ما نريده ونلح على أنّه ضروري لنا في مرحلتنا الثورية الراهنة هو ألسنة التاريخ، هو جعله ذا صلة بحياة الإنسان ومطامحه، هو إعداده ليندمج مع الكائن الإنساني في تركيب عضوي مُتفاعل مُتكامل وليس مجرّد انعكاس خاوٍ لحياة إنسانيّة سابقة. لقد دأب مدوّنو التأريخ العرب على الاهتمام بالتأريخ الشخصي للملوك والقادة؛ فسجّلوا بإسهاب عظيم حروبهم وانتصاراتهم، ومجالس مجونهم ولهوهم، ولم يولوا الجانب الاجتماعي من الحياة الإسلاميّة - وهو ما يتّصل بحياة الأمّة - اهتماماً وإن كان ضئيلاً.
ومن هنا أضحى التأريخ عندنا - بالنسبة إلى الجماهير - مجرّد انعكاس لحيوات سابقة لا يُسهم في تكوين الشخصيّة الإنسانيّة. إنّه قد يُسهم في إثارة الحماس الخلاّق تارة والغرور المدمر أخرى، ولكنّه لا يُسهم أبداً في تكوين شخصيّة إنسانيّة سوية مُتكاملة ترتكز على أصول إنسانيّة عريقة، فلا تفقد محور الارتكاز حين تتعرّض لامتحان قاسٍ لا يجتازه إلاّ الإنسان... الإنسان.
وإن حُقبتنا الحياتية الراهنة لتُحتم علينا أن نتناول التاريخ تناولاً إنسانياً، تناولاً يُتيح له أن يكون عاملاً مطوّراً فيما يتعلّق بموقفنا من الحياة والكون. إنّ أمّتنا الإسلاميّة تجتاز في هذه الحقبة أدق وأخطر مرحلة من مراحل كفاحها الطويل عبر العصور. لقد حقّقت انتصارات باهرة يجب أن تُحافظ عليها، وتعمل في الوقت نفسه لتحقيق انتصارات جديدة. وهنا تكمن الخطورة في هذه المرحلة؛ إنّها الآن حين تقنع بالانتصارات التي حقّقتها وتقعد عن محاولة تحقيق غيرها تتعرّض لخطر فقد هذه الانتصارات نفسها، ولذلك فيجب أن تحمي هذه الأمّة نفسها من تطرق الوهن والاستسلام إليها. يجب ألا ترضى عن نفسها. هذه واحدة.
وأخرى وهي أنّها إذا صمّمت على السير ولم تهن ولم تنكل يخشى عليها أن تزيغ وتنحرف في تطوّرها إذا لم يكن عندها... في أعماقها محور ترتكز عليه وترجع إليه، محور نابع من شخصيّتها التأريخيّة وذاتيتها العقائديّة. وما يُؤمنها من أنفسها، وما يُؤمنها من الزيغ والانحراف في تطوّرها هو أن تعي تأريخها بعد تطهيره، وتأريخها هي - تأريخ الأمم - ليس تأريخ حروب حكّامها، وانتصاراتهم ومجالس لهوهم، وإنّما هو تأريخ ثوراتها على هؤلاء الحكّام.
إنّ ثورات الأمم هي التي تمثّل روحها ونضالها وإيمانها، أمّا الحكّام الذين ثارت عليهم فليسوا منها؛ لو كانوا منها لما ثارت عليهم، لو كانوا منها لأحسوا بعذابها، ولما خلقوا بتصرّفاتهم مبرّرات ثوراتها. إنّ تأريخ الثورات هو تأريخ الشعوب. ولكي تبقى هذه الشعوب في يقظة دائمة لئلاّ تخدع عن انتصاراتها، ولكي تبقى في وعي دائم لعملها التطويري الذي تمارسه يجب أن تكون في ثورة دائمة على أعدائها في الخارج والداخل لتحتفظ بانتصاراتها، وثورة دائمة على نفسها تتناول نفسها بالنقد، وتفحص موقفها دائماً؛ لئلاّ تنحرف وتزيغ. ولكي تبقى في ثورة دائمة تُصحح بها أوضاعها من الداخل والخارج يجب أن تُلقن تاريخ نفسها تاريخ ثوراتها؛ ففي هذا التأريخ تجد الأساس التأريخي لشخصيتها العقائديّة والنضاليّة فتعصمها شخصيتها العقائديّة من الزيغ والانحراف، وتعصمها شخصيتها النضاليّة من الوهن والنكول.
ولقد أهمل المؤرّخون الأقدمون تأريخ الثورات أو زيّفوه؛ لأنّهم - بوحي من أنفسهم أو حكّامهم - كانوا يعتبرون هذه الثورات حركات تمرّد وعصيان ضدّ السلطة الشرعية. أمّا الآن، فيجب أن يُصحح الوضع، يجب أن يُكتب التأريخ النضالي لأمّتنا كتابة صحيحة، يجب أن يكشف عن العذاب والاضطهاد والجوع الذي كان يدفع الناس إلى الثورة، إلى الموت احتجاجاً على واقعهم.
يجب أن يكشف عن الشخصيّة التأريخيّة لهذه الأمّة، ومحور ارتكازها العقائدي والنضالي غير التاريخ. يجب أن يكشف عن مناقبيّة الثائرين التي كانت تعصمهم دائماً من أن ينقلبوا إلى لصوص، أو سفّاحي دماء لا هدف لهم ولا يشعرون بمسؤوليتهم. وتأريخ أمّتنا النضالي تأريخ مضيء؛ فالثورات التي قامت بها أمّتنا عبر العصور كانت دائماً تعبّر تعبيراً تلقائياً حرّاً عن هذه الأمّة وعن إنسانيتها، وعن رغبتها الحارّة في أن تعيش متمتّعة بحقوقها الإنسانيّة كافة.
وتأتي ثورة الحسين عليه السلام في كربلاء على رأس هذا التأريخ؛ فهي رأس الحربة في التأريخ الثوري، هي الثورة الأولى التي عبّأت الناس ودفعت بهم في الطريق الدامي الطويل، طريق النضال، بعد أن كادوا أن يفقدوا روحهم النضاليّة بفعل سياسة الأمويِّين.
وهي أغنى ثورة بالعزم والتصميم على المضي في النضال الدامي إلى نهايته أو النصر؛ فقد عُرضت على الثائرين أمتع حياة، ولكنّهم أبوا هذه الحياة التي سيسكتون معها عن الظلم والعسف وإرهاب الأمّة. وهي ثورة امتحن أبطالها بأقسى ما امتحن به الثائرون على مدى التاريخ. فلم يهنوا ولم ينكلوا بل ثبتوا - رغم كلّ شيء - ثائرين إلى اللحظة التي توّجوا فيها عملهم العظيم بسقوطهم صرعى في سبيل مبدئهم الحقّ.
وهي أنبل ثورة قام بها جماعة من الناس؛ فإنّ الثائرين لم يستهدفوا من ثورتهم مغنماً شخصياً لأنفسهم، وإنّما استهدفوا من ثورتهم تحرير مجتمعهم من الطغاة الذين كانوا يسومونه العذاب ويجرّعونه الصّعاب؛ ومن هنا تأتي أهيمتها التأريخيّة والتطويرية، من أنّها النموذج المحتذى، النموذج الذي جاء كاملاً والذي يجب أن يُستوحى.
وحيث كانت بهذه المثابة وجب أن تنال عناية خاصّة من القيّمين على شأن الكلمة عندنا، فعلى هؤلاء - وهم القوّة المطوّرة والقائدة في الأمّة - أن يهتمّوا اهتماماً جدّياً بهذه الثورة بشرح الدور الذي أسهمت به تغذية روح النضال وإلهابها، وبالكشف عن أخلاقيتها التي بشّرت بها، وبإحلالها في محلّها اللائق بها تأريخنا الثوري.
وإنّ أدوات الأداء الحديثة لتتيح إمكانيات لا حدّ لها لاستخدام تأريخنا الثوري في تطوير مجتمعنا، وفي إبراز شخصيته التأريخيّة لعينيه؛ ليعمل على تركيز نضاله الحديث على الأسس التأريخيّة العقائديّة لحركته النضاليّة الكبرى عبر العصور.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع