذور الفكر النهضوي في ثورة أبي عبد الله.
3. وهي عملية متصلة بالذات وليست عملية غريبة عنها، أي أن نهضة الإمام الحسين لم تأت بما هو غريب عن جسد الأمة الإسلامية وثقافتها، بل أعادت بلورة الأسس الدينية التي تم تشويهها تراكميًّا، فلم تستورد فكرة غريبة عن الذات الإسلامية، ولم تتأثر بقادم فكري خارج عن السياق الإنساني، بل هي من عمقه وفي خدمته وفي سبيل الارتقاء به والعودة به إلى صفاء فكره، وإزالة الشوائب التي تراكمت كميًّا فغيرت نوعيًّا، بل واجه الإمام الحسين (ع) الأفكار الغريبة عن الذات وأهمها على المستوى السياسي في تحويل الدولة إلى ملك عضوض كسروي وراثي كان موجودًا في بلاد فارس وبلاد الروم، وتغييب حق الناس في قبول السلطة ورفضها. إضافة إلى بعض المواقف التي حدثت في كربلاء وفي يوم عاشوراء رغم بساطة ظاهرها، إلا أنها عميقة الفكرة ودقيقة في وجهتها الإنسانية.
4. إعادة إحياء مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن تم إماتته إما بالتشويه، أو بالتعطيل، فمن موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفض الطغيان ومواجهة الطغاة، والسعي لتحقيق العدالة ورفع الظلم، والدفاع عن الإنسانية وحقها في العدالة، وحقها في الحرية، وحقوقها العامة المؤثرة هو دفاع بحد ذاته، لذلك فإن انتفاضة الأشخاص من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا هي انتفاضة مقدسة بشروط وضوابط تم تقنينها من قبل الشارع الأقدس، ومن قبل سيرة العقلاء أيضًا. لا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من المجالات، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاِسلام من مفاهيم وقيم، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الإسلامية، وشامل للموازين والقيم الإسلامية التي تحكم العلاقات الإنسانية، وشامل للشرائع والقوانين، وللأوضاع والتقاليد، وبعبارة أخرى هو دعوة إلى الاإسلام عقيدة ومنهجاً وسلوكاً؛ بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والارشادات الإسلامية ، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الإسلامية.
وهناك ثلاث ميزات في خطاب الأمر بالمعروف في عصر النهضة الإسلامية الحديثة والزمن الراهن هي:
1. الميزة الإحيائية
2. الميزة التطبيقية والأسلوبية
3. الميزة السياسية النهضوية
والجهاد كمرحلة متقدمة من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ تكون هناك مراحل سابقة عليه، يعطي المكنة والتمكن للجماعة المؤمنة المؤتمنة على تحقيق العدالة، وإنفاذ مفهوم التوحيد الذي يمنع استعباد الناس لغير الله، ويحررهم من كل الأغلال والقيود التي وضعت عليهم دون تشريع سماوي أو دون أدنى أثر لها لتحقيق العدل، بل هي أغلال تقيدهم وتقمع حريتهم وتكبل إرادتهم، وتهدم شخصيتهم الإنسانية التي تحققها الكرامة.
فكلمة الحق في وجه الجور والطغيان، تبدأ بالنصيحة وفي حال ازداد الطغيان تتدرج عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تصل إلى مرحلة المواجهة وهي مرحلة الجهاد.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان