تحدّث سماحة السيد حسن النمر في خطبة له بعنوان: الإمام علي ( ع ) وصناعةُ البصيرةِ بجزئها الثاني، وذلك في 21 ربيع الثاني 1446 هـ في مسجد الحمزة عليه السلام بسيه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وإن من التقوى أن يكون الإنسان -كما قدمنا في الأسبوع الماضي- بصيرًا بنفسه، وبأمره، وبزمانه.
فيعرف ما ينفعه وما يضره، ويعتقد الحق دون الباطل، ويسلك طريق الهدى دون الضلال.
إن من أهم ما يصنع البصيرة في الإنسان أن يطلبها من مظانّها، ويبحث عنها عند أهلها، ويجتهد في حسن تلقيها.
فإن لم يلتزم ذلك، فسيختلط عليه الحابل بالنابل، وسيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما فعل بنو إسرائيل.
كانوا يتغذون على المنّ والسلوى، فألحّوا على استبدالهما بما تنبت الأرض من بقلها وفومها وعدسها وبصلها، كما حكاه الله لنا في سورة البقرة.
قال الله تعالى:
"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى. وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون."
وقال تعالى:
"ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين."
وقال أيضًا:
"ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين. وإنهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون."
وقال تعالى:
"فلينظر الإنسان إلى طعامه."
وقد عُمّق معنى هذه الآية في تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله:
"طعامه علمه الذي يأخذه، ممن يأخذه."
وقال الله تعالى:
"بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون."
إذا كان هذا الأمر مهمًا في الشأن الدنيوي، فهو أهم بمراتب في الشأن الديني، أي فيما يتعلق بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية.
فليس للمؤمن أن يسترسل وراء كل أحد، وإن وُصف بعضهم بأنه من أهل العلم، ما لم يُحرز بطريق معتبر كفاءته الذاتية والموضوعية، والعلمية والعملية، وأنه أهل لأن يُتلقى منه العلم.
خصوصًا في مثل هذا الزمان، الذي تعددت فيه المنابر والمحطات، فصار يعلوها من يُوثق به وهم قلة قليلة، ومن لا يُوثق به وهم كثرة كاثرة.
ويلزمنا التنبيه، أيها المؤمنون، إلى المخاطر الجمة التي تترتب على التساهل في تلقي العلم من غير أهله.
فإنها لا تقف عند حدود الأفراد، بل تتجاوزهم إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، والإضرار بالسلم الأهلي للمجتمعات والبلدان.
ولنقف وإياكم على نموذج مروي عن الإمام علي (عليه السلام)،
بين فيه سبيلًا من سبل البصيرة من خلال التعريف بسبب من أسباب ضدها، وهو الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي اعتبرها خللًا استوجب اختلاف الحديث عنه، مما يفرض علينا التدقيق فيمن يُؤخذ عنه.
فقد أخرج الشيخ الكليني بسنده عن سليم بن قيس الهلالي قال:
قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام):
إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئًا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله)، غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفون فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل.
أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين؟ ويفسرون القرآن بآرائهم؟
قال (عليه السلام):
"قد سألت، فافهم الجواب.
إن في أيدي الناس حقًا وباطلًا، وصدقًا وكذبًا، وناسخًا ومنسوخًا، وعامًا وخاصًا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا ووهمًا.
وقد كُذِبَ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبًا، فقال:
"أيها الناس، قد كثرت عليّ الكذابة. فمن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار."
ثم كُذب عليه من بعده.
وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس."
رجل منافق:
يُظهر الإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدًا.
فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه.
ولكنه صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله.
وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عز وجل:
"وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم."
ثم بقوا بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان.
فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا.
رجل وهم في الحديث:
سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئًا، ولكنه لم يحفظه من وجهه الصحيح ووهم فيه، ولم يتعمد الكذب.
فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه، ويقول:
"أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)."
فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.
رجل حفظ المنسوخ دون الناسخ:
سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئًا أمر به، ثم نُهي عنه وهو لا يعلم.
أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم.
فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ.
فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.
رجل صادق حافظ:
لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مبغض للكذب، خوفًا من الله تعالى وتعظيمًا لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
لم ينسَ ما سمع، بل حفظه كما سمعه، فجاء به كما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه.
وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.
فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، ومحكم ومتشابه.
قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان:
كلام عام وكلام خاص، مثل القرآن.
قال الله عز وجل في كتابه:
"ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا."
فقد يشتبه على من لم يعرف ولم يدرِ ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله).
قال (عليه السلام):
"وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيُخليني فيها، أدور معه حيثما دار.
وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع بأحد من الناس غيري."
كنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه، لا يبقى عنده غيري.
وإذا أتاني للخلوة معه في منزلي لم يقم عني فاطمة ولا أحد من بني.
وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني.
"فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطي.
وعلمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها."
ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علمًا أملاه عليّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا.
وما ترك شيئًا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية، إلا علّمنيه وحفظته.
فلم أنسَ حرفًا واحدًا.
ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علمًا وفهمًا وحكمة ونورًا.
فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنسَ شيئًا، ولم يفتني شيء لم أكتبه.
افتتخوف عليّ النسيان فيما بعد؟
فقال: لا، لست أتخوف عليك النسيان والجهل."
انتهى نص الرواية.
ولسنا، أيها المؤمنون، بصدد شرح الحديث ولا بيان جميع ما تضمنه، فإن ذلك يطول.
ما يعنينا منه الآن أن الإمام (عليه السلام) صنف رواة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فئات:
منها ما لا يصح أخذ الحديث منها.
ومنها ما يُتلقى منها بحذر.
ومنها من يُوثق به ثقة تامة.
وبهذا البيان من الإمام (عليه السلام)،
يكون قد أسس لما عُرف لاحقًا بـ"علم الجرح والتعديل"، وهو علم لا غنى عنه في التعرف على رواة الحديث، ومعرفة من يصح الوثوق به ومن لا يصح.
ثم إن الإمام (عليه السلام) بيّن ما يميزه بحق عن غيره ممن صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما تشهد به أحاديث كثيرة، في طليعتها حديث الثقلين المتواتر، الدال على أن العلاقة بين القرآن والعترة وثيقة وغير قابلة للانفكاك، إلى أن يردا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحوض.
وإن التمسك بهما معًا ضمان للإنسان من الضلال، وسبب للهدى.
وقد ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره:
"إن حب علي إيمان، وبغضه نفاق."
غير أن فرقًا من الناس حُرموا البصيرة فيه، فجانبوا الحق والصواب، ووقعوا في وهدة الباطل والخطأ.
فظنوا أن العدل يقضي بالتسوية بين كل من صحب النبي (صلى الله عليه وآله)، مع أن العدل في الحكم يقضي بأن يوضع كل شيء في موضعه، وكل فرد في موضعه.
فليس من التوازن المساواة بين غير المتساويين.
مما ابتُلي به أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه وُزن بما لا يدانيه، فضلًا عن أن يساويه، مما اضطره (عليه السلام) إلى القول في خطبة له:
"لا يقاس بآل محمد (عليهم السلام) من هذه الأمة أحد، ولا يُساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدًا.
هم أساس الدين، وعماد اليقين.
بهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة."
البصيرة، أيها المؤمنون والمؤمنات، مهمة في حياة الإنسان العلمية والعملية، إن أراد أن يحظى برضى ربه وأن يكون من أهل رضوانه.
ومن أهم تطبيقات البصيرة:
أن لا يتلقى العلم إلا من أهله.
أن يوصد باب ذلك أمام غير أهله.
فإن الله تعالى يقول عما يجري يوم القيامة:
"ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا.
يا ويلتاه، ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا.
لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. وكان الشيطان للإنسان خذولًا."
جعلنا الله وإياكم من ذوي البصائر، وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة: وليًا وحافظًا، وقائدًا وناصرًا، ودليلًا وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمتعه فيها طويلًا.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين.
اللهم من أرادنا بسوء فردّه، ومن كادنا فكِده.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، واغنِ فقرائنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا.
ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد ابو القاسم الخوئي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد جعفر مرتضى
الشيخ علي المشكيني
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
أركان السعادة البشرية
تجرّد النفس وبقاؤها
حياة الإنسان والقيم الأخلاقية
القرآن والاتقان في المعاني
مهمة الوقف في الأداء القرآني
الطب عند العرب قبل الإسلام
مَن قتل مشاعرك؟ الكتاب الأوّل للتوستماستر مصطفى آل غزوي
قراءات نقديّة مصريّة لــ (عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي) لرجاء البوعلي
الشّيعة في العصر الأموي
في الزهد ودرجاته وعلاماته