المقصود من الثورة الثقافية هو تلك التحوّلات الجوهرية التي تحدث في طريقة تفكير الناس ونظرتهم إلى الوجود، والتي تتجلّى في تبنّي مجموعة من القيم التقدّمية وشيوعها. ونحن نؤمن بأنّ المعرفة هي المقدّمة الأولى والأساسية لتحقّق تلك التحوّلات، وأنّ الجهل هو المانع الأكبر من انبعاثها وانطلاقها.
صحيح أنّ هذه القاعدة لا تنطبق بالضرورة على الأفراد بما هم أفراد، لكنّها أمر حتميّ فيما يتعلّق بالمجتمع والعقل الجمعيّ. فالمعرفة العامّة حين تحصل، تكون كالانفجار الكبير الذي يترك اهتزازات عميقة في بنية أي مجتمع؛ وذلك لأنّ تأثيرها لا ينبع من كونها مجرّد معرفة، وإنمّا فيما تشكّله من عقلٍ جمعيّ.
وإذا كانت الثمرة الكبرى للثورة الثقافية بحسب اعتقادنا في ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وفي إقبال الناس على قيادته ودعوته، فإنّ مقدمة هذا الظهور ستكون فيما أشير إليه تحت عنوان "إلغاء الاستضعاف العلمي في العالم"، والذي سُمّي بإتمام الحجّة. فقد جاء في سفينة البحار للقمّي عن الإمام الصادق(ع): أَنَّهُ ذُكِرَ كُوفَةُ، وَقَالَ سَتَخْلُو كُوفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيأزر [يَأْرِزُ] عَنْهَا الْعِلْمُ كَمَا تأزر [تَأْرِزُ] الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا؛ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعِلْمُ بِبَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا قُمُّ، وَتَصِيرُ مَعْدِنًا لِلْعِلْمِ وَالْفَضْلِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مُسْتَضْعَفٌ فِي الدِّينِ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتُ فِي الْحِجَالِ وَذَلِكَ عِنْدَ قُرْبِ ظُهُورِ قَائِمِنَا فَيَجْعَلُ اللَّهُ قُمَّ وَأَهْلَهُ قَائِمِينَ مَقَامَ الْحُجَّةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَسَاخَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ حُجَّةٌ فَيُفِيضُ الْعِلْمُ مِنْهُ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَيَتِمُّ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ الدِّينُ وَالْعِلْمُ؛ ثُمَّ يَظْهَرُ الْقَائِمُ (ع) وَيَسِيرُ سَبَبًا لِنَقِمَةِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ عَلَى الْعِبَادِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ حُجَّةً".
فما الذي ينبغي أن تعرفه شعوب العالم حتى تتحقّق تلك المعرفة الانفجاريّة؟ وما هو دورنا في هذا المجال؟
إنّنا نؤمن بأنّ معارف الإسلام الكونية والمعنوية، وكذلك برنامج شريعته ونظامه الحياتيّ المسلكيّ، تمتلك كل مقوّمات الزلزال العظيم الذي يُفترض أن يهز كيانات المجتمعات البشرية ويعيدها إلى جادة الإنسانية، نظرًا لما تحتويه هذه المعارف من وصفة شافية لكلّ مشاكلها وأسقامها ومن حقائق تسترجع كرامة الإنسان وموقعيّته السامية في دائرة الوجود. إنّنا نؤمن بذلك، لكنّنا نعتقد بأنّ هناك مجموعة من الموانع التي تقف بوجه انتشار هذه المعارف في العالم. وهذا ما يتطلّب منّا العمل أوّلًا على إزالة هذه الموانع التي هي بمعظمها داخلية تعشعش في البنية الفكرية للمسلمين أنفسهم وخصوصًا أهل العلم منهم.
فقد تحوّلت معارف الدين عبر القرون، ولأسباب عديدة، إلى علوم يحتاج الوصول إليها إلى طي مراحل صعبة وسلوك طرق وعرة لا يقدر عليها معظم الناس؛ فاقتصرت على فئة قليلة جدًّا من المتفرّغين لها.
ولا شك بأنّ التطرّق إلى هذه الأسباب والعوامل أمرٌ مطلوب في هذا المجال، لكنّه يحتاج إلى فرصة أكبر. وقد كان وقوع المعارف الدينية بأيدي أهل الجدل والنزاع سببًا أساسيًّا في تعقيدها وتشعّب طرقها وافتقادها للتجلّي المنظومي واللغة العالميّة التي نزل بها الدين نفسه؛ وبسبب ذلك، أصبح من الصعب على المتبحّر في فقه الشريعة ـ الذي لا يرى سوى طريق الاجتهاد وسيلة للوصول إلى معارف الدين ـ أن يرى البعد العالمي والمعارف القابلة للانتشار في معارف الدين ومعلوماته. فقد قضى هذا الفقيه عقودًا من الزمن وهو يسعى للكشف عن أحكام الشريعة، وغاص في مئات الكتب، وتخبّط بين آلاف الآراء المتضاربة ساعيًا وراء تحديد الحكم لهذه القضية أو تلك. فكيف يمكن لمن لا يملك أدنى معرفة بالأصول والقواعد أن يفهم شريعة الإسلام ومقاصده، بل أن يفهم أحكامه وفتاواه! ولهذا، اشتهر في الحوزات التخصّصية، تدريس الأحكام الشرعية على مدى سنتين متواصلتين، وأصبح وصول الناس إلى الحكم الشرعي مضطرًّا إلى العالم المتخصّص.
وكيف يمكن لمن لم يجد إلّا في الفلسفة طريقًا لفهم عقائد الدين وحقائقه الوجودية، أن يستوعب إمكانية نقل تلك الأفكار والعقائد بلغة مبسّطة سهلة يفهمها جميع الناس! هذا، وقد قضى هذا العالِم شطرًا مهمًا من عمره وهو يدرس أحكام الماهية والوجود محاولًا تفكيك رموزها وحل ألغازها.
فما لم تحدث ثورةٌ معرفية في الوسط التعليميّ الدينيّ قوامها تسهيل المناهج وابتكار البرامج الميسّرة، فمن الصعب أن نشهد ذلك الانبعاث العلميّ لمعارف الدين على مستوى العالم. فالثورة ينبغي أن تبدأ من الداخل أوّلًا.
أجل، لا تخلو ساحات أهل العلم من إشراقات وإبداعات واعدة، فلدينا من نتاجات أفكار هؤلاء المبدعين ما يمكن أن يحدث فرقًا نوعيًّا رغم كل الظروف؛ وهنا سنكون بحاجة إلى العنصر الثاني.
العنصر الثاني على طريق الثورة الثقافية عبارة عن توفّر مجموعة من البُنى التحتيّة لنشر الأفكار وتبليغها وإيصالها. ومن المهم أن يلتفت أصحاب القرار والمستأمنين على إمكانات الأمّة ومقدراتها إلى أنّ توفير هذه البُنى من شأنه أن يؤسّس لتحوّلات نوعيّة لم تشهد لها البشرية مثيلًا. فما لدينا من معارف دينية اليوم كفيل بإحداث هزّات بنيويّة هائلة في معظم المجتمعات الحالية؛ ولن نكون في هذه المرحلة بحاجة إلى المزيد من الإنتاج العلمي.
إنّ الفارق الحالي بين المعارف الإسلامية ذات القابلية العالمية، وبين ما تمتلكه البشرية من معارف مختلفة (في مجالات الإنسان والمعنويات ونظام الحياة والرؤية الكونية) هو فارق هائل، بمقدوره أن يكشف عن غنى وثراء كبير في الوسط الإسلامي. لكن ممّا يؤسف له أنّ هذا الإنتاج لا يصل إلى الأغلبية الساحقة من أهل العالم. فمشكلة الإيصال أو التبليغ هي إحدى أكبر مشاكلنا.
وباعتقادي فإنّ من نصفهم بأصحاب القرار هنا غافلون بمعظمهم عن معنى توافر البُنى التحتية، فضلًا عن كيفيّتها، كما أنّهم عاجزون عن وضع خطط بعيدة المدى لإنشاء مثل تلك البُنى التي تتطلّب بذاتها نفَسًا خاصًّا.
الإيصال يتطلّب لغة عالمية تكون بمنزلة أمّ اللغات الحيّة وأساس التواصل معها. وبامتلاك اللغة العالمية يأتي دور التواصل مع أبناء اللغات المختلفة ويصبح ميسّرًا. حيث سيؤدّي هؤلاء دورًا محوريًّا في نقل تلك المعارف إلى شعوبهم.
الإيصال يتطلّب مؤسّسات التوصيل العالمي، بالاستفادة من الإنترنت ووسائل الشحن السريع، إلى أن نستطيع القول أنّ أي فرد على هذه الكرة الأرضية قادر على الحصول على أي كتاب إسلامي يراه على الشبكة العالمية.
وقبل أن ننتقل إلى الكرة الأرضية، فنحن بحاجة إلى إنجاز هذا الأمر على صعيد بلدنا ومنطقتنا. فإنّ الأغلبية الساحقة من أبناء شعوبنا المسلمة لا تسمع ولا تعرف عن معظم الإنجازات المعرفية المفيدة والمطلوبة شيئًا.
وبدل الاستغراق في الإنفاق على الإنتاج، يجب الإنفاق على شبكة من المواصلات والاتّصالات التي تربط جميع الناس بهذا الإنتاج المتوفّر مهما كان حجمه؛ لأنّ وصول الناس وتفاعلهم معه هو الذي يعزّز عملية الإنتاج ويأخذ بيدها إلى مديات وآفاق واسعة.
الكثير الكثير من الإنتاج المعرفي الديني الجميل والمفيد مجهول. وقد شاهدنا في تجربتنا الطويلة كيف أنّ الناس ما زالوا يتفاجؤون إلى اليوم من وجود أعمال فكرية رغم مرور عدّة عقود على إنتاجها وصدورها.
لقد لعب كل من البريد العالمي والقطار أكبر الدور في انتشار وتمدّد امبراطوريات حديثة؛ وشكّلت هذه الوسائل الرافعة الأساسية للنموّ الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي في البلاد التي استفادت منها أفضل استفادة. ولو لم يكن القطار الذي شقّ الولايات المتّحدة من شرقها إلى غربها، لبقي ذلك الغرب على بدائيّته ردحًا طويلًا من الزمن. ولو لم يكن البريد الملكي، الملتزم بإيصال أي طرد إلى أي منطقة في العالم، لما شهدت بريطانيا ذلك الازدهار العجيب على مستوى الإنتاج الفكري والمعرفي وغيره.
السيد عباس نور الدين
الفيض الكاشاني
الشيخ علي آل محسن
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
البنى التحتية للثّورة الثقافيّة
درجات الصوم وآدابه
الصوم.. مدرسة أخلاقية قلّ المستفيد منها
وقفات تفسيرية مع آيات الصوم (1)
كيف يميز الدماغ التنغيم في الكلام؟
التفقه في الدعاء (8)
الشيخ عبد الجليل الزاكي: لقرآن الكريم.. الدواء والشفاء لكل داء
الشيخ محمد علي الأحمد: غاية التقوى في شهر رمضان
بحث تاريخي عن الصوم
الأسس المحتملة للذكاء البشري ترصد لأول مرة