مقالات

إلى الذين يزكّون أنفسهم

الشيخ محمد جواد مغنية 

 

قال الإمام علي (ع): "وأيم الله يمينًا، استثنى بمشيئة الله، لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعومًا، وتقنع بالملح مأدومًا".

 

إن رضى النفس بقرص الشعير والملح مع قدرتها على لباب القمح، والعسل المصفى فضيلة في نفسه، وبالقياس إلى غير الإمام، أما بالقياس إلى من عف وكف عن ابن العاص الذي قاد الجيوش إلى حربه والقضاء عليه، وصفح عن مروان بن الحكم، وابن أرطأة، أما بالقياس إلى من سقى أعداءه الماء بعد أن منعوه منه، وحاولوا قتله عطشاء، وأوصى بقاتله خيرًا، وقال لأبنائه: "وإن تعفوا أقرب للتقوى"، أما بالقياس إلى علي بن طالب فإن الرضى بالقرص لا يعد شيئًا مذكورًا.

 

والحقيقة أني لم أفهم معنى لقول الإمام: "لأروضن نفسي" وقوله: "وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى" إلا على سبيل التنازل والتواضع، وهل تميل نفسه إلى غير التقوى حتى تحتاج الترويض والتمرين؟! إن نفسه هي التقوى وميزان الحق، والصراط القويم إلى الله وكتابه وشريعته، إنها نفس محمد (ص) بالذات إلا أنه لا نبي بعد خاتم الأنبياء وسيدهم.

 

إن قلت: إن هذا لا يتفق مع قول الإمام: "وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بخيانتها، وقول: اللهم لا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي من سوء فعلي وإساءتي، ودوام تفريطي وجهالتي، وكثرة شهواتي وغفلتي. وقوله أيضًا: إلهي ومولاي أجريت علي حكمًا اتبعت فيه هوى نفسي، ولم أحترس فيه من تزيين عدوي، كما يتنافى أيضًا مع قول الإمام زين العابدين: ما لي كلما قلت: قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزلت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك". فإن هذا اعترف صريح بأن الإمام مغلوب لا غالب للدنيا وكثرة الشهوات!.

 

الجواب:

أولًا - إن هذا اعتراف بالعبودية لا بالذنب، وتعظيم وانكسار له، والتجاء إليه، وتوكل عليه، وهو ضرب من عبادة الأصفياء، بل من أعلا مراتب العبادة وأنواعها.

 

ثانيًا - إن السر لعظمة العظماء يكمن في تواضعهم واتهامهم لأنفسهم، فهم في خوف دائم من التقصير وعدم القيام بما يجب، ومهما قدموا للإنسانية من جليل الأعمال، وقاموا لله بالعبادات والطاعات، فلا يرونها شيئًا في جنب الله، ويطلبون من أنفسهم المزيد من الجد والاجتهاد، إنهم يعرفون جلال الله وقدرته، وعزته وعظمته، فلا يعظم شئ سواه في أعينهم، وإن عظم، قال الإمام: "إن من حق من عظم جلال الله في نفسه، وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه".

هذا هو شأن العارفين المخلصين أصحاب الهمم والطموح، وشأن الأحرار الذين يملكون أنفسهم، ولا يملكهم شيء، ويتطلعون دائمًا إلى رحمة الله ومرضاته.

 

ثالثًا - إن أهل الصدق والإيمان يسلكون في جميع أقوالهم وأفعالهم طريق الحذر والاحتياط، فإذا تحدثوا عن أنفسهم انتقدوها، واتهموها بالتواني والكسل، بل كثيرًا ما يبلغ بهم الأمر إلى توبيخها وتأنيبها، ولا شيء أثقل عليهم من المدح والإطراء، وقد جاء في الحديث: "احثوا في وجوه المداحين التراب" ومدح أمير المؤمنين قوم في وجهه، فقال: "اللهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلنا خيرًا ممن يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون".

أما الذين يزكون أنفسهم، ويبرأونها من كل عيب فإنهم لا يشعرون بواقعهم، ولا يعرفون شيئًا من داخلهم، وهم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".

 

قال أحد علماء النفس في تعريف الإنسان: "إنه الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يكذب". والأولى أن يقال في تعريفه: إنه الحيوان الوحيد الذي تكذب عليه نفسه فيصدقها، تقول له: إنك صادق أمين، وشجاع كريم، وعالم عظيم، فيقول: أجل أنا كذلك وفوق ذلك، وصدق من قال: "إن في أعماق كل منا يكمن صحفي خداع يلفق الأنباء، ويموه الحقائق، ويختلق الشائعات، ويمزج الحق بالباطل".

 

وبهذا يفترق الصوفي الحق عن غيره، حيث لا يوجد في أعماقه صحفي خداع يلفق الأنباء، ويموه الحقائ ، قال الرشيد لأحد الصوفية: ما أحسن ما بلغني عنك!. فقال له: والله إني لخائف على نفسي من قلة الخوف عليها. وقال رجل للإمام الصادق: أوصني يا ابن رسول الله. فقال له: من شتمك فقل له: إن كنت صادقًا غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك، ومن قال لك: إن قلت كلمة سمعت عشرًا، فقل له: إن قلت عشرًا لن تسمع واحدة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد