مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الاعتقاد بالجبر، وبالمسائل الأخلاقيّة

لا شك أنّه يوجد ارتباطٌ وعلاقةٌ وثيقةٌ، بين الاعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان، و«المسائل الأخلاقيّة»... وإنّ نفي حريّة الإنسان، هو نفيٌ وتعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة.

وبناءً على هذا نجد أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية وتهذيب النفوس والأخلاق، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!. وبناءً على هذا أيضاً، نجد في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ تبلغ المئات، تثبّت الاختيار وحريّة الإرادة للإنسان، وتنفي الجَبر عنه....

 

فالأمر والنّهي والتّكاليف الأخرى، والدّعوة إلى الثّواب والعقاب، والحساب والمحاكم والقوانين والعقوبات، كلها أمور تؤكّد على مسألة الاختيار، وحريّة الإرادة عند الإنسان.

وإذا ما شاهدنا بعض الآيات تُوافق مذهب الجَبر، فهي ناشئةٌ من عدم الانتباه والتّوجه الصحيح لتفسير تلك الآيات، فتلك الآيات ناظرةٌ إلى نفي التّفويض، ولا تثبت الجبر، والشّاهد عليها هو القرآن الكريم نفسه....

 

فالاعتقاد بالجَبر، وسلب حريّة الإنسان، يمكن أن يكون عاملاً مهمّاً، لكلّ تحلّل أخلاقي، فالمجرم ولتبرير أفعاله المشينة يتذرّع بالجَبر، وأنّه لا يستطيع أن يُغيّر مصيره المحتوم عليه، ولذلك يتحرّك في خطّ الانحراف، وينحدر في مُنزلقات المعاصي أكثر، فالتّاريخ يُحدثنا عن مجرمين خاضوا غمار الجريمة، استناداً إلى مُبّررات مذهب الجَبر، وكانوا يعذرون أنفسهم، في ارتكابهم لتلك الأعمال والذّنوب، ويقولون: (إذا كنّا صالحين أو طالحين، فليس لنا من الأمر شيء، فالمبدع الأزلي هو الذي زرع فينا ذلك، وجعل مصيرنا أن نكون من أهل الشّقاء! فلا المحسنون لهم الحق بالافتخار بإحسانهم، ولا على المسيئين ملامة!).

وبناءً على ذلك، فقد تحرّك الأنبياء عليهم ‌السلام، قبل كلّ شيء لتوكيد الإرادة الإنسانيّة، وخصوصاً نبيّ الإسلام صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله، ولأجل تحكيم الأسس الأخلاقيّة وتهذيب النّفوس....

 

أمّا الذين يتحركون من موقع اللّذة، ويعتبرونها من أهمّ القيم، فهؤلاء لا يعتبرون الأخلاق من الـمُثل النّبيلة والسّلوكيات الحسنة، لأنّها لا تُوافق أصولهم ، وكما قال «آريس تيب»، الذي وُلد قبل الميلاد: الخير هو اللّذة، ولا شرّ سوى الألم، والهدف النّهائي للإنسان في الحياة: هو الّتمتع بلذائذ الدنيا، ولا يجب التّفكير بنتائجها الصّالحة أو السيئة) (1).

هذا وقد غاب عن أولئك، أنّنا وعلى فرض حصرنا اللذائذ في الماديّات فقط، وتركنا اللّذائذ المعنويّة الّتي هي أعلى وأسمى لذّةٍ للرّوح، فلا يمكن الوصول للذائذ الماديّة إلّا برعاية الأخلاق، وذلك لأنّ الّتمتع والالتذاذ بالشّيء، من دون قيد أو شرطٍ، يعقبه ألم شديد على مستوى النّفس والبدن، ولأجله يجب أن نصرف النّظر عن تلك اللذّة التي يعقبها ألم أقوى وأشد.

 

وهذا الكلام وإن كان قد صدر، ممّن يُعتبرون في عداد الفلاسفة، ولكنّه في الحقيقة يشبه كلام المعتاد على الأفيون، الّذي إذا نصحوه قالوا له: إنّ لذّتك هذه ستسبب لك المتاعب والآلام العظام، فيجيب: إنّ اللّذة الحاضرة هي الأصل، ولا يعلم ماذا سيكون في الغد، ولكن الذي ينتظره في الغد، ليس سوى المرض العصبي، والإرهاق والقلق، وما إلى ذلك من إفرازات الإدمان على تلك المواد المخدّرة، وسيعيش النّدم الشّديد في تلك الحال، ويتأسف على ما اقترفته يداه، ولكن أنىّ للتأسّف أن يحلّ المشكلة، وقد أغلق عليه سبيل العودة إلى الحريّة والكرامة كما هو الغالب.

 

فالوصايا الأخلاقية، للحثّ على العفّة والأمانة والصّدق والرجولة، كلّها من هذا القبيل، والمجتمع الذي تتفشى فيه الخطيئة والخيانة، كيف يعيش أفراده حالة اللّذّة المعنويّة والسّعادة، في حركة الحياة والواقع الاجتماعي؟ فالناس الّذين ملأ البخل وجودهم، ويطلبون كلّ شيءٍ لنفعهم ولذّتهم الشّخصية، لا تكون لديهم حصانةٌ أمام المشكلات، وسيكونون عرضةً للتّمزق والتشرذم، لأدنى أزمةٍ على مستوى الحياة الدنيويّة، لأنّ الفرد في ذلك المجتمع يكون وحيداً فريداً، والصّمود أمام المشكلات، لمن يعيش الوحدة والانفراد، أمرٌ في غاية الصّعوبة، ولكن إذا تفشّت روح التّعاون والسّخاء والرجولة في المجتمع، فسينطلق الناس من موقع مساعدة بعضهم البعض، وعندما يقع أحد الناس في مأزقٍ، فسيعينه الآخرون، فلا يشعر الفرد بالوحدة هناك، بل سيجد في نفسه عنصر المقاومة والصّمود أمام المشكلات والأزمات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). علم الأخلاق أو الحكمة العمليّة ، ص 243.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد