تحدّث سماحة السيد حسن النمر في خطبة له بعنوان: الإمام علي (ع) وصناعةُ البصيرةِ بجزئها الثالث، وذلك في 29 ربيع الثاني 1446 هـ في مسجد الحمزة عليه السلام بسيهات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
"رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي".
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وإن من التقوى أن يكون الإنسان، كما ذكرنا في الأسبوعين الماضيين، على بصيرة من نفسه وأمره وزمانه.
أن يعرف ما ينفعه وما يضره، ويعتقد الحق دون الباطل، ويسلك طريق الهدى دون الضلال.
فيما يتعلق بهذا الأمر، هناك مطالب كثيرة يجب أن تُلاحظ ويُعتنى بها.
فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) له كلام طويل في هذا الباب، وهو باب من أبواب الهداية والمعرفة.
ومن نعم الله على المؤمن أن يكون له إمام مثل علي (عليه السلام)، الذي هو باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي عنه (عليه السلام) من العلم ما يتيح لمن يأتم به أن يكون من أهل البصيرة.
ومما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الباب قوله:
"أما بعد، إن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء، ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء.
وفي دون ما أقبلتم من عتب، وما استدبرتم من خطب، معتبر.
وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر ببصير.
فيا عجبًا، وما لي أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها:
لا يقتصون أثر نبي.
ولا يقتدون بعمل وصي.
ولا يؤمنون بغيب.
ولا يعفون عن عيب.
يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات.
المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا.
مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم.
كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقاة وأسباب محكمات".
هذا القول العظيم من أمير المؤمنين (عليه السلام) يوضح مدى أهمية البصيرة في الدين وفي الحياة.
إنه (عليه السلام) يشير إلى افتقاد الكثيرين للبصيرة، حيث يعتمدون على أنفسهم وأهوائهم، بدلًا من الرجوع إلى أثر النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي (عليه السلام).
الإمام علي (عليه السلام) في خطبته هذه بين مجموعة من الحقائق العميقة التي لا ينبغي أن يغفل عنها المؤمن، وهي كما يلي:
سنة الله في معاقبة الجبارين وإغاثة المظلومين:
إن لله عز وجل سنة لا تتخلف في عقوبة من يبالغون في معصيته من الجبارين.
فهو لا يعاجلهم بالعقوبة، وإن كانوا مستحقين لها تمام الاستحقاق، بل يمهلهم ويمدهم، ليزدادوا إثماً ولتغلظ لهم العقول.
وفي المقابل، لا يستعجل الله في جبر عظم المقهور بغير حق من الناس إلا بعد امتحانات متتالية وشدائد يعقب بعضها بعضاً.
وهذا ما جرى لبني إسرائيل تحت طغيان فرعون، حيث قال تعالى:
"قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".
وهذا أيضاً ما حدث مع المسلمين حين اجتمعت عليهم الأحزاب في واقعة الخندق، كما قال تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً. إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً".
لذلك، يجب على المؤمن الصبر عند البلاء، حتى وإن اشتدت المحنة وطالت المدة.
عدم الاستفادة من التجارب السابقة:
قد تمر الأمم بتجارب مريرة، لكنها لا تحسن الاستفادة منها؛ إما بسبب غياب التدبر أو سوء القراءة لهذه التجارب.
قال الإمام علي (عليه السلام):
"وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر ببصير".
ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى، كما في قوله تعالى:
"ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون".
خط الانحراف يمتد بلا توقف:
إذا وقع الناس في خط الانحراف، فإنهم لا يتوقفون عند حد معين.
بل يأخذهم بعيداً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، لأنهم لم يختاروا السير على منهج الله المرسوم بالإيمان بالغيب واتباع النبي والوصي.
قال الإمام (عليه السلام):
"فيا عجباً! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها: لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب".
إن عدم السير وفق المنهج الإلهي يؤدي إلى أن يرى الإنسان المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.
فيحل الحرام ويحرم الحلال، ويثني على أهل الباطل، ويعيب أهل الحق، ويوالي الأعداء، ويعادي الأصدقاء.
ومثال ذلك حال بني إسرائيل حينما غذّاهم الله بالمن والسلوى، فعدوه طعاماً غير كافٍ وطلبوا استبداله بأدنى منه:
"وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟".
افتقاد البصيرة يطمس فطرة الإنسان:
عندما يفقد الإنسان البصيرة، فإنه يعمى عن الهدى، وتتآكل فطرته السوية.
عندئذٍ لا يعنيه التمييز بين الصواب والخطأ، ولا يهمه التفرقة بين الحق والباطل.
وهذا هو المصير الحتمي لمن يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات.
الأنانية تضخم الذات وتفسد الحكم:
إذا سار الإنسان في خط الانحراف والضلال، فإن ذاته تتضخم وتصبح هي الميزان في الحكم.
لا يرى حقاً وراء أناه، ولا يعتبر باطلاً في هواه.
قال الإمام علي (عليه السلام):
"المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا. مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقاة وأسباب محكمات".
ويصدق هذا المعنى في قوله تعالى:
"بل يريد الإنسان ليفجر أمامه".
ولو سألت، أيها المؤمن، وأيتها المؤمنة، عن السبب الرئيسي لافتقاد البصيرة، لأجابك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بأن السبب هو حب الدنيا والتعلق بها.
الدنيا تصبح الوسيلة والغاية، المقصد والهم، لمن افتقد البصيرة.
قال (عليه السلام) في خطبة أخرى:
"وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها. فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزود، والأعمى لها متزود".
هنا شخوصان: من الدنيا وإليها، وشاخصان:
الأول: البصير، وهو صاحب البصيرة النافذة، المتجاوز للظاهر إلى الباطن.
الثاني: الأعمى، وهو من لا بصيرة له.
فعلى من أراد أن يكون بصيراً، أن يكون ربانياً في ذاته، وفي فعله، وفي وسائله، وفي مقاصده.
ولا يكون كذلك إلا إذا طلب الباقي (الآخرة) على حساب الفاني (الدنيا).
وهذا لا يتحقق إلا بالتعامل مع الدنيا كوسيلة:
يطلب عمرانها في ظل طاعة الله، بعيداً عن معصيته.
يستثمرها في الإصلاح بين أهلها، وليس في الإفساد بالقول أو الفعل.
من أهم ما يعين الإنسان على الزهد في الدنيا هو ذكر الموت.
لهذا، أوصى الإمام علي (عليه السلام) نجله الإمام الحسن (عليه السلام) بالإكثار من ذكر الموت، مبيناً السبب في ذلك بقوله:
"يا بني، أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك. وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها، فقد نبأك الله عنها، ونعت هي لك عن نفسها، وتكشفت لك عن مساوئها. فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهر بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها".
ثم أضاف (عليه السلام):
"نعم معقلة (أي أنعام وبهائم) وأخرى مهمِلة قد أضلت عقولها وركبت مجهولها. صروح عاهة بوادي وعث، ليس لها راعٍ يقيمها ولا يسيمها. سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها".
ذكر الموت وسيلة فعالة لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
يجعل نشاطاتنا الدنيوية وسائل لتأمين العاقبة الحسنة في الدار الآخرة، التي خلقنا الله لنكون من أهلها.
قال تعالى:
"وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه. فريق في الجنة وفريق في السعير".
من أراد البصيرة، فعليه بالتقوى، وهي:
الكلمة الطيبة.
فعل الخير.
سلوك سبيل الهدى والصلاح.
العمل بالحق.
النأي بنفسه عن الباطل وأهله.
قال الله تعالى:
"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه. ذلك لمن خشي ربه".
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم، أيها المؤمنون والمؤمنات، من ذوي البصائر، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صل على محمد وآل محمد.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة: ولياً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين.
اللهم من أرادنا بسوء فارده، ومن كادنا فكده.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقرءئنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا.
ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اللهم صل على محمد وآل محمد.
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد ابو القاسم الخوئي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد جعفر مرتضى
الشيخ علي المشكيني
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
أركان السعادة البشرية
تجرّد النفس وبقاؤها
حياة الإنسان والقيم الأخلاقية
القرآن والاتقان في المعاني
مهمة الوقف في الأداء القرآني
الطب عند العرب قبل الإسلام
مَن قتل مشاعرك؟ الكتاب الأوّل للتوستماستر مصطفى آل غزوي
قراءات نقديّة مصريّة لــ (عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي) لرجاء البوعلي
الشّيعة في العصر الأموي
في الزهد ودرجاته وعلاماته