خطبَ سماحة الشيخ عبد الكريم الحبيل في أول جمعة من شهر رمضان المبارك لعام ١٤٤٤هـ وفي ثاني أيام الشهر الفضيل، خطبة بيّن فيها حكم الصوم وآدابه، جاء نصها:

أيها الأخوة الكرام، في هذا اليوم المبارك وفي هذه الجمعة الغراء هذه -ثاني ايام شهر رمضان المبارك- سوف أتحدث عن موضوع حِكَم الصوم وآدابه، قال تعالى في محكم كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(١).

أولاً: هذه الآيه الكريمة، تتحدث عن أن تاريخ تشريع الصيام تاريخ ضارب في أعماق الرسالات السماوية الربانية، فكما أن الله قد كتبه علينا كذلك قد كتبه على الأمم السابقة، على أصحاب الرسالات والشرائع الإلهية الربانية السابقة فهذه الفريضة ذات تاريخ تشريعي إلهي رباني عريق. 

ثانياً: ذكرَ الله سبحانه وتعالى واحداً من الأهداف السامية لهذه الفريضة، وهو الوصول إلى درجة المتقين {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ إذاً الغاية والهدف السامي التي ذكرته هذه الآية الكريمة من تشريع هذه الفريضة، هو وصول المسلم إلى درجه المتقين.

 جاء في الرواية كذلك عن رسول الله  صلى الله عليه وآله، أنه قال عن فضل الصيام: " قال الله تعالى: كل عمل لبني آدم الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.. "(٢)، فالصوم لله سبحانه وتعالى وكل العبادات هي لله، ولكن هذا لكون هذه العبادة عبادة سرّ عبادةٌ خاصة بين العبد وربه، فالله سبحانه وتعالى ميّزها وأضافها لنفسه تكريماً لخصوصية (السرّ) بين العبد وربه، "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، وهنا (الجزاء) جزاءٌ من الكريم من الله سبحانه وتعالى، والكريم جزاؤه يكون بدون ملاحظة مقدار العمل، عادة الإنسان يعطي الجزاء بمقدار العمل أما الله الكريم عطاؤه عطاء هبة، عطاء فيض، عطاءٌ من كرم الله من جوائز الحق سبحانه وتعالى، ولعِظَم ثواب هذه الشريعة وهذه الفريضة الإلهية الربانية، لا يعلم أجرها وثوابها إلا الله ولا يجزي عليها إلا الله سبحانه وتعالى.

 هناك حِكَم كثيرة للصوم يمكن تقسيم تلك الحكم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

 أولاً، حِكَم معنوية: 

هناك حِكَم من تشريع هذه الفريضة معنوية وحينما نتحدث عن هذه الحِكَم، يعني يريد منك الإسلام والتشريع الرباني أن تصل إلى تلك الحِكَم وتتحلى بتلك الحِكَم التشريعية، التي من أجلها شرّع الله سبحانه وتعالى هذه الفريضة، ومن أهم الحِكَم المعنوية:

١- التدريب على الصبر: يريد الله سبحانه وتعالى من المسلم أن يصل إلى مقام الصابرين، والصوم يوصل الإنسان إلى مقام الصابرين، ومقام الصابرين مقامٌ عظيم وأجره جزيل، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الصابرين {..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(٣)، إذاً من الأهداف تحصيل الصبر، والصبر أقوى مساعد لتحصيل ملكة التقوى، وملكة التقوى هي من أقوى ملكات التفاضل بل أفضل ملكات التفاضل في الشريعة الإسلامية على الإطلاق، ولذا قال سبحانه وتعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يعني بالصبر نصل إلى درجات المتقين؛ لأن الإنسان المؤمن عندما يمسك نفسه عن الوقوع في المحرمات ويصبّر نفسه على الطاعات؛ يصل بذلك المقام إلى درجة المتقين.

والتفاضل في الإسلام له مقامات منها التفاضل في العلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(٤). 

والتفاضل بالجهاد في سبيل الله، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(٥).

 لكن قمة التفاضل وفوق كل ذلك هو تقوى الله سبحانه وتعالى، فمن تفاضل بالعلم وكان لا يحرز درجة التقوى لا ينفعه عند الله علمه، ولو كان ذلك المجاهد لم يحرز درجة التقوى لا ينفعه جهاده عند الله سبحانه وتعالى، صحيح التفاضل بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} والتفاضل بالجهاد، ولكنه مع التقوى يزداد ذلك الإنسان العالم؛ لأنه عندئذ يحرز العلم والتقوى، ويزداد ذلك المجاهد فضلاً؛ لأنه قد أحرز الجهاد والتقوى في سبيل الله، لكن لو ضيّع العالم والمجاهد التقوى فعندئذ لن يستفيد من علمه ولا من جهاده. 

٢- صناعة العزيمة والإرادة في الإنسان المسلم:

 الصوم يوجد هذه العزيمة في الإنسان ويصنعها، في الدعاء عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه قال: "وقَد عَلِمتُ أنَّ أفضَلَ الزّادِ لِلرّاحِلِ إلَيكَ عَزمُ إرادَةٍ يَختارُكَ بِها"(٦)، أفضل زاد الراحل إلى الله سبحانه وتعالى (عزم إرادة) بتلك الإرادة يختار الله سبحانه وتعالى، والصوم يصنع الإرادة عند الانسان المسلم، قال تعالى عن بني إسرائيل الذين بعث الله لهم طالوت ملكاً: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(٧).

 هؤلاء حينما أمرهم طالوت بأن لا يشربوا من النهر، الذين شربوا خابوا والذين لم يشربوا هم أولئك الذين في الحقيقة صبروا وثبتوا وجاهدوا، إلى أن انتصروا ببركة تلك العزيمة والإرادة القوية، فالصوم يصنع العزيمة والإرادة عند الإنسان.

٣. استحضار الآخرة:

باستحضار الآخرة، الصائم يتذكّر يوم الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر خطبة خطبها في شعبان: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه"(٨)، أجارنا الله وإياكم من جوع يوم القيامة إن شاء الله، هذه الطاعات والقربات والحسنات وولاية آل محمد والصلاة على محمد وآل محمد هي الري الروي يوم القيامة، أسال الله أن يسقينا شربةً من الكوثر بيد علي عليه السلام. 

ثانياً، حِكَم تربوية وأخلاقية: 

هناك أهداف تربوية أخلاقية من هذه الفريضة الإسلامية العظيمة، من تلك الأهداف التربوية الأخلاقية وأهمها:

١- تحصيل ملكة التقوى: (التقوى) عند بعض العلماء هو فعل الواجبات وترك المحرمات، ولكن عند بعض العلماء والمراجع الآخرين ليس مجرد ترك المحرمات وفعل الواجبات، وإنما لابد نتيجةً لذلك الالتزام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات مع الاستمرار تحصل للإنسان ملكة قوية (زاجرة). زاجرةٌ عن فعل المحرمات وآمرةٌ بفعل الطاعات؛ فالتقوى ليست مجرد فعل الواجبات وترك المحرمات وإنما ملكة راسخة نفسانية تزجر الإنسان المتّقي عن فعل المحرمات وتحثُه على فعل الطاعات.

 ويفرّقون بينها وبين العصمة، إن العصمة مانعة والتقوى زاجرة،  تُحدِثُ التقوى عند الإنسان ملكة في النفس راسخة قوية هذه توقفه عند حدود الله سبحانه وتعالى، هناك لله حدود وحدود الله محارمه فهذه توقف الإنسان المتّقي عند حدود محارم الله سبحانه، وليس مجرد فعل الطاعات وترك المحرمات. 

٢- تحصيل الإخلاص:  بالصوم يصل الإنسان إلى درجة المخلصين؛ لأنها عبادة سرّ بينه وبين الله سبحانه وتعالى وكما ذكرتُ أمس في البحث الفقهي بأن الصوم من العبادات التي يمكن أن يستتر بها الإنسان عن أقرب الناس إليه بل عمّن معه في البيت من زوجته وأولاده، بينما العبادات الأخرى كالصلاة، تصلي والناس تراك قائماً راكعاً ساجدا، والحج يرونك تطوف وتسعى وترمي جمرات وإلى آخره ومُحرِم بلباس الإحرام، وكذا الجهاد وغيرها من العبادات الأخرى، أما هذه العبادة فبإمكانك أن تجعلها عبادة سرّ بينك وبين الله سبحانه وتعالى، فلا يعلم بها أحياناً حتى من كان معك في البيت؛ فهي تورّث الإخلاص، جاء في خطبة الزهراء الفدكية عليها السلام أنها قالت: "فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص"(٩).

٣- المواساة: من الآثار أيضاً التربوية والأخلاقية لهذه الفريضة (المواساة)، مواساة الغني للفقير، جاء في رواية عن صادق أئمة الهدى عليه السلام أنه قال: "أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع، فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرق على الضعيف ويرحم الجائع"(١٠)، تذّكروا الآن إن كان أحدكم صائماً آخر النهار تشعر بالجوع، خصوصاً إذا كنت تشتغل تشعر بالجوع والعطش والإرهاق، تذكر أولئك الجياع والفقراء والمحرومين، في كثير من الدول الإسلامية فضلاً عن الدول غير الإسلامية، في كثير من الدول الإسلامية بل من الدول العربية من لا يجد قوت يومه، منهم من لا يجد الطعام ليأكل يبقى جائعاً ربما ليومين، لا يجد ما يسد به جوعه، وهذا هدف تربوي أخلاقي للصوم.

٤- التذكير بنِعَم الله:  نحنُ غارقون في نِعَم الله ظاهرة وباطنة علينا من المآكل والمشارب وغيرها من النِعَم، فإذا صمنا عرفنا أثر هذه الأطعمة والأشربة وتذَكرنا نِعَم الله، فعندئذٍ يوجد عندنا حالة (الشكر)، شكر نِعَم الله سبحانه وتعالى، حينما تصوم تدرك حينئذ أثر هذا الطعام وأثر الشراب وأثر هذه النِعَم عليك، وعندئذ تسعى إلى تذّكر فضل الله عليك؛ فتسعى لشكر الله سبحانه وتعالى.

ثالثاً، حِكَم صحية: 

من تلك الحكم الصحية، الصوم يورثُ صحة البدن، وقد شاع الآن بين الأطباء بأنهم يعالجون كثيراً من الأمراض بالصوم، ونحن نرى أيضاً وصايا صحية للامتناع عن كثير من الأطعمة والأشربة لبعض المرضى، مثلاً مريض السكري يمنع عن كذا وكذا، مريض الضغط يمنع عن كذا وكذا، مريض كذا يمنع عن كذا وكذا، ناهيك عن أن الصوم له أثرٌ عظيم على صحة الإنسان وقد جاء في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "صوموا تصحوا"(١١)،  ولهذا ينبغي للإنسان أن يهذب طعامه وأكله في هذا الشهر الفضيل؛ ليحصل على الصحة أما إذا صمت وجلست على أفانين الأطعمة والأشربة، عكست الآية وصرت تآكل في رمضان أكثر مما تأكل في غيره من الشهور، وتصل إلى درجة التخمة عندئذ لن تحصل على الصحة من الصوم، وكل هذه الأهداف ستفشل عندئذ؛ إذاً من الأهداف السامية الوصول أيضاً إلى درجة الصحة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للصيام والقيام ويجعلنا من الفائزين بهذه الآداب المعنوية والتربوية والأخلاقية والصحية، ويجعلنا وإياكم من خيرة الصائمين القائمين وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، إنه سميعٌ مجيب. نسعى لأن نحقق الصوم المعنوي قبل الصوم المادي صوم الجوارح قبل صوم البطون، صوم اللسان، صوم السمع، صوم الفرج، صوم العين، هذا الصوم الذي ينعكس على الإنسان بأثرٍ عظيم، صوم القلوب ليصل الإنسان إلى ذلك الصوم المبتغى ويكون من الصائمين.
 

—----------------

١.   سورة البقرة، الآية ١٨٣.

٢.   مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج ٧، ص٥٠٣.

٣.   سورة الزمر، الآية ١٠.

٤.   سورة الزمر، الآية ٩.

٥.   سورة النساء، الآية ٩٥.

٦.   مصباح الزّائر، السيد ابن طاووس، ص ۱۸۷.

٧.   سورة البقرة، الآية ٢٤٩.

٨.   وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ٧، ص٢٢٧.

٩.   ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٢، ص ١٦٨٥.

١٠. ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٢، ص١٦٨٤.

١١. بحار الأنوار: ٩٣ / ٢٥٥ .