رغم الجهود الذي يبذلها أصحاب النزعة المادية لتصوير بنية الإنسان على أنّها شبيهة بالماكنة، إلّا أنّ التحقيقات والدراسات ولا سيّما على الأصعدة النفسية للإنسان تدل على البون الشاسع بين هاتين البنيتين حتى أن البعض تناسى مثل هذا التشبيه.
فإحدى خصائص الإنسان ومميزاته هي تعذر مواصلته لحياته ما لم يكن له هدف وعقيدة، أو بعبارة أخرى دون أن يستند إلى آيديولوجية، والحال لا تحتاج الماكنة في إدامتها لحركتها لفكر أو آيديولوجية.
هذه أبرز خاصية من خصائص الإنسان، بحيث لو تخلينا عن التعريف المنطقي المعروف للإنسان بأنّه «حيوان ناطق» وقلنا الإنسان حيوان متفكر وصاحب عقيدة، لكان هذا التعريف أتمّ وأشمل، وإن استندت تفسيرات الفلاسفة بشأن النطق إلى مسألة الفكر والإدراك، على كل حال كما يحتاج جسم الإنسان إلى الماء والغذاء، فإنّ ماء الروح وغذاءها هو الفكر والعقيدة، ومن هنا يشعر كل إنسان بحاجته الطبيعية إلى امتلاك أسلوب من التفكير واتباع مدرسة فكرية، وإلّا فهو يشعر بداخله بفقر مخيف دون ذلك.
وعليه فإن تعذر عليه الظفر بالمدرسة الفكرية الصحيحة، اضطر إلى ملء هذا الفقر بما شاء من الأوهام والخرافات والأساطير، وهذا هو السر في تهافت الأقوام المتخلفة على الخرافة والوهم، والخلاصة فهذه الحاجة، هي حاجة طبيعية ومسلمة.
ويمكن تشبيه حالة انعدام العقيدة بالنسبة للإنسان بحالة الخفة وانعدام الوزن، حيث تفيد الدراسات الفضائية أنّ الإنسان الفضائي لا يستطيع السيطرة على نفسه حين انعدام الوزن، أي أنّ أدنى حركة تقذفه هنا وهناك، بل عليه أن يطبق فمه حين تناول الطعام ومضغه وإلّا أدنى حركة للسانه وأسنانه تقذف بما في فمه من طعام خارجاً.
يقال إنّ الشعور الذي يصيب الإنسان في حالة انعدام الوزن كسقوطه في بئر عميق لا نهاية له، لأننا لا نتصور في حياتنا الاعتيادية حالة انعدام الوزن سوى بالسقوط الحر، فالسقوط الحر من مرتفع يفيد حالة من انعدام الوزن، حيث ليس للإنسان أي استقرار حين انعدام الوزن، ولعل هذا هو السبب الذي يدفع بعلماء الفضاء لأن يجدّوا في تزويد رواد الفضاء بنوع من الوزن الاصطناعي من خلال إيجاد الحركة الدورانية والقوة الطاردة المركزية بهدف مضاعفة استقرارهم.
والحق أنّ فقدان العقيدة والإيمان والهدف هو الآخر نوع من حالة انعدام الوزن النفسي، فلا يشعر الإنسان بوجود أي سند يرتكز إليه في مثل هذه الحالة، وهو بمثابة من يسقط في بئر عميقة لا متناهية، حيث يعيش الألم الخفي ينهشه من الباطن، وتتقاذفه الأوهام والحوادث مهما كانت تافهة!!
أضف إلى ذلك فإنّ تأثير العوامل والدوافع المختلفة على أفكاره وهو غير مكترث، يجعل منه بمثابة مدينة عزلاء تجاه هجمات الأعداء، ويضاعف ذلك من عدم استقراره.
إنّ الإيمان والهدفية في الحياة كيفما كان، إنّما يختزن الطمأنينة والسكينة ويمنح الإنسان الثقل والوقار ويفسّر له فقدان الثروة وتعرضه للأضرار بما يهدأ روعه ويضيء له آفاق المستقبل، ويملأ حياته بالأمل، ويسبغ عليه القوّة والقدرة، ويدعوه إلى الثبات والصمود.
والذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ نقطة ارتكاز روح الإنسان وفكره إنما يستبطن هذا الأثر ويفيضه عليه بأعلى مراتبه حين يعيش الإنسان نفسه على درجة من الثبات وعدم التزلزل، بحيث لا يعتريها حالة من التغير.
نعم الأهداف المادية وما يدور حول هذا المحور إنّما تفتقر لهذه الخاصية، فمثل هذه الأمور ذاتها بحاجة إلى سند، فأنى لها أن تكون سندًا لأرواحنا وأفكارنا؟ ألبرت أنشتاين نابغة عصرنا ورغم انحداره من أصول دينية، إلّا أنّ مذهبه - على حد تعبيره - يختلف عن سائر مذاهب عوام الناس، فهو يعتقد بأنّ ظهور أغلب الأديان معلول لبعض الدوافع الخاصة ومنها حالات الفقر النفسي للإنسان، وقد بحث في هذا الأمر ليخلص إلى بعض النتائج فقد قال بشأن كيفية ظهور المذهب الأخلاقي (المذهب الذي انبثق إثر الأزمات الاجتماعية، لا إثر مطالعة أسرار الكائنات والخليقة): «الخاصية الاجتماعية للبشر هي الأخرى إحدى تبلورات المذهب الأخلاقي والدين، فالفرد يرى موت والديه وأقربائه والعظماء والزعماء فيتمنى لنفسه الهداية والمحبة والاعتماد على ركن وثيق، ومن هنا يتمهد السبيل أمامه للإيمان باللَّه» «1».
فقد اعترف أنشتاين خلال كلامه دون أن يلتفت إلى ذلك بأنّ الأمور المتغيرة والمتبدلة لا يمكنها أن تكون سندًا لروح الإنسان بحيث يظفر الإنسان بضالته فيها، بل هذا «السند الوثيق للطمأنينة» لا بدّ أن يكون مبدأ ثابتًا يأبى الفناء والزوال وما يفوق بالطبع العالم المادي، وهنا يتضح الدور الذي يلعبه الإيمان بالمبدأ الذي يفوق الطبيعة، المبدأ الثابت الأزلي والأبدي في طمأنة روح الإنسان وإلهامه السكينة والاستقرار.
والطريف في الأمر أنّ أصحاب النزعة المادية أيضًا لم يروا بدًّا من الإذعان لهذه الحقيقة والاعتراف بصحتها ومدى تأثير الإيمان في خلق الطمأنينة، لأننا كما نعلم أنّهم غالبًا ما يكررون هذا الكلام: إنّ الإيمان باللَّه لدى الإنسان وليد الخوف، وهكذا سار «برتراند رسل» على غرار الماديين وقال: «أظن أنّ الخوف أو الرعب هو العنصر المهم قبل غيره في نشأة الأديان، خوف الإنسان من البلاء الطبيعي، والخوف من الأضرار التي يمكن أن يلحقها به الآخرون، إلى جانب حالة الانزعاج التي يعاني منها عقيب ممارسته للأعمال الطائشة التي يفرزها لديه طغيان الشهوات، ثم يضيف قائلًا: بإمكان الدين أن يحد من شدّة هذا الخوف والانزعاج» «2».
فهذا الكلام يفتقر لقيمته الفلسفية، لأننا نعلم أنّ الاعتقاد بذلك المبدأ قبل أن يكون معلولًا للخوف من الحوادث الطبيعية، إنّما هو معلول لإدراك الحوادث المنظمة الدائمية والنظام الكوني البديع الذي يأبى الإنكار، مع ذلك فالكلام المذكور يكشف عن حقيقة وهي أنّ الإيمان بمثل هذا المبدأ من شأنه أن يعين الإنسان على التغلب على الخوف والقلق والاضطراب.
النقطة الأخرى الجديرة بالذكر هي أنّ الشيوعيين الذي ينفون بشدّة قضية الإيمان بالدين والاعتقاد بعالم آخر وراء الطبيعة، ولم يعارضوا الدين بصفته آيديولوجية فلسفية فحسب، بل يرونه عقبة كؤودًا تكمن أمام أهدافهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هم أيضًا لم يستطيعوا التنكر لدور الإيمان باللَّه في تسكين روح الإنسان ومنحه الطمأننية، غاية ما في الأمر أنهم أسبغوا عليه صبغة التخدير لينعتوا الدين بأنّه أفيون الشعوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدنيا التي أراها، ص 55.
(2) نقل ملخص من «العالم الذي أعرفه»، ص 68.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
الشيخ علي المشكيني
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان