مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

المصلح وخيار الوعي

الحقيقة بنية متينة، تحملها عقول لها قابليات عالية في مستوى وعيها وإدراكها، وفي ذات الوقت استفادت من تراكم التجربة البشرية عبر التاريخ، خاصة فيما يتعلق بموضوع الوظيفة والدور، والقرار، والزمان والمكان، فهي تعي وظيفتها، وتعي زمانها ومكانها، وتدرك الفارق الجوهري بين الأنا والذات والآخر.

فقد تكون الحقيقة تحتاج وجود هذه العقول لتستمر كواقع متحقق في الخارج، وقد تتطلب الحقيقة أن تضحي هذه العقول بوجودها في سبيل استمرارها.

فاستمرار الحقيقة ليس دومًا متعلقًا بخيار الحياة، بل قد يتعلق بخيار الموت، الذي تكون مقدمته النضال في الحياة والتضحية بها، متى ما تعلق استمرار وجود الحقيقة بذلك.

لذلك يتعلق الوعي بإدراك متى وكيف وأين، وبالخيار المناسب، وبفهم الفارق الجوهري بين الأنا؛ التي إذا تضخمت وباتت أصلاً، ستضحي بالحقيقة في سبيل وجودها وبقائها، بحجة أداء الدور وتحقيق الوعي، وبين الذات التي هي عبارة عن الأنا الفردية والأنا الجماعية، بحيث إذا تطلبت الحقيقة التضحية بالأنا الفردية لأجل الأنا الاجتماعية، التي من خلالها تعبر الحقيقة للأجيال القادمة، فإن الواعي والعاقل الحقيقي سيضحي بالأنا الفردية لحساب عبور الحقيقة من خلال دمه ووجوده.

الذات هي امتداد للفرد في جسد الجماعة، وهي تحقيق للجماعة في ذات الفرد، أما الأنا فهي الفردانية المنفصلة عن امتدادها في جسد الجماعة، والتي تنفصل في مصالحها الخاصة عن المصالح العامة التي تحقق منفعة الإنسان، فهناك فارق كبير بين كونية الإنسان، وفرديته.

خيار الوعي عادة ما تكون فيه تنازلات وتضحيات كبرى، أحيانًا يقدمها الفرد لصالح الجماعة باتساع محيطها وجغرافيتها، وأحيانًا تقدمها الجماعة، فالوعي هو إدراك عميق لحجم هذه التضحيات، وقابلية وفيرة لفهمها وتقبلها، هو خيار يحميك من نفسك، فالوعي يرسم معالم الأولويات، وأدواتها الرصينة في تنزيلها إلى أرض الواقع، وتمتلك به ريشة دقيقة في رسم هذه الأولويات في زمانها ومكانها المناسبين.

الوعي يصنع منك متبصرًا بالواقع ومعطياته ومتنبأ بعواقب كل خياراته وقراراته، هذا التنبؤ الناتج عن وعي المحيط يجعل من صاحب الوعي، الحصن المنيع في حماية الناس من القرارات الخطيرة الفاسدة، لإدراكه لحجم تداعياتها وعواقبها عليهم وعلى مصالحهم الإنسانية، وعلى مصير كراماتهم من خلال مخرجات تحقيق العدالة، فلا يصنع الوعي من الشخص الواعي إلـهًا ومرجعية لتقييم الحقيقة، ومرجعية للقيم يُقَيّم فعل محيطه وفقها، بل يفتح له آفاقًا على كل فعل وقول حوله، فإن كان فعل حق وقول صدق، فقد يكسبه ذلك وعيًا جديدًا ويراكم فهمه للحقيقة، وإن كان فعل باطل وقول زور كذب، فإنه يدفعه لمراجعة ما لديه من سلوك ومعارف، ليرى هل ارتكب ذات الفعل، أو تفوه بذات القول، فهو بوابته لنقد ذاته ومراجعتها. وفي كلا الحالتين هو في ساحة علم وتعلم، وفي مسير متواصل نحو الكمال والتكامل، لأنه ليس كاملاً، بل يسعى دومًا للكمال.

 

المُصْلِح وقطب الرحى

قوة المصلحين الفكرية والفلسفية، وقدراتهم الإبداعية، تصبح بعد رحيلهم أو في وجودهم إما عبأً على أتباعهم ومن يخلفهم، أو نوافذ تفتح أبواب معرفة.

وينقسم أتباع مدرسة هذا النوع من المصلحين بعد ذلك، إلى أقسام عدة أهمها:

 ١. الإفراط في تبني الأفكار، وبالتالي التشدد، من خلال أخذ أفكارها كنص مقدس كما هي، دون محاولة فهم سياقاتها التاريخية، أو وعي مدركاتها ودلالاتها، والعمل على إكمال مسيرتها ونقدها وتقييمها وتطويرها، مما يؤدي إلى نفور جموع الناس منها، بالتالي رفضها ونبذها.

٢. التفريط بهذه الأفكار ومكتسباتها، وحرفها عن دلالاتها، وتطبيقها بشكل ساذج أو سطحي، مما يؤدي إلى ضعفها وتلاشيها.

٣. الاعتدال في فهمها وتبنيها، ومحاولة تطويرها ونقدها وعدم الجمود عليها، ومراكمتها فكريًّا ومعرفيًّا، لتصبح جزءًا من مسار الإصلاح وسياقه، وجزءُا من بناء فضاء النباهة الاجتماعية داخليًّا.

وهذه الأفكار الاصلاحية في حينها، تشكل فضاء البناء الداخلي للأتباع معرفيًّا، وتعتمد هذه التشكيلات على قابلية فهم كل جزء في هذا البناء.

وكلما ابتعدت البنى الداخلية عن مركز الأفكار، تعرضت بنيتها وفضاؤها المعرفي الداخلي للتبدلات والتحولات، حتى تصل في بعض الأحيان إلى تغيير شامل لبنية الأفكار لتتوالد مدرسة فكرية جديدة، لكن نشأت من رحم تلك الأفكار الأم.

والمصلح المفكر إما يُخْضِع السياسيين لإرادته المعرفية، من خلال ما يكتسبه من سمعة معرفية رصينة تمثل قطب الرحى في عصره، ومغناطيس المفكرين والنخب، فتصبح سمعته الفكرية مستقلة عن الخدمات المقدمة له، فيزداد رصيده في المصداقية خاصة في محيطه الاجتماعي والمدرسي، أو أنه يوظف رصيده المعرفي في مدارات السياسيين ليدور في فلكهم، ليصطاد بصنارة أفكاره ما يحقق له مصالحه الذاتية، فتخضع بذلك أفكاره للخدمات المقدمة له، فتفقد استقلاليتها ومن ثم مصداقيتها الاجتماعية والمدرسية.

 

المصلح والاستحواذ الحركي

الاستحواذ الحركي في مواجهة الفساد، هو فساد بذاته، يمكن للمصلح أن يميز حراكه في مواجهة الفساد عن الآخرين لاختلاف الأهداف والآليات، لكن لا يمكنه أن يستحوذ على الحراك، بحجة الإصلاح، ويستحوذ على الحق بأنه الأحق به، كما لا يمكن لمصلح حقيقي يثور على الوضع الفاسد، أن يبرر هتك كرامات وانتقاص حقوق خصومه المتورطين في الفساد، فالبينة على من ادعى، ولهم الحق في محاكمات عادلة حتى في لحظات الثورة، فمن الفساد أيضًا الظلم، بل هو أشد أنواع الفساد، ولا يمكن للعدالة أن تتحقق بفساد الأدوات والطرق.

ولا يمكن لمصلح حقيقي ثائر يطلب تغيير الوضع الفاسد، بأن يرتكب جرائم قتل عشوائية بمن كانوا في النظام الفاسد، بحجة تثبيت دعائم الثورة، ولا يمكن التوسل بالفوضى واستخدام سذاجة الناس وعفويتهم، أو استغلال جوعهم وفقرهم في مواجهة الفساد القائم، واستعمالهم كوقود للمواجهة والمعركة ضد الفساد والاستبداد، وتعريضهم للقتل أو السجن دون أن يدركوا تبعات مشاركتهم وخياراتهم لذلك، ودون أن تبذل جهدًا في شرح الواقع لهم وتبعات الحراك، وحجم التضحيات المطلوبة، حتى يكون لهم حرية وإرادة الاختيار.

لذلك الثورات النظيفة لم تبق غالبًا وتنتصر بالمفهوم المادي للانتصار، وإن حققت نصرًا استراتيجيًّا من خلال تثبيت منظومة القيم والمعايير لتصبح مرجعية معيارية من جهة، ومنهجًا يشكل نموذجًا من جهة أخرى.

على سبيل المثال الثورة الفرنسية مرت بمراحل عديدة، لكنها تسلقت على جثث أبرياء، وتعرضت كثير من معالم باريس للسرقة والتلف، بل بعض الثوار القياديين تورطوا أيضًا بالفساد، بل ينقل التاريخ إعدام قيادات الثورة لبعضهم البعض تحت شعار الفضيلة والإرهاب، فكان ينقل عن ماكسيل أحد منظري الثورة القانونيين أن الفضيلة بدون إرهاب ضعف، والإرهاب بدون فضيلة ديكتاتورية، هذا فضلاً عن حجم الضحايا الكبير من عموم الناس الفقراء والجوعى الذين سقطوا في معارك الثورة دون وعي منهم للتبعات. لكنها نجحت في النهاية من التخلص من الحكم الملكي، الذي اعتبر طاغوتيًّا، بل تعتبر الثورة الفرنسية الثورة التي غيرت وجه أوروبا.

لكن وفق معايير نجاح الثورات وقيامة دول حقيقية، هل فعلاً فرنسا تخلصت من الديكتاتورية؟ وهل فعلا تحققت العدالة؟ إن حركات التغيير والإصلاح لا يمكن أن تنجح وفق معايير النجاح الحقيقية، إلا إذا تأسست على قاعدة ومنظومة ثابته من المعايير والمبادئ القيمية والأخلاقية، وجعلت مقاصدها العليا: حرية، عدالة، كرامة.

فالحرية لا يمكنها أن تحقق العدالة إلا إذا انضبطت هي بميزان العدالة، وتحرر الناس من كل أنواع العبوديات وأهمها عبودية الذات والشهوات، والعدالة لا تتحقق إلا إذا حققت الكرامة للجميع.

أما المساواة فهي فرع من فروع العدالة المنضبطة بها، لأن ليس كل مساواة تحقق العدالة، بل تكون في أحيان كثيرة، هي الظلم بعينه.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد