مقالات

معنى (الدعاء الملحون)

الشيخ مرتضى الباشا

 

روى ابن فهد الحلي (رحمه الله): قد ورد عن أبي جعفر الجواد (ع) أنه قال: ما استوى رجلان في حسب ودين قط، إلا كان أفضلهما عند الله عزّ وجلّ آدبهما. قال: قلت: جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي والمجالس، فما فضله عند الله عزّ وجلّ؟ [أي أنّ السائل يعرف معايير ومقاييس الفضل الموجودة عند الناس، ولكنه يسأل الإمام عن معايير ومقاييس الفضل عند الله سبحانه]. قال (ع) : بقراءة القران كما أنزل، ودعائه الله عزّ وجلّ من حيث لا يلحن، وذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عزّ وجلّ. (المصدر: عدة الداعي ونجاح الساعي: 18).

والظاهر الأولي للحديث أنّ الدعاء الملحون هو الذي يحوي أخطاءً نحوية وصرفية، فيكون المعنى حينئذ أن الدعاء الذي يحتوي على أخطاء نحوية وصرفية لا يصعد إلى السماء ولا يستجاب.

 

وقد أشكلوا على هذا الفهم الأولي بأمور:

1: نشاهد كثيرًا من أهل الصلاح والورع ومن يرجى إجابة دعائهم، لا يعرفون شيئًا من النحو والصرف. وقد شهدنا استجابة الكثير من الدعاء المكسّر من الناحية اللغوية.

 

2: كثير من الناس لا يتقن قراءة الدعاء وهو مشكّل بالحركات أمام عينيه، فكيف سيكون الوضع بالنسبة للأدعية غير المشكّلة بالحركات، يمكن أن نقطع بأنّ الغالبية ممن سيقرأون تلك الأدعية – لا سيما الطويلة- سيقعون في اللحن اللغوي، وبالتالي لا يصعد دعاؤهم – حسب هذا الفهم- ولا يستجاب ولا يثاب. فهل يعقل أن تكون استجابة الدعاء مخصوصة بمن يتقن النحو والصرف؟!

 

3: اشتغال الداعي حالة الدعاء بالنحو والحركات ربما يسلب منه الخشوع والتوّجه القلبي والروحي إلى الله تعالى، فيكون الانشغال بالإعراب والضمة، والفتحة.

 

4: بعض الأدعية فيها ألفاظ وكلمات لا نعرف معناها، ومع ذلك نثاب عند قراءتها. والجهل بمعنى الكلمة والجملة أعظم من الجهل بحركاتها.

 

محاولات لتفسير الحديث، بمعنى آخر يختلف عما سبق:

المحاولة الأولى: الدعاء الملحون هو دعاء الإنسان على نفسه في حالة انفعاله أو ضجره. قال الله تعالى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) يونس: 11. مثلاً: عندما يغضب بعض الناس يدعو فيقول: (الله يأخذ روحي وارتاح منكم) أو (الله لا يسامحني لأني فعلت كذا). فهذه أدعية غير مستجابة.

 

المحاولة الثانية: الدعاء الملحون هو دعاء الوالدين على الولد حال الضجر أو الانفعال. قيل: سأل النبي (صلّى الله عليه وآله) ربّه عزّ وجلّ: أن لا يستجيب دعاء محب على حبيبه. وبناء على ذلك: دعاء الوالدين حال الانفعال، هو دعاء غير مستجاب. ولكن من جهة أخرى روي في الحديث: (اتقوا دعوة الوالد فإنّها ترفع فوق السحاب، واتقوا دعوة الوالد فإنّها أحد من السيف). (المصدر: عدة الداعي ونجاح الساعي: ١٢٢).

 

المحاولة الثالثة: الدعاء الملحون هو الدعاء غير الجامع لشروط الاستجابة.

 

المحاولة الرابعة: إنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عزّ وجلّ أي لا يسمعه ملحونًا، بل يصعد بعد التعديل والتصحيح من الملائكة، ويجازى الإنسان على قصده من دعائه، وليس على الإلفاظ التي نطق بها من غير قصد.

 

شاهد على هذه الفكرة:

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلّى الله عليه وآله): إنّ الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية، فترفعه الملائكة على عربية. (المصدر: الكافي ٢: ٦١٩). وبناء على هذه الرواية وبعض الروايات القريبة منها، فمن يقرأ القرآن الكريم وهو لا يستطيع أن ينطق الحروف بشكل صحيح، فهو لأنه غير عربي لا يستطيع أن ينطق (الطاء) ويتلفظ بها (تاء) ومع ذلك إذا قرأ القرآن الكريم، فإنّ الملائكة تكتب له في صحيفة أعماله القراءة بطريقة صحيحة غير ملحونة.

 

مثلاً: هو يريد أن يقرأ (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). ولكن لسانه لا يستطيع التلفظ بالطاء، فيقول (تا ها) تكتب له في صحيفة أعماله بالطريقة الصحيحة (طه). كما سمع من بعضهم يقول عند زيارته المعصوم (عليه السلام): (وأشهد أنك قتلت وظلمت وغصبت) بفتح أول الكلمة. بدل (قُتِلتَ) يقرأها (قَتلتَ). وبدل (ظُلِمتَ) يقرأها (ظَلمتَ). وبدل (غُصبت) يقرأها (غَصبتَ). فانقلب المعنى، ومع ذلك فهذا المسكين لا يعاقب دنيويًّا بتهمة الإساءة للمعصوم، ولا يُحرم الثواب الأخروي لنيته وبذل جهده.

 

وبناء على ذلك:

صحة الدعاء من الناحية الصرفية والنحوية، هذا ليس شرطًا في قبول الدعاء وحصول الثواب، ولكنه شرط للكمال والإتقان. لا سيما إذا كان الدعاء المقروء من المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام) فيكون إتقان القراءة فيه تعظيم لمكانة المعصوم وكلامه، وفيه إظهار لفضيلة المعصوم وبلاغته. كما أن الأخطاء في قراءة الدعاء لا سيما الكثيرة والفاحشة، ربما تؤدي إلى نفور الآخرين من الاستماع، وعدم تفاعلهم معه أساسًا.

 

قيل: سمع الأعمش رجلاً يتكلم ويلحن في كلامه، فقال: من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم؟

وروي أنّ رجلاً قال لرجل: أتبيع هذا الثوب؟

فقال: لا عافاك الله.

فقال: لقد علمتم لو تعلمون، قل: (لا، وعافاك الله).

 

5: وأضيف لما تقدّم:

بعض الأحيان تقع أخطاء في التكلم واللسان، إذ يريد المتحدّث أن ينطق بكلمة أو جملة، فينطق بغيرها. مثلاً: تريد نداء ابنك (محمد) فينطق لسانك (يا علي). وربما أردت أن تقول (عليه السلام- أو رحمه الله) فتقول بدلاً عن ذلك (لعنه الله). أو تريد أن تترحم على أحد الموتى، فينسبق إلى لسانك (حفظه الله) بدل (رحمه الله). ويحتمل أن يكون هذا هو المقصود من الرواية، أو يكون بعض المصاديق والتطبيقات للدعاء الملحون.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد