مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

التعليم لأجل صناعة أبناء الآخرة

إن أردنا أن ننسجم مع رؤيتنا الكونية للوجود والمصير، ينبغي أن يكون للحياة الآخرة حضور أقوى في المناهج المدرسية، يتناسب إلى حدٍّ ما مع محوريتها وأولويتها. فكيف يمكن أن نعدّ الطالب المدرسي ليكون من أبناء الآخرة بدل أن يكون من أبناء الدنيا امتثالًا لقول أمير المؤمنين عليه السلام؟

 

المبدأ الأول الذي ينبغي أن تُبنى عليه مناهج التعليم هو ضرورة إعداد المتعلّم للتعامل مع قضايا الحياة الأساسية بما يتناسب مع أهميتها وتأثيرها ودورها في حياته. ولا شك بأنّ الحياة الآخرة هي القضية الأولى التي تقوم على مجموعة من الحقائق الكبرى، وأهمها:

 

هي الحياة الحقيقية التي يحياها الإنسان، وبتبع ذلك فإنّ الحياة الدنيا مهما كانت ليست بشيء مقارنةً بها.

 

هي المصير الأبدي والوجود الخالد الباقي للإنسان، في حين أنّ الحياة الدنيا زائلة فانية.

 

هي نتاج وثمرة ما يزرعه الإنسان ويقوم به في الحياة الدنيا، فالدنيا زرع والآخرة حصاد.

 

هي المفسّر الأعظم لكل ما يجري على الإنسان في الحياة الدنيا، وبدونها لا يمكن له أن يفهم الحكمة من حوادث الدنيا وشؤونها.

 

هي محل التكامل الواقعي الذي يتحقق من دون عقبات أو قيود؛ ولأجل ذلك فهي النعيم المقيم والسعادة المطلقة بالنسبة لمن يحسن العمل في الدنيا؛ وأعلى نعمة ولذة فيها هي لقاء الله ورضوانه.

 

هي محل التسافل والعذاب الذي لا يمكن تصوره بالنسبة للفجار والأشرار والظالمين. وأشد عذاب فيها هو البعد عن الله ومعاندته وفراقه.

 

ولا يشك من عرف هذه الحقائق الأساسية أنّ حياة وسلوك من يعتقد بها ستختلف اختلافًا جوهريًّا مع حياة وسلوك من ينكرها ويغفل عنها. فالإيمان بهذه الحقائق يشكّل عنصرًا مفصليًّا في بناء شخصية الفرد وفي تعامله مع شتّى قضايا الحياة الدنيا، سواء في نظرته للعالم أو تعامله مع الخلق أو عمله واختياره لمهنته ودوره الاجتماعي و..

 

إنّ بناء الإنسان المؤمن بالحياة الآخرة باعتبار أنّها محل لقاء الخالق المبدئ المعيد، هو الضامن الأكبر لاستقامة الشخصية وثباتها على الحق والقيم السامية؛ ولو لم نتمكّن من فعل شيء سوى بناء هذا النوع من البشر، لكان ذلك كافيًا لتحقيق جميع الأغراض والأهداف الأخرى من التعليم والتربية.

 

إنّ قضية الحياة الآخرة ليست مجرّد شأن تربوي، بحيث نكله إلى البيئة الدينية في الأسرة والمسجد والمنبر، بل هي قضية معارف وحقائق ينبغي أن يتعرف إليها المتعلم باعتبار أنها الحقائق الأساسية التي تحدد مصيره. ولأجل ذلك، ينبغي أن يتعرف طالب العلم إلى العلاقة بينها وبين الاستدلال والبحث العلمي المنهجي الذي يُفترض أن يستخدمه في التوصّل إلى أي حقيقة موجودة في العالم.

 

وبعبارةٍ أخرى، ليست الحياة الآخرة قضية تعبّدية تنتهي عند بعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة؛ بل تبدأ عندها ومنها رحلة طويلة من البحث عن حقائقها العجيبة التي سيكون لها حضورٌ قويّ في كل شؤون حياتنا. فالدنيا مزرعة الآخرة والآخرة مرآة الدنيا؛ وكلّما تعمق إيماننا بالآخرة أصبحنا أكثر قدرة على معرفة ما يجري علينا في الدنيا.

 

إنّ فلسفة وجود الإنسان على هذه الأرض والحكمة من بدء خلقه هنا تتمثّل في ضرورة بناء مركبة عروجه إلى الحياة الآخرة من عناصر هذه الأرض ومكوّناتها؛ وما لم يعمل الإنسان على ذلك، فسوف يعلق في مكان ما لمدة طويلة لن تكون لمصلحته. فهذا العالم الأرضي هو مستودع المواد الخام التي يُفترض أن يكتشف البشر كيف يمكن تحويلها وتبديلها إلى تلك المركبة العروجية التي تسافر بهم في آفاق السماوات، في رحلة العودة إلى الجنة.

 

وباختصار، إن آمن واضعو المناهج المدرسية بمركزية قضية الآخرة وأولويتها في التعليم، يجب أن يتعرفوا إلى أبعادها الأساسية التي هي تلك الحقائق الكبرى المرتبطة بها، والتي تشكل كل واحدة منها ركنًا أساسيًّا في بناء الشخصية وتحديد الدور وتشكيل السلوك.

 

إنّ تقديم هذه الحقائق ينبغي أن يمتزج بأدبيات رفيعة المستوى، عميقة المحتوى، قوية الجذب، تتمتع بالقدرة على الاستعلاء على كل الأدبيات الأخرى التي اعتبرها الناس أفضل ما أنتجه الإنسان على مدى التاريخ بشأن نظرته للحياة والوجود والمصير. كما أنّ تقديم هذه الحقائق ينبغي أن يتلازم مع المنطق الاستدلالي العلمي المتين الذي يُفترض أن يهيمن في قدرته ونتائجه على كل نشاط استدلالي علمي استعمله البشر في مختلف العلوم.

 

وهكذا سيواجه معدّو المناهج مجموعة من التحديات تتمثل في:

 

أ. ترسيخ المنطق العقلي في التفكير منذ بداية الرحلة التعلمية.

 

ب. استخراج الأدبيات الرفيعة فيما يتعلق بقضية الحياة الآخرة وعلاقتها بالدنيا.

 

ج. القدرة على الهيمنة على الأدبيات الكثيرة للعبثية والمادية والدهرية.

 

ولكي ينجحوا في هذا المجال، ينبغي أن يراعوا التدرج بالمتعلّم بحيث يصل مع نهاية المرحلة المدرسية إلى استيعاب كل هذه الحقائق والأدبيات وامتلاك القدرة على التعبير عنها مع التفاته إلى أهمية الإبداع فيه؛ وهذا ما يتطلّب وصله بكل التراث الإسلامي وغير الإسلامي لهذه القضية، لكي يدرك مدى أهمية القضية بالنسبة للبشر على مدى العصور.

 

كما أنّ تناول هذه القضية في المناهج لا ينبغي أن يهمل تحليل الآثار المختلفة للاعتقاد بها وإنكارها وإهمالها على مستوى الحضارات والمجتمعات الحديثة، حتى يتعرف إلى معنى كونها القضية الأولى في الحياة كلها.

 

إنّ الهدف الأعلى لتعليم قضية الآخرة يكمن في جعل الإنسان ابن الآخرة بدل أن يكون ابن الدنيا. ولأبناء الآخرة علامات يُعرفون بها تتجلى في كل شؤون حياتهم وفي سلوكهم وفي تفكيرهم. وليس من الصعب أبدًا أن نجعل منها مؤشرات واقعية في المنهج بكل مراحله التعليمية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد