مقالات

الأمّة، مفهومها ومكوّناتها

فالأُمّة بمفهومها العامّ يقصد بها ما يرادف: «الشعب»، وهو: مجموعة من الناس يجمعها وطن واحد ومصالح مشتركة، تتوصّل إلى تحقيقها من خلال سلطة وقيادة سياسية موحّدة. أمّا «الأُمّة» بمفهومها الخاصّ فالمراد بها: مجموعة من الناس يجمعها الإيمان بقيم مشتركة متمثّلة في: قيادة موحّدة ونظام موحّد للحياة.

وقد جاء مصطلح «الأمّة» في أكثر من موضع من الكتاب الكريم بالمعنى الثاني؛ كقوله تَبَارَكَ وَتَعَالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)[1]. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[2]. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ)[3].

 

الفرق بين المفهومين‌

 

«الأُمّة» بمعناها الأوّل هي التي نقصدها في هذا البحث؛ فالمقصود بالأُمّة التي نبحث عن دورها في السلطة: مجموعة من الناس ذات وطن واحد ومصالح مشتركة، تتوصّل إلى تحقيقها من خلال سلطة وقيادة سياسية موحّدة.

وأمّا «الأُمّة» بمعناها الثاني؛ فإنّها الهدف الذي تسعى رسالات الأنبياء إلى تكوينه وتحقيقه على أساس من القيم العليا، والأُمّة بهذا المعنى تتميّز عن الأُمّة بمعناها العام في أمرين أساسيين:

 

الأوّل: أنّ العنصر البشري الذي تتكوّن منه الأُمّة- بهذا المعنى- قد لا يتمثّل إلّا في إنسان واحد؛ تتجسّد فيه القيم التي يؤمن بها فيكون هو «الأُمّة»، وقد جاء في القرآن الكريم وصف النبي إبراهيم عَلَى نَبِيِّنا وَآلِهِ وَعَلَيهِ السَّلَام بأنّه «أُمّة»، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)‌[4].

فلا دخل للكمّ البشري في بلورة مفهوم «الأُمّة» حسب هذا المعنى، وإنّما الدور الأساس في ذلك للعنصر الكيفي، المتمثّل في تجسيد «الإنسان الأُمّة» للقيم التي يؤمن بها تجسيداً عملياً كاملًا، وذلك خلافاً للأُمّة بمفهومها العامّ؛ فإنّ للعنصر الكمّي دوراً أساسياً في تكوينه، وقد يكون للعنصر الكيفي دور لا يستهان به في تكوينه أيضاً؛ غير أنّه ليس العنصر الوحيد الأساس في تكوين الأُمّة بحسب هذا المفهوم.

 

الثاني: أنّ إمامة «الأُمّة»- بحسب مفهومها الخاصّ- حالة حقيقية واقعية، وليس أمراً اعتبارياً يدور مدار الوضع والاعتبار، ولذلك فإنّها تجري وفقاً لسنّة كونية إلهية لا تتخلّف، وذلك خلافاً للأُمّة بمفهومها العامّ، فإنّ إمامتها وقيادتها حالة اعتبارية تدور مدار الوضع والقرار الاجتماعي نفياً وإثباتاً، فقد تختار الأُمّة- لاعتبار معيّن- فرداً لقيادتها؛ تتمثّل فيه قيم معيّنة، وقد تختار الأُمّة- نفسها- بعد زمن يسير فرداً آخر؛ تتمثّل فيه قيم أُخرى تناقض القيم التي يمثّلها القائد الأوّل!

ومن المهامّ التي يسعى إليها الأنبياء: تكوين أمّة يحكمها العنصر الكيفي، ثمّ توسيع دائرة هذه الأمّة على المستوى الكمّي؛ لتشمل أكبر عدد ممكن من الناس. ومن نتائج هذا التوسيع الكمّي للأمّة ذات العنصر الكيفي وجود أمّة بمعناها العامّ؛ تتمثّل فيها معايير الأمّة بمعناها الخاصّ، كما أنّ من نتائج هذا التوسيع الكمّي للأمّة (ذات العنصر الكيفي): أن تتّخذ الأمّة- بمعناها العام- قرارها في اختيار «الإمام» على أساس من المعايير الحقيقية، وأن تتطابق فيها «الإمامة الحقيقية» التي تتجسّد فيها القيم العليا التي تؤمن بها الأمّة مع «الإمامة الاعتبارية» التي تختارها الأمّة بإرادتها.

ـــــــــــــــــــــــــ

* نظرية الحكم في الإسلام، الشّيخ محسن الأراكي

[1] سورة البقرة: 143.

[2] سورة الأنبياء: 92.

[3] سورة المائدة: 48.

[4] سورة النحل: 120- 121.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد