مقالات

الاتصال بالأرواح العالية

 

الشيخ الشهيد مرتضى مطهري ..

بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) صدق الله العلي العظيم [الفجر: 27ـ28] اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك..

 تشرح لنا هذه الآية المباركة أمراً وهو أن الغرض من دعوة الأنبياء وانزال الكتب السماوية وصول الإنسان إلى مرتبة الاطمئنان والرضا والتسليم الذي هو أعلا المراتب التي يمكن للإنسان أن يصلها خلال هذه الأيام المعدودة، وعندما يصل إلى هذه المرتبة يتصل بالأرواح العالية وعلى رأسها محمد وآل محمد.

ولأجل أن يتضح الموضوع أكثر نتوجه إلى عبارات من زيارة أمين الله لتتوضح النفس المطمئنة أكثر.

 

 زيارة أمين الله، جامعة ومهمة

أول حاجة تطلب "اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك"... هذه الزيارة الشريفة  "أمين الله" مع أنها مختصرة ولكنها واقعاً جامعة ومن أفضل الزيارات.

أحد الأشخاص المؤمنين يسأل: كيف تكون زيارة أمين الله أفضل من جميع الزيارات مع أنها لا تتجاوز صفحة واحدة لا أكثر.

فقلت له: إنها من حيث الكمية وإن كانت قليلة، ولكن أنظر إلى كيفيتها، هذه الزيارة الشريفة إذا قصد أحد التوجه بها وكان طالباً لهذه المقامات فإن جميع النعم المعنوية تطلب في ضمن هذه الزيارة.

 

 خلاصة من الزيارات المطولة

إذا عرف الإنسان الإمام بصفة "أمين الله" يكفي ذلك أن يخاطب الإمام عن اعتقاد ويقين ويقول: أنت القيم على خزائن الله، كل ما يصل إلى العالمين إنما يصل بواسطتك.. أن يصدق بهذا المعنى.

"أشهد أنك جاهدت في الله حقّ جهاده.. وعملت بكتابه.. واتبعت سنن نبيه".

قصدي هو أهمية هذه الزيارة من ناحية الكيفية، فلو استطاع اظهار هذه الحقائق عن حضور القلب فهذه الأسطر القليلة تعادل عدة صفحات من الزيارة وهي خلاصة لتلك المطالب المفصلة.

 

 اطمئنان النفس أول الحاجات

(اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك)

يطالب بأعلى درجة.. مقام سلمان وأبو ذر، حتى يصل مقامه إلى الاتصال بالنفس الكلية الإلهية، محمد وآله عليهم السلام.

النفس في هذه الآية... هي الحقيقة الإنسانية التي يكون الجسد وسيلة لاجراء أوامرها، هي التي تشير إليها "أنا" وتقول أنا ذهبت، أنا قلت.. أنا فعلت.. إشارة إلى الذات والحقيقة.

المطمئنة أيضاً من الاطمئنان بمعنى القرار والسكون والذي هو ضد الاضطراب والتزلزل.. فالإنسان يبقى مضطرباً حتى يصل إلى الاطمئنان.. الاضطراب في أي شيء؟

 

 شرح الموضوع

الاضطراب في الاعتماد على الأسباب المادية

الإنسان الذي لم يعرف الله لحد الآن ولم يصل إلى مقام اليقين، فقلبه مضطرب في أي مقام كان أو مرتبة. فهو يعتمد في أموره المعاشية على الأمور المادية.

فهو مثلاً يرى كيف أن بعض الشباب يدرسون ويتعبون حتى يحصلوا على درجات أكثر ويأخذوا ورقة باسم الدبلوم أو الدكتوراه فعندما يرى أن هذه الورقة هي السبب في استخدامه في الإدارة وحصوله على الأموال فهو مضطرب وقلق دائماً خوفاً من عدم حصوله على الدرجة اللازمة.

أو الكاسب الفلاني نجده قلقاً خوفاً من التضرر بهذه المعاملة.. الجميع قلقون بهذا الشكل، فاللسان يقول "لا إله إلا الله" ويقرأ القرآن ويقول بأن الأمور بيد الله ولكن قلبه لم يصدق بذلك بعد.

والسبب في ذلك أنه لحد الآن يرى للأسباب المادية استقلالا.. يقول أن الخالق هو الله.. المدير والمدبر هو الله.. ولكن حاله حال الكفر، يعني أن يعتقد بأنه يحمل ثقل المعيشة على كتفه. يتخيل أنه فقط بهذه الأسباب يمكن إدارة الأمور وتدبيرها.

يرى لنفسه وللآخرين استقلالاً ذاتياً لذلك نراه قلقاً عندما يرى مستقلاً لوحده بدون حماية أو استناد، لأن الأسباب لا تتفق مع مزاجه دائماً، فكم من الأحايين يبتلى الشخص بفراق هذه الأسباب أو الخوف من فقدانها فينهار ويتحطم نهائياً.

 الاعتماد على المال والأولاد.. كفر حقيقي

فمثلاً كان لديه أموال ويتصور أنها هي التي تسير حياته، وقد فقدها الآن، فكأن الدنيا قد وصلت إلى نهايتها، يحتويه الهم والغم، ولو رأى أحد صورته الملكوتية لرأى الكفر الحقيقي وكأنما ليس له إيمان بالغيب. فالآن وقد فقد سببا من الأسباب فكأنما فقد كل شيء.

كان لديه أولاد، وكان يأمل أن يكبر ولده ويعينه في كبره، فعندما يموت سوف يفقد هدوءه ونرى عليه الفزع والجزع بهذا الشكل.

 انتحار بسبب القلق

قد يصل انهياره من أجل فقدان السبب في بعض الأحيان بحيث لا يرى لنفسه أي أمل، وينتحر.

الشاب الفلاني ينتحر لأنه لم يقبل في امتحان البكالوريا، لأنه يرى أن حياته معلقة في رقبته، فكانت عينه على هذا السبب فقط ولم يصل إليه الآن لذلك يقطع أمله بالحياة وينتحر.

وهذا هو الكفر الحقيقي (قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور). [الصف: 13]. فهو قلق ومضطرب لأنه يفتقد الاطمئنان بالله.

 طلب الاطمئنان عند قبر ولي الله على كل حال فالإنسان مادام لم يصل إلى حد الاطمئنان فهو في قلق في أية مرحلة كان.

أكبر نعم الله الإيمان الكامل "اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك" إلهي أنا جئت عند قبر وليك أطلب منك أن تمن عليّ بنعمة اطمئنان النفس... يا أمين الله، يا من بيده خزائن الله أنت كن وسيلتي إلى ذلك.

ما لم يصل إلى الاطمئنان فهو في كفر واقعي، إيمانه بالأسباب وليس بمسبب الأسباب، الشخص الذي يصل إلى حد الاطمئنان بخالقه يصير بحيث إذا فقد جميع الأسباب الظاهرية فسوف لا يفقد هدوءه لأنه لا يرى نفسه لوحده وإنما له مولى.

 

 خزائن مولاي مليئة

ولأجل توضيح المطلب نضرب لذلك مثالاً:

يقول مالك الدينار أو شخص آخر بأن علة انتباهي هو حادثة وقعت في زمان، أصاب مدينتنا القحط وكان جميع الناس في قلق شديد وحالة مؤلمة يقول: انه في تلك الحالة والناس جميعاً في قلق وخوف رأيت غلاماً ضاحكاً مستبشراً وهو غارق في عمله:

فقلت له كيف أراك ضاحكاً وكأنك لا تعلم بأن الجميع في وضعية يرثى لها؟

فقال: إن خزائن مولاي مليئة بالطحين فأنا لست حزيناً، فخزينة سيدي مليئة!

فوراً تنبهت إلى أن حالة هذا الغلام مع مولاه الظاهري بهذه الصورة، فقلبه قوي بخزينة مولاه وهو غير مضطرب أو قلق فيا ليت كنت كذلك مع مولاي الحقيقي يوماً واحداً وأقول أن عندي إلهاً، فأنا أمتلك كل شيء فخزينة ربي مملوءة دائماً.

فلو ضاعت الأموال فسأقول بأن لي رباً، فالهي قوة لقلبي، وليس قدرتي.

 

 الأولاد لهم رب أيضاً

بعض الأحيان يقول ماذا أصنع وعندي عشرة أفواه تطلب الطعام.. أتعتقد أن مسؤولية المعاش ملقاة على عاتقك؟

الطفل مال الله، وأنت أيضاً مال الله "وكل من أعطى الأسنان فهو يعطي الخبز".

فهو حزين لأنه يفكر، كيف سيكون حال أولادي من بعدي؟

هو أيضاً له رب وبيده أمره، فلا حاجة لأن يعتصرك الألم من أجله، كل هذه المخاوف والآمال المادية واضطراب القلوب كفر وانقطاع عن الله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد