مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد باقر الأيرواني
عن الكاتب :
الشيخ محمد باقر الأيرواني، فقيه وأصولي، ولد عام (1949 م) أستاذ كبير في البحث الخارج وله الكثير من المؤلّفات.

الإمام المهدي (ع) بين التواتر وحساب الاحتمال (3)

عوامل نشوء اليقين بولادة الإمام المهدي (عليه السلام)

 

العامل الأول:

 

الأحاديث الكثيرة المسلمة بين الفريقين الإمامية وغيرهم، والتي تدل على ولادة الإمام سلام الله عليه، ولكن من دون أن ترد في خصوص الإمام المهدي وبعنوانه، فهي تدل على ولادة الإمام من دون أن تنصب على هذا الاتجاه، وأذكر في هذا المجال ثلاثة أحاديث:

 

الحديث الأول: حديث الثقلين، الذي هو حديث متواتر بين الإمامية والعامة، ولا مجال للمناقشة في سنده، قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواطن متعددة: في حجة الوداع، في حجرته المباركة، في مرضه... فإذا رأينا اختلافًا في بعض ألفاظ الحديث فهو ناشئ من اختلاف مواطن تعدد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الحديث: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، أحدهما أكبر من الآخر، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض".

 

يعني أن الكتاب مع العترة، من البداية، من زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يردا عليه الحوض. وهذا يدل على أن العترة الطاهرة مستمرة مع الكتاب الكريم، وهذا الاستمرار لا يمكن توجيهه إلا بافتراض أن الإمام المهدي (عليه السلام) قد ولد ولكنه غائب عن الأعين، إذ لو لم يكن مولودًا وسوف يولد في المستقبل لافترق الكتاب عن العترة الطاهرة، وهذا تكذيب للنبي، فهو يقول: "ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض" هذا لازمه أن العترة لها استمرار وبقاء مع الكتاب إلى أن يردا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا لا يمكن توجيهه إلا بما قلت: إن الإمام المهدي سلام الله عليه قد ولد ولكنه غائب، وإلا يلزم الإخبار على خلاف الواقع.

 

وهذا حديث واضح الدلالة، يدل على ولادة الإمام سلام الله عليه، لكن كما قلت هذا الحديث لم يرد ابتداءً في الإمام المهدي، وإنما هو منصب على قضية ثانية: "وإنهما لن يفترقا"، لكن نستفيد منه ولادة الإمام بالدلالة الالتزامية. وقد يقول قائل: لنفترض أن الإمام (عليه السلام) لم يولد، ولكن في فترة الرجعة التي ستقع في المستقبل يرجع الإمام العسكري (عليه السلام)، ويتولد آنذاك الإمام المهدي (عليه السلام)، إن هذه فريضة ممكنة وعلى أساسها يتم التلائم بين صدق الحديث وافتراض عدم ولادة الإمام (عليه السلام).

 

وجوابنا: إن لازم هذه الفريضة تحقق الافتراق بين العترة الطاهرة والكتاب الكريم في الفترة السابقة على فترة الرجعة، ففي هذه الفترة لا وجود للإمام المهدي (عليه السلام) ولا وجود للعترة وقد تحقق فيها افتراق الكتاب الكريم عن العترة الطاهرة.

 

الحديث الثاني: حديث الاثني عشر، وهذا أيضًا حديث مسلّم بين الفريقين، يرويه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق أهل السنّة، ومن طرقنا أيضا قد رواه غير واحد كالشيخ الصدوق مثلًا في كمال الدين والحديث منقول عن جابر بن سمرة يقول: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: "إن هذا لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة"، ثم تكلم بكلام خفي علي، فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلهم من قريش. وهذا الحديث من المسلمات أيضًا، وليس له تطبيق معقول ومقبول إلا الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

 

وجاء البعض وحاول تطبيقه على الخلفاء الراشدين واثنين أو ثلاثة من بني أمية واثنين أو ثلاثة من بني العباس. إن هذا تطبيق غير مقبول، وكل شخص يلاحظ هذا الحديث يجده إخبارًا غيبيًّا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قضية ليس لها مصداق وجيه ومقبول سوى الأئمة صلوات الله عليهم الاثني عشر.

 

وهذا الحديث بالملازمة يدل على ولادة الإمام المهدي سلام الله عليه، إذ لو لم يكن مولودًا الآن، والمفروض أن الإمام العسكري توفي، ولم يحتمل أحد أنه موجود، إذن كيف يولد الإمام المهدي من أب هو متوفى. فلا بد وأن نفترض أن ولادة الإمام (عليه السلام) قد تحققت، وإلا هذا الحديث يعود تطبيقه غير وجيه. فهذا الحديث بالدلالة الالتزامية يدل على ولادة الإمام صلوات الله وسلامه عليه.

 

الحديث الثالث الذي أريد أن أذكره في هذا المجال، حديث أيضًا مسلّم سندًا بين الفريقين، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"، هذا أيضًا يرويه أهل السنّة، ويرويه الشيخ الكليني في الكافي، فهو مسلّم عند السنة والشيعة.

 

فإذا لم يكن الإمام المهدي (عليه السلام) مولودًا الآن، فهذا معناه نحن لا نعرف إمام زماننا، فميتتنا ميتة جاهلية. فالحديث يدل على أن كل زمان لا بد فيه من إمام، وكل شخص مكلف بمعرفة ذلك الإمام ومكلف بأن لا يموت ميتة جاهلية، فلو لم يكن الإمام مولودًا إذن كيف نعرف إمام زماننا؟.

 

هذه أحاديث ثلاثة، وإن لم تكن منصبة على الإمام المهدي صلوات الله عليه مباشرة، ولكنها بالدلالة الالتزامية تدل على أن الإمام سلام الله عليه قد ولد وتحققت ولادته.

 

العامل الثاني

 

إخبار النبي والأئمة صلوات الله عليهم بأنه سوف يولد للإمام العسكري ولد يملأ الأرض قسطًا وعدلًا ويغيب، ويلزم على كل مسلم أن يؤمن بذلك. هذه الأحاديث كثيرة، فالشيخ الصدوق في كمال الدين جعلها في أبواب: باب ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمام المهدي، ذكر فيه خمسة وأربعين حديثًا.

 

ثم بعد ذلك ذكر باب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإمام المهدي. ثم باب عن الزهراء سلام الله عليها وما ورد عنها في الإمام المهدي (عليه السلام)، ذكر فيه أربعة أحاديث. ثم عن الإمام الحسن (عليه السلام) ذكر فيه حديثين. ثم عن الإمام الحسين (عليه السلام) ذكر فيه خمسة أحاديث. ثم عن الإمام السجاد (عليه السلام) ذكر فيه تسعة أحاديث. ثم عن الإمام الباقر (عليه السلام) ذكر فيه سبعة عشر حديثًا. ثم عن الإمام الصادق (عليه السلام) ذكر فيه سبعة وخمسين حديثًا. وقد جمعت الأحاديث فكانت مائة وثلاثة وتسعين حديثًا.

 

هذا فقط ما يرويه الشيخ الصدوق في الإكمال، ولا أريد أن أضمّ ما ذكره الكليني في الكافي، والشيخ الطوسي، وغيرهما، وربما آنذاك يفوق العدد الألف رواية. وتبركًا وتيمنًا أذكر حديثًا واحدًا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحديثين عن الإمام الصادق سلام الله عليه. أما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فهو ما رواه ابن عباس قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "... ألا وإن الله تبارك وتعالى جعلني وإياهم حججًا على عباده، وجعل من صلب الحسين أئمة يقومون بأمري، ويحفظون وصيتي، التاسع منهم قائم أهل بيتي ومهدي أمتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله، يظهر بعد غيبة طويلة..." إلى آخر الحديث. وبهذا المضمون أو قريب منه أحاديث كثيرة، وبعض الأحاديث تذكر أسماء الأئمة صلوات الله عليهم.

 

وأما عن الإمام الصادق (عليه السلام): فهو ما رواه محمد بن مسلم بسند صحيح متفق عليه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إن بلغكم عن صاحبكم غيبة فلا تنكروها". وحديث آخر عن زرارة يقول: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يشك في ولادته".

 

فمسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الإمام الصادق (عليه السلام) من ذلك الزمان، فكان أول من شكك في الولادة جعفر عم الإمام المهدي (عليه السلام)، لعدم اطّلاعه على الولادة، ووجود تعتيم إعلامي قوي على مسألة ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، نتيجة الظروف الحرجة المحيطة بالإمامة في تلك الفترة، حتى أنه لم يجز الأئمة التصريح باسم الإمام المهدي، فجعفر ما كان مطلعًا على أن الإمام العسكري (عليه السلام) له ولد باسم الإمام المهدي، لذلك فوجئ بالقضية وأنكر أو شكك في الولادة، فهو أول من شكك.

 

ثم تلاه في التشكيك ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل، شكك في مسألة الولادة فقال: وتقول طائفة منهم - أي من الشيعة - أن مولد هذا يعني الإمام المهدي الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين، سنة موت أبيه. وتبعه على ذلك محمد إسعاف النشاشيبي في كتابه الإسلام الصحيح، يقول: ولم يعقّب الحسن - يعني العسكري سلام الله عليه - ذكرًا ولا أنثى.

 

على أي حال مسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الإمام الصادق (عليه السلام)، وكانت موجودة من تلك الفترة، فالإمام يقول لزرارة: "وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته، منهم من يقول مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول أنه ولد قبل موت أبيه بسنتين..." إلى أن يقول الإمام: "يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعوا بهذا الدعاء: "اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني".

 

واقعًا الإنسان والعياذ بالله فجأة يضل عن الدين من حيث لا يشعر، فالدعاء بهذا ضروري للبقاء بالتمسك بهذا المذهب الصحيح: "اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني". ومن الأشياء التي لا تنبغي الغفلة عنها الأدعية المعروفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم، ومنها هذا الدعاء: "اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتّعه فيها طويلًا".

 

ومن الطبيعي أن الأئمة صلوات الله عليهم يذكرون هذا الدعاء ليعلموا شيعتهم، ومن تعبيرهم بالحجة فقط يعلم مدى حالة الكتمان والتكتّم، حتى أن الوارد في الدعاء المتقدم "اللّهم كن لوليك فلان ابن فلان" كتمانًا للاسم المبارك. هذه جملة من الأحاديث، وهي بهذا الصدد كثيرة، رواها الكليني في الكافي والشيخ في الغيبة وغيرهما، وهي تشكل في الحقيقة مئات الأحاديث في هذا المجال.

 

وبعد هذه الكثرة فهي من حيث السند متواترة لا معنى للمناقشة فيها، وهي واضحة غير قابلة للاجتهاد، وإلا لكان ذلك اجتهادًا في مقابل النص.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد