يرى الإسلام أن من الواجب علينا أن نرضي ميولنا وغرائزنا، فإهلاك النفس محرّم في الإسلام، وقد أكّد الكثير من الروايات أنّه لا يحق للإنسان كبت ميوله وقتل غرائزه وعدم الاستجابة لها، والقرآن الكريم يوكّد أنّ المسلم مثلما يجب عليه الاهتمام بأمر آخرته، عليه أيضًا أن يهتم بأمر دنياه وميوله وغرائزه : (وابتغ فيما آتاك اللّه الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا) «1».
(فالخطاب هنا هو): يا أيها الإنسان انتفع بما أعطاك اللّه من مال وقوة وعقل وسلامة وأمان من أجل إعمار آخرتك، ولكن لا تنس دنياك، فلا يمكنك البقاء بجانب واحد. فمثلما أنّ الانغماس في الدنيا هو انحراف، كذلك لا تستطيع أن تصرف كل عمرك وعقلك وسلامتك ومالك بالكامل من أجل آخرتك، بل يجب أن تهتم بدنياك وآخرتك معًا.
لقد كانت تظهر لدى البعض هذه التصورات المنحرفة في صدر الإسلام، وكذلك في زمن الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) حيث كان البعض يتوهمون أنّ عليهم أن يسعوا للآخرة ليلاً ونهارًا، ويتركوا الدنيا ولا يهتموا بميولهم وغرائزهم، ولكن هذا النمط من التفكير عندما يعرض على النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) كانوا يدحضونه بغاية الشدة.
نقل صاحب كتاب «الوسائل» رواية تتحدّث عن مجيء ثلاث من النساء إلى النبىّ الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) فشكت له الأولى من أن زوجها قرر اعتزالها، وشكت الثانية من أنّ زوجها قد قرر أن لا يأكل لحمًا، والثالثة من أنّ زوجها قد قرّر عدم استعمال الطيب.
فغضب الرسول الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) غضبًا شديدًا كما تصرّح الرواية لأنّه رأى عودة ظهور أفكار منحرفة بين المسلمين، فذهب إلى المسجد في غير وقته وهو يجرّ رداءه على الأرض لاستعجاله وأمر بجمع الناس، فتركوا أعمالهم وجاؤوا إلى المسجد متسائلين عن الخبر، فصعد (صلّى اللّه عليه وآله) المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمون الطيب ولا يأتون النساء».
وبعد أن أدان هذه البدع قال: «أما إنّي آكل اللحم، وأشمّ الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي، فليس منّي» «2». والجملة الأخيرة مروية عن قول النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) في عشرة موارد. ونقل المرحوم الفيض الكاشاني في تفسيره «الصافي» رواية مماثلة ويفهم منها تكرر وقوع هذه القضية، فقد كانت تنزل آية من آيات العذاب فتثير الخوف لدى هؤلاء، فيعرضون عن الدنيا، ويتوجّهون للآخرة.
ينقل المرحوم الفيض أنّ امرأة جاءت عائشة في حاجة فرأتها «مبطلة» أي: أنها متزوّجة، ولكنّها غير متزيّنة لزوجها، فأنكرت عائشة عليها ذلك، وسألتها هل أنّ زوجها ميت، فأجابتها بالنفي وأخبرتها أنه ذهب برفقة اثنين من أصدقائه إلى الصحراء للتفرغ للعبادة وذلك بعد نزول آية العذاب، وأنّه قد قرر أن يعتزلها فيما قرر أحد صاحبيه أن لا يأكل طعامًا لذيذًا فيما قرر الثالث أن يعتزل الناس.
فنقلت عائشة هذا الموضوع إلى النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) فغضب بشدة لذلك بحيث دخل المسجد وهو يجرّ رداءه، وصعد المنبر وبيّن للمسلمين انحراف هذا النمط من التفكير والسلوك بعبارات قريبة من الحديث المتقدم، فنهى (صلّى اللّه عليه وآله) عن كبت حاجات النفس والامتناع عن الزواج من أجل التعبّد، فهذا إعراض عن سنة النبي (صلّى اللّه عليه وآله)، وليس من أخلاق المسلم الإعراض عنها؛ هذا فيما يتعلق بسنة النبي (صلّى اللّه عليه وآله).
ونجد في سيرة أمير المؤمنين (سلام اللّه عليه) وهو الزاهد الذي سمعنا جميعًا بشدّة زهده أنّه وفي اليوم الأول لوصوله الكوفة دخل مسجدها، فرأى مجموعة من الرجال الأصحاء مشغولون بالعبادة في غير وقتها فسأل عن هويتهم عن سرّ عدم ذهابهم للعمل، فأجابوه أنهم «متوكلون» فسألهم عن معنى ذلك فأجابوا بأنهم رجال تركوا الدنيا فإن حصلوا على شيء أكلوا، وإلّا صبروا واشتغلوا بالعبادة في المسجد فغضب (عليه السلام).
وعلى وفق ما ورد في كتاب «أسد الغابة» عمد إلى تعنيفهم، وقال: «لا بل أنتم المتأكلّة، فإن كنتم متوكّلين فما بلغ بكم توكلكم؟! قالوا: إذا وجدنا أكلنا وإذا نفدنا صبرنا، فقال (عليه السلام): «هكذا تفعل الكلاب عندنا» ثم أخرجهم من المسجد «3».
وبعد تسلّمه الخلافةكما يبدو دخل البصرة، ونزل في منزل أحد وجهائها، واعترض على ميله إلى الترف، فعمد هذا الوجيه فرارًا من الجواب إلى التحدّث عن حال أخيه الذي اعتزل الناس، واختار حياة الزهد، وتفرّغ في زاوية للتعبد، فأعرض أمير المؤمنين (عليه السلام) عن انحراف الترف عند الأول، لأنّ انحراف الثاني أخطر، فأحضره وسأله عن سبب تركه الدّنيا، فأجابه: «يا أمير المؤمنين تزينت بزينتك، ولبست لباسك».
فرفض (عليه السلام) هذا المنطق، وقال له: «ليس لك ذلك، إنّ إمام المسلمين إذا ولي أمورهم لبس لباس أدنى فقيرهم لئلّا يتبيّغ بالفقير فقره فيقتله، فلأعلمنّ ما لبست إلا من أحسن زيّ قومك، وأما بنعمة ربّك فحدّث فالعمل بالنعمة أحبّ إلي من الحديث بها» «4». فأمره بعدم ترك الدنيا ومراعاة الحدّ الوسط وتهيئة معيشة مرفهة لنفسه وعياله.
وقد أورد الحرّ العاملي في الجزء الثاني عشر من «وسائل الشيعة» الكثير من الأحاديث عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في ذمّ الكسل ومدح العمل. جاء شخص إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فسأله الإمام عن حاله، فأجابه بأنّه قد تقدّم به العمر، فترك العمل، واختار زاوية في المسجد للعمل لآخرته. وكان يتوهم أنّ هذا الموقف سيحظى بتأييد الإمام ورضاه، لكنّه (عليه السلام) أجابه مكررًا ثلاث مرات: « (هذا) عمل الشيطان».
فهذا عمل لا يناسب الإنسان المسلم، بل هو نتاج إغراء الشيطان الذي وسوس لك بترك الدنيا والتعبّد؛ وبعد أن سمع هذا الشخص جواب الإمام سأله عن الموقف الصحيح الذي ينبغي له العمل وفقه فأجابه (عليه السلام) موضحًا له ضرورة العمل للتوسعة على العيال والجيران والآخرين، ثم نبّه الحاضرين إلى أنّ الحثّ على العمل مشروط في الطرف المقابل بالمحافظة أيضًا على أوقات العبادات، فإذا حان وقت الصلاة، فلا ينبغي لهم أن يلهيهم الانشغال بالكسب عنها.
وأنقل هنا كلمة وردت في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) ينبغي أن تكون إطار العمل الذي يحيا على وفقه الجميع ولا سيما الشباب الأعزّاء - ذكورا وإناثًا فقد وصفوه (عليه السلام) بأنّه ليث في النهار وراهب في الليل. فهو كان يعمل في نهاره باندفاعة الليث، ويتعبّد في الليل وكأنّه راهب، كان يقوم بالعبادة في وقتها وفي وقت العمل يعمل بما مكّنه من تقديم ستّ وعشرين من بساتين النخيل للمجتمع والفقراء والضعفاء والمساكين - على مدى خمسة وعشرين عامًا.
وحصيلة القول هي أنّ على الجميع ولا سيّما الشباب أن يعلموا أنّ ليس من الإسلام في شيء إهلاك النفس والعزلة عن الناس وقتل الغرائز والميول ومكافحته، بل إنّ نهج الإسلام هو الاستجابة للميول (الفطرية)، والعلم (الحديث) يوضح لنا جيّدًا عظمة وسموّ الأحكام الإسلاميّة، إذ إنّ علماء النفس يقولونكما أنتم تعلمون والتجربة أكدّت ذلك إنّ الشابّ الذي يستطيع الزواج ولا يفعل أو الفتاة التي تستطيع الزواج ولا تفعل أو الذين يعتزلون ويتركون الدنيا، هؤلاء تنتقل ميولهم الطبيعية هذه من دائرة الشعور إلى دائرة اللاشعور بصورة تدريجية وتتحول إلى عقدة نفسية، والمصاب بالعقد النفسية إذا تسلّط يصبح أشرس من الكلب الوحشي.
وإذا لم يحصل على القدرة والسلطة يصير إنسانًا خامًلا ميّت القلب خاويًا معنويًّا وليس ماديًّا، بمعنى أنّه يكون عاجًزا عن الاختلاط بالناس، فيطرد من المحيط الاجتماعي ويعجز عن تربية الأطفال، وعن المعاشرة الصحيحة مع الزوج وإذا تزوج سبّب المشاكل له ولزوجته، وإذا كانت فتاة خاملة ميتة القلب، فمن الطبيعي أنّها لا تستطيع تربية الأطفال والقيام بالواجبات الزوجيّة بصورة صحيحة.
والقرآن الكريم لا يذكر «العقدة النفسيّة» بالاسم، إلّا أنّه يتحدّث عنها. فالذين تموت عندهم غريزة التوجّه نحو الدين وتصبح قلوبهم قاسية بسبب المعاصي، هم مصداق لقوله تعالى: (إنّ شرّ الدّوابّ عند اللّه الصّمّ البكم الذين لا يعقلون) «5» أي أنهم أخبث وأضر للمجتمع من الكلب المتوحّش والميكروبات الطفيلية والسرطانية.
وهذا هو حال الذي له فكر لكنه لا يفكّر، وله عقل لكنه لا يتعقّل، أو الذي ماتت فطرته، وموت الفطرة يعني تارة أن يقتل الإنسان غريزته الجنسية، وتارة غريزة التدين فيه، فلا فرق، لأنّ نتيجة هذا القتل في كلا الحالتين هو ظهور عقدة الحقارة لدى هذا الإنسان، يقول القرآن عن الذين ظهرت فيهم عقدة الحقارة وقتلوا فطرة التدين: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام، بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون) «6».
وعاقبة عمل هؤلاء هي جهنّم، فقد قتلوا فطرة التدين ودمّروا الفطرة التي وهبها اللّه لهم، وقتل فطرة التديّن هو ذنب كبير، كما أنّ تجاهل غريزة الجنس والميل إلى الأكل وغريزة الحياة المدنية الاجتماعية ينقلها من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور ويوجد عقدة للإنسان لا ينصلح حاله معها أو يكون صلاحه في غاية الصعوبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). سورة القصص / 77.
(2). تجدها في كتاب وسائل الشيعة ص 74 ج 14 وقريب من مضمونها روى الحرّ العاملي فيج 12 من الوسائل عدّة روايات أخرى.
(3). راجع ميزان الحكمة للشيخ محمدي الريشهري ج 10 ص 686، وما ذكر الشيخ في المحاضرة ضمن عرضه لترجمة الرواية هو أنهم وصفوا أنفسهم بــ «رجال الحق» وما وجدناه في المصدر المذكور هو أنهم وصفوا أنفسهم بأنهم «المتوكلون».
(4). كتاب الاختصاص للشيخ المفيد ص 152، وفي سفينة البحار ج 2 ص 258 أنه قال لعاصم بن زياد (وقد ترك الدنيا ولبس العباءة: «يا عديّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك».
(5). سورة الأنفال / 22.
(6). سورة الأعراف / 179.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة