فجر الجمعة

الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (8)

الشيخ عبد الكريم الحبيل
مسجد الخضر ع بجزيرة تاروت
Dec 13, 2024 - ١١ جمادى الثاني 1446 هـ

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي له الشرف الأعلى، والأسماء الحسنى، والكبرياء، والآلاء، حمداً نبلغ به رضاه، ونؤدي به شكره، ونستوجب به المزيد من فضله.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى.

 

وأشهد أن حبيبه المجتبى، وأمينه المرتضى، المحمود الأحمد، المصطفى الأمجد، أبو القاسم محمد، صلى الله عليه وآله، عبده ورسوله.

 

أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، فأدى الأمانة، ونصح للأمة، وأوذي في جنب الله، وجاهد في سبيل الله، وعبد الله حتى أتاه اليقين. فصلى الله عليه وآله صلاة كثيرة، نامية، زاكية، متواصلة، لا ينقطع أولها ولا ينتهي آخرها.

 

عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله،
فإنها خلق الأنبياء.
من اعتصم بها فقد رزق خير الدنيا والآخرة.
ومن فارقها هوى في مزالق اللذات والشهوات،
ووقع في تيه السيئات، ولزمه كبائر الذنوب والتبعات.

 

ألا وإن أبلغ الحديث وعظة كتاب الله:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا".

 

جعلنا الله وإياكم من خيرة عباده المتقين الصالحين الفائزين.
إنه سميع مجيب.

 

أيها الإخوة الكرام والأخوات المؤمنات، لا يزال حديثنا متواصلاً في موضوع القلب السليم في القرآن الكريم.

 

روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنه قال وهو يتحدث عن الإنسان:
"حتى إذا رأى مدة العمل قد انقضت، وغاية العمر قد انتهت، وأيقن أنه لا محيص له منك ولا مهرب له عنك، تلقاك بالإنابة وأخلص لك التوبة".

 

الإمام علي بن الحسين عليه السلام، في هذا المقطع من دعائه المعنون بعنوان التوبة إلى الله، وهو أحد أدعية الصحيفة السجادية - الدعاء الثاني عشر من أدعية الصحيفة السجادية - يتحدث عن حالة من حالات الإنسان. هذه الحالة تصف رجوع الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى عند إدراكه أن مدة العمل قد انتهت، وأن لا مهرب له عن لقاء الله تعالى.

 

قال عليه السلام:

 "حتى إذا رأى مدة العمل قد انقضت، وغاية العمر قد انتهت، وأيقن أن لا محيص له منك ولا مهرب له عنك، تلقاك بالإنابة وأخلص لك التوبة".

 

حديثنا اليوم عن حالة من حالات القلب السليم التي ذكرها القرآن الكريم، وهي الإنابة.

قال تعالى:
"وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب".
(سورة ق: 31-33)

موضوعنا اليوم تحت عنوان:
"حالة من حالات القلب السليم: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى".

 

تذكير بما سبق:

  • في الجمعة الماضية، تحدثنا عن حالة من حالات القلب السليم، وهي الوجل.

  • استعرضنا الآيات الكريمة التي تحدثت عن الوجل، وذكرنا قسمين:

    1. الخوف من عقابه تعالى.

    2. الخوف من جلال عظمته سبحانه.

  • تناولنا أيضًا الخطوات الموصلة إلى وجل القلوب.

الإنابة لغة واصطلاحاً:

  1. اللغة:
    الإنابة تعني رجوع الشيء بعد أخرى.
    يُقال: نابَ الشيءُ ينوبُ، أي رجع مرة أخرى.

     

  2. الاصطلاح:
    الإنابة تنقسم إلى قسمين:

     

    • إنابة عامة:
       

      • وهي إنابة جميع الخلق لله سبحانه وتعالى، حيث يرجع كل شيء إلى الله.

      • أو بمعنى آخر: رجوع الناس إلى الله عند الشدائد والمصائب، فإذا زالت عادوا إلى ما كانوا عليه.
        قال تعالى:
        "وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربهم منيبين إليه".
        (سورة الروم: 33)
        وقال:
        "وإذا مسَّ الإنسان ضرٌّ دعا ربَّه منيباً إليه".
        (سورة الزمر: 8)

    • الفرق بين الآيتين:
       

      • الأولى تتحدث عن الناس عامة.

      • الثانية تخص الإنسان بما هو إنسان في حال الشدة.

 

حديثنا عن إنابة القلب السليم:

الحديث هنا ليس عن الإنابة العامة، بل عن إنابة القلوب الربانية.

قال تعالى:
"من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب".
(سورة ق: 33)

الإنابة هنا تعني رجوع القلب السليم إلى الله سبحانه وتعالى، خاشعاً له، مستحضراً عظمته وجلاله في كل وقت وحال.

 

الإنابة هنا، وهي إنابة أولياء الله والمؤمنين، هي إنابة عبودية مشفوعة بمحبة الله وخضوع وإقبال عليه، وإعراض عما سواه جل جلاله، مع خشوع الإيمان.

قال تعالى:

 "من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب".
(سورة ق: 33)

هذه الإنابة تتمثل في:

  • محبة الله.

  • الخضوع له.

  • الإقبال عليه.

  • الإعراض عما سواه.

وهي حالة خشوع إيماني نابعة من قلوب حية، ندية، رطبة بالإيمان، كما جاء في قوله تعالى:
"ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أُنيب".
(سورة الشورى: 10)
وقال أيضاً:
"ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير".
(سورة الممتحنة: 4)

هذه الإنابة، التي جاءت على لسان نبي الله إبراهيم عليه السلام، وعلى ألسنة الأنبياء والرسل والمؤمنين، تعبّر عن إنابة العبودية والمحبة والخضوع، والإقبال على الله، والإعراض عما سواه جل جلاله.

 

الفرق بين الإنابة والتوبة:

  1. التوبة:
     

    • رجوع من المعصية إلى الطاعة.

    • إذا كان الإنسان في معصية ثم تركها وأخلص التوبة إلى الله، يُقال إنه "تاب".

    • التوبة تتعلق بترك الذنب والرجوع إلى طاعة الله.

  2. الإنابة:
     

    • رجوع من الغفلة إلى الذكر.

    • قد يكون الإنسان في حالة غفلة، فيرجع إلى الله سبحانه وتعالى بذكره وخشوعه.

 

إنابة الأنبياء وأولياء الله:

  • بالنسبة للأنبياء وأولياء الله، إنابتهم ليست من معصية أو غفلة، فهم معصومون.

  • إنابتهم هي انتقال من مقام إلى مقام أعلى:

    • دائمًا في حالات قرب مع الله سبحانه وتعالى.

    • في حالة ارتقاء متواصل في معرفة الله سبحانه وتعالى والتقرب منه.

 

خطوات الإنابة: كيف يصبح الإنسان أواهًا منيبًا؟

للوصول إلى قلب منيب، ينبغي للإنسان أن يتبع خطوات أساسية أشار إليها علماء السير والسلوك إلى الله، علماء التربية وعلماء الأخلاق:

 

أولاً: الاعتراف بالتقصير:

  • يجب على المؤمن أن يشعر دائمًا بالتقصير تجاه الله سبحانه وتعالى، وأن يدرك حاجته إلى إصلاح نفسه.

  • الاعتراف بالتقصير يعني الالتفات إلى ضرورة تهذيب النفس وترويضها على طاعة الله.

  • هذا الشعور يخلّص الإنسان من الرياء والعجب، ويجعله يسعى دائمًا إلى أداء ما أوجبه الله عليه.

 

ثانياً: المداومة على الاستغفار:

  • المداومة على الاستغفار والرجوع إلى الله أمر أساسي.

  • رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان كثير الاستغفار.

  • الاستغفار يعني طلب غفران الله، وهو إقرارٌ من الإنسان بما ارتكبه من أخطاء وتقصير تجاه خالقه.

 

ثالثاً: التوبة النصوح:

  • التوبة النصوح تتطلب ثلاثة مقومات أساسية:

    • ترك المعصية.

    • الندم على فعل المعصية.

    • العزم على عدم العودة إليها.

  • يجب أن يدرس الإنسان أسباب ارتكابه للذنوب، ليعرف جذور المشكلة في نفسه:

    • هل هي ميول نحو الهوى؟

    • هل هي عجب أو حب للظلم؟

  • قراءة النفس قراءة دقيقة تساعد على التخلص من أسباب ارتكاب الذنوب، وبالتالي تحصن الإنسان من الوقوع فيها.

 

رابعاً: التعهد بالثبات على الاستقامة:

  • المؤمن يتعهد بالثبات على الاستقامة، لأن الإيمان التزام وقيد يمنع من الوقوع في المعاصي.

  • قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
    "الإيمان قيد الفتك".

  • الإيمان هو حدٌّ يمنع الإنسان من تجاوز حدود الله.

  • قال الله تعالى:
    "تلك حدود الله فلا تعتدوها".

  • الالتزام بالاستقامة هو جزء من العهد مع الله، كما قال تعالى مخاطبًا نبيه محمد صلى الله عليه وآله:
    "فاستقم كما أمرت".

 

خامساً: مراقبة النفس:

  • يجب على الإنسان أن يراقب نفسه دائمًا، ويتعرف على مساراتها وأفكارها.

  • ينبغي أن يستحضر الله كرقيب عليه دائمًا:
    "عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا".

  • مراقبة النفس تعني مراقبة الفكر قبل العمل، لتجنب الوقوع في المعاصي.

مثال عن مراقبة النفس:

  • يُروى عن الشريف الرضي والشريف المرتضى أن أستاذهما أراد أن يهدي كتابًا لمن لم يرتكب ذنبًا، بل ولم يفكر حتى في فعل الذنب.

  • الكتاب كان من نصيب الشريف المرتضى، لأنه لم يفكر في الذنب، بينما الشريف الرضي لم يفعل الذنب لكنه فكر فيه.

 

سادسًا: محاسبة النفس

  • يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائمًا على ما فعلت، فيفكر في أفعاله اليومية ويتأمل في تقصيره وطاعته.

 

باتباع هذه الخطوات يرتقي القلب إلى درجة الإنابة ويصبح قلبًا منيبًا.
وحينما يصبح قلب الإنسان منيبا، فإن الله سبحانه وتعالى يتكفل بذلك الإنسان، ويأخذ بيده، ويجعل له نورًا يمشي به بين الناس، ويهديه إلى الصراط المستقيم.
عندئذٍ يصبح من أولياء الله سبحانه وتعالى ومن الموفقين إلى طاعته.

علامات التوفيق:

  • إذا وجدت نفسك ملتزمًا بمجالس الذكر.

  • حاضرًا في مساجد الله ومجالس الوعظ ومآتم أهل البيت عليهم السلام.

  • موفقًا للحج أو العمرة أو زيارة الأئمة الأطهار.

  • مجتنبًا للمعاصي والآثام وأذية الناس.

  • محبًّا للخير للآخرين.

فاعلم أن هذا توفيق من الله سبحانه وتعالى وهداية وتولية منه لك.

 

ثمار الإنابة إلى الله:

1. الهداية إلى الصراط المستقيم:

  • الله سبحانه وتعالى يهدي المنيبين إليه إلى صراطه المستقيم والحق.

  • قال تعالى:
    "قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب".

  • وقال أيضًا:
    "الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب".

 

2. البشرى في الدنيا والآخرة:

  • الله سبحانه وتعالى يبشر المنيبين إليه بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

  • قال تعالى:
    "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى".

  • عند قبض أرواحهم، تبشرهم الملائكة بالجنة، بالمغفرة، وبما أعده الله لهم من نعيم وثواب جزيل.

 

3. الجنة للمنيبين:

  • الله سبحانه وتعالى يعد الجنة للمنيبين إليه.

  • قال تعالى:
    "وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب".

  • الجنة تُزلف للذين كانوا أوابين، يراعون حلال الله وحرامه، ويخشونه بالغيب، ويأتونه بقلوب تائبة منيبة.

 

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من خيرة عباده المتقين الصالحين، وأن يوفقنا لأن نأتيه يوم القيامة بقلب سليم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
"بسم الله الرحمن الرحيم.
والعصر، إن الإنسان لفي خسر،
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".

والحمد لله رب العالمين.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد