أعوذ بالله من الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
"ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ"
صدق الله العلي العظيم
حدثينا هذه الليلة حول الحياة، وذلك في عدة محاور:
- ما هو تعريف الحياة؟
- هل الأصل هو الحياة؟ أم الأصل هو المادة التي نتعامل بها؟
- وكيف نوفق بين أصالة الحياة؟ وبين القانون "أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث"؟
- وما هي الرؤية القرآنية للحياة؟
نأتي للمحور الأول: ما هي الحياة؟
حدد علماء الأحياء الحياة بعدة سمات:
السمة الأولى: الانتظام
الكائن الحي كالإنسان والحيوان يمتلك أجهزة متناسقة ومتفاعلة، ومعنى ذلك أن هناك نظامًا لأجزائه. لاحظوا جسم الإنسان مثلاً، الخلايا كونت الأنسجة، الأنسجة تعاونت وكونت الأعضاء، الأعضاء تعمل لتكون أجهزة جسم الإنسان. إذًا هناك أجزاء تتفاعل وتتناسق في نظام معين حتى تشكل جسم الإنسان. لذلك نقول إن للإنسان حياة، لأنه يمتلك أجزاء تتفاعل وتتعاون، ليكون هذا البناء وهذا الجسم.
السمة الثانية: التمثيل الغذائي
لا يوجد كائن حي لا يتغذى. الحياة تعني الغذاء، الكائن الحي يعيش على التمثيل الغذائي، يستخدم الطاقة ويستهلك عناصر الغذاء هدمًا وبناءً. يعني الحياة تعني التغذية.
السمة الثالثة: الاستباب
ما معنى الاستباب؟ كل كائن حي يتكيف مع المحيط الذي هو فيه، ويكتسب المناعة أمام المحيط. معنى هذا الكلام أن الكائن الحي يملك القدرة على استقرار البيئة الداخلية، وإن تغيرت البيئة الخارجية. لاحظ جسم الإنسان يمتلك القدرة على أن يحتفظ بدرجة حرارة ٣٧ درجة مئوية، يحافظ عليها الجسم حتى في الأجواء الحارة وحتى في الأجواء الباردة. الجسم يقتدر على أن يحافظ على استقرار بيئته مهما تغيرت الأجواء. هذه سمة من سمات الحياة يعبر عنها بالاستباب.
السمة الرابعة: النمو
أنت كنت خلية واحدة، الآن أنت تملك عشرات التريليونات من الخلايا التي تموت وتحيا. يعني أنت في حالة نمو دائم.
السمة الخامسة: التكاثر
عن طريق التوالد والتناسل، الحياة تعني التكاثر.
السمة السادسة: التطور
لاحظوا كل تركيبة جينية يمكن أن تتغير بمرور الوقت. يمكن أن تتطور بمرور الوقت، لذلك وكالة ناسا عندما عرّفت الحياة قالت: الحياة نظام قائم بذاته قادر على التطور الجيني، يمكن لهذه المجموعة وهذه التركيبة الجينية أن تتطور بمرور الوقت. إذاً هذه السمات التي ذكرناها هي مظاهر الحياة، هي علامات الحياة. الحياة تعني النمو، التكاثر، التغذية، المناعة، والتطور. الحياة هي مجموعة هذه السمات.
هنا يأتي السؤال: ما هو الأصل في هذا العالم الذي نعيش فيه؟ هل الأصل هو المادة؟ أم الأصل هو الحياة؟
جسمنا مادة، المكان مادة، كل ما نتعامل به مادة. ما هو الأصل في هذا الوجود؟ الحياة أم المادة؟ الحياة، الحياة أسبق من المادة، الحياة أعمق من المادة، الحياة تكمن وراء المادة. حتى أبرهن على ذلك، حتى أوضح لك ذلك، هناك شاهدان على أن الحياة أوسع وأعمق من المادة التي نتعامل بها:
الشاهد الأول
كل مادة تمتلك أبعاداً أربعة: طول، عرض، عمق، وزمن. لكن هذه المادة إذا تحركت تكتسب بعداً خامساً اسمه الحياة. الحياة بعد خامس تكتسبه المادة من خلال حركتها. أضرب لك مثالاً: البذرة، بذرة شجرة التفاح. هذه البذرة عندما نضعها في التربة ونوفر لها السماء ونسقيها بالماء، تبدأ البذرة تتحرك. حركة البذرة تكسبها الحياة. لولا الحركة لما أصبحت البذرة حية، لما تحولت إلى شجرة، لما نمت وتكاثرت. إذاً البذرة مادة ولكن عبر الحركة اكتسبت الحياة. الحياة كمال لحركة المادة. نفس الشيء في الإنسان، من أين جاء الإنسان؟ "من نطفة إذا تمنى". هذه النطفة بمجرد أن تتلقح مع بويضة الأنثى وتلتصق بجدار الرحم، تبدأ هذه النطفة تتحرك. فإذا تحركت اكتسبت الحياة. القرآن الكريم يقول: "لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين". هذه الحركة من نطفة إلى خلق آخر (نمو) جاء عبر حركة. إذاً المادة تكتسب الحياة إذا تحركت. المادة تتحول إلى حياة إذا تحركت. هذا يعني أن الحياة هي الأصل، هي الطاقة المبثوثة في الكون. فقط المادة عليها أن تتحرك. إذا أرادت المادة أن تكتسب الحياة، عليها أن تتحرك فتكتسب هذا البعد الخامس المسمى بعد الحياة.
الشاهد الثاني
من أروع وأجلى صور الحياة (التفكير)، التفكير هو أعلى درجات الحياة. الحيوان يمتلك حياة لكنه لا يمتلك حياة التفكير والنطق. النبات يمتلك حياة لكنه لا يمتلك حياة اللغة والتفكير. إذاً أعلى درجات الحياة هو التفكير. التفكير أوسع من عالم المادة. المدرسة الوظيفية في علم النفس، إحدى مدارس علم النفس، تقول: "الكائن الحي يتكيف مع المحيط عضوياً وفكرياً". أنت كنت في لبنان كنت تتكيف مع المحيط، جئت إلى الولايات المتحدة صار عندك تكيف آخر مع المحيط الذي أنت فيه. الكائن الحي يتكيف مع محيطه عضوياً يعني جسمياً وفكرياً أيضاً، ولكن العقل يتجاوز محيطه وزمانه وما هو فيه. العقل يستطيع أن يتجاوز عالم المادة بآلاف السنين لأنه يمتلك القدرة على الإبداع، التأمل، والتفكير. مثلاً أفلاطون سبق زمانه، أرسطو سبق زمانه، النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، علومهما ملهمة من السماء. ولكن لو اعتبرناهم كالبشر، سبقوا أزمنتهم لأن العقل قادر على أن يتخطى الزمان ويتجاوز المادة بتأملاته وتحليلاته واستنتاجاته. إذاً الحياة ليست سجينة في عالم المادة، الحياة ليست ظاهرة فيزيائية تعيش في المادة، ليست تفاعلات كيميائية في صميم المادة. الحياة أعمق من ذلك وأوسع، تتجاوز المادة والزمن والعالم كله. تعبر مما يدل على أن الحياة أعمق وأوسع مما نشهده من عالم المادة. لاحظوا حتى حركة الجزيء تحت الذري حول النواة، هذه الحركة التي بالمجهر لا نراها، تكشف عن حركة الحياة. حركة الجزيء تحت الذري حركة ظاهرية تنبئ عن حركة جوهرية أعمق من هذه الحركة الظاهرية. تلك الحركة الجوهرية هي حركة الحياة، هي المسماة بالحياة "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً".
نأتي إلى المحور الثاني
هل الحياة التي هي أوسع وأعمق من عالمنا وعالم المادة الذي نعيش فيه، جاءت هكذا صدفة؟ هل الحياة وجدت بلا سبب؟ القرآن الكريم يقول: "أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَٰلِقُونَ". الحياة لها مبدأ، الحياة لها مصدر. ما هو مصدر الحياة؟ ما هو مبدأ الحياة؟ لم تأتِ الحياة صدفة، لم تأتِ الحياة بلا سبب. مبدأ الحياة الحي "لا إله إلا هو الحي القيوم". جاءت الحياة من خلال مبدأ، من خلال مصدر. ذلك المصدر هو الحياة الأزلية المعبر عنها (الله). الله قدرة وعلم وحياة. من تلك الحياة التي لا حدود لها جاءت هذه الحياة التي نعيشها ونتنفسها ونتفيأ ظلالها.
هنا يأتي سؤال
هناك قانون نيوتني فيزيائي يقول: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث". ما معنى الطاقة؟ الطاقة هي القدرة على بذل الشغل. كيف يعني القدرة على بذل الشغل؟ يعني الطاقة تنتقل من جسيم إلى جسيم، من نظام إلى نظام. أنت تأخذ الماء تجعله على النار، ينتقل مقدار من الطاقة الحرارية من النار إلى الماء. هذا الانتقال من جسيم إلى جسيم ومن نظام إلى نظام يسمى شغلاً. القدرة على الشغل يعني القدرة على الانتقال من جسيم إلى جسيم يسمى (طاقة). والطاقة قد تكون كامنة وقد تكون حركية. الطاقة الحركية قد تكون ميكانيكية، قد تكون كيميائية، قد تكون حرارية. المهم أن الطاقة بما أنها تعني الحركة إذاً الحياة طاقة. الحياة نوع من الطاقة. بما أن الحياة طاقة، بما أن الحياة نوع من الطاقة، هنا يأتي السؤال: لدينا قانون فيزيائي يقول: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث". يعني أن الحياة لا تفنى ولا تستحدث لأن الحياة نوع من الطاقة. فالطاقة لا تفنى ولا تستحدث. هذا يعني أن الحياة أبدية وأزلية ليس لها مبدأ ولا تحتاج إلى إله ولا خالق. لماذا؟ لأن الحياة طاقة والطاقة لا تفنى إذاً لن تموت الحياة ولا تستحدث إذاً لا تحتاج إلى إله ولا خالق. كيف نوفق بين أن الحياة جاءت وليدة من الحي القيوم وبين هذا القانون الفيزيائي الذي يقول: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث والحياة نوع من الطاقة"؟
انتبه إلى الجواب جيداً
الفهم للقانون الفيزيائي هذا فهم خاطئ. الذي يفهم هذا القانون بهذا الشكل، أن الطاقة أبدية أزلية، هذا فهم خاطئ. دعني أبيّن لك هذا القانون الفيزيائي. هذا العالم الذي نعيش فيه منذ الانفجار العظيم قبل 13 مليار سنة فاصلة سبعة. منذ الانفجار العظيم، الانفجار كيف جاء؟ هناك متفردة بداخلها هذه المتفردة التي هي في نهاية الصغر طاقة مهولة مخزونة. انفجرت تلك المتفردة فتشكل هذا الكون. تلك الطاقة التي كانت مخزونة ثم انفجرت هي نسبة واحدة لا تقل ولا تزيد. منذ 13 مليار سنة الطاقة هي هي نفس النسبة. الطاقة لا تزيد ولا تنقص. نعم، تتحول من صورة إلى صورة لكن هي بنسبة واحدة. معنى أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث يعني أن الطاقة التي أودعها الله في هذا الكون أودعها بنسبة واحدة لا تزيد ولا تنقص. تتحول من صورة إلى صورة لكن لا تزيد ولا تنقص.
أضرب لك أمثلة
نحن الآن في أيام الشتاء في الجو البارد، ماذا نصنع؟ نحك اليد بالأخرى. هذا حك اليد بالأخرى، ماذا يعني؟ يعني أن الطاقة الميكانيكية الموجودة تتحول إلى طاقة حرارية عبر عملية الحك. انتقلت الطاقة من صورة إلى أخرى لكن النسبة واحدة. الفحم الذي نستخدمه في أيام الشتاء هذا الفحم طاقة كيميائية. بمجرد أن يتعرض إلى النار يتحول إلى طاقة حرارية. الطاقة انتقلت من صورة إلى صورة أخرى، لكن النسبة واحدة. إذاً القانون الذي يقول: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث" لا يقول بأن الطاقة أبدية أزلية ليس لها مصدر، لا. يريد أن يقول إن الطاقة الموجودة في عالمنا وهي عالم المادة هذه الطاقة بنسبة واحدة لا تقل ولا تزيد. ليس معناها أن الطاقة لا مبدأ لها وأنها أبدية خالدة لا يمكن لها الفناء. هذا معنى أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث.
الآن نأتي إلى المحور الأخير
الحياة بالرؤية القرآنية: كيف يقرأ القرآن الحياة؟ كيف يتحدث القرآن عن الحياة؟
أمور ثلاثة يذكرها القرآن الكريم في إطار الحياة:
الأمر الأول
ما هو الدليل على أن الحياة جاءت من مبدأ وهو الله تبارك الرحمن؟ نحن نرى الحياة ألواناً وأشكالاً، حيوانات، نباتات، طاقات متفجرة متلونة. ما هو الدليل على أن هذه الحياة جاءت من مبدأ هو الحي القيوم تبارك وتعالى؟ القرآن يطرح دليلين. الدليل الأول: الحياة تأتي عبر تناسل وتوالد. التفاحة تتحول إلى بذرة، البذرة تولد تفاحة مرة ثانية، الإنسان يولد إنساناً وهكذا. لكن لنرجع إلى أول خلية، أول خلية حية وجدت في هذا الكون. نرجع إلى أول خلية، من أين أتت؟ كل الحياة جاءت من طريق التناسل والتوالد، لكن عندما نرجع إلى أول خلية حية، من أين جاءت؟ هل جاءت صدفة؟! غير معقول! هل جاءت بلا سبب؟! غير معقول! إذاً أول خلية احتاجت إلى مصدر يبثها ويوجدها ويكون ذلك المصدر حياً أيضاً "لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ" لأن فاقد الشيء لا يعطيه. مبدأ الحياة حي، مبدأ الحياة حياة لا حدود لها. القرآن الكريم يقول: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُۥ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْـًٔا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ". مستحيل الإنسان يقدر يصنع الحياة. الذباب هذا مثال للحياة للكائن الحي. "إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُۥ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْـًٔا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ". ذبابة تسلبك شيئاً لا تقدر تستنقذه، لا تقدر تسترجعه. "ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ"، "مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ". لا يستطيع الإنسان أن يصنع ذبابة، القرآن يتحدى إلى يوم القيامة. لا يمكن للإنسان أن يصنع الحياة. أول خلية حية جاءت من الحي القيوم. الإنسان لا يستطيع أن يصنع الحياة. يمكن أن يقول أحد: العلم يتطور، ممكن العلم بعد 100 سنة، بعد 1000 سنة، يستطيع أن يصنع الخلية الحية. ممكن لأن العلم في حالة نمو وتطور. مهما تطور العلم، يستطيع أن يوفر ظروف الحياة لا أن يصنع الحياة. فرق بين أن توفر ظروف الحياة وبين أن تصنع الحياة. يعني الآن مثلاً الذكر والأنثى، عندما يلتقي الذكر والأنثى، إذا التقى الذكر والأنثى نبعت الحياة في رحم الأنثى. هل الذي صنع الحياة هو الذكر؟ هل الذي صنع الحياة هي الأنثى؟ أبداً! الذكر والأنثى لم يصنعها حياة، وإنما وفّرا الظروف. لأجل وفرة الظروف جاءت الحياة. الذكر والأنثى بلقائهما أعدّا الظروف الملائمة لولادة الحياة ولنبع الحياة. إذاً الحياة لا يصنعها الإنسان. الإنسان فقط يهيئ الظروف فتأتي الحياة. القرآن الكريم يركز على هذه النقطة: أن الإنسان لا يقدر يصنع الحياة. يقول القرآن: "أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ () ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلْخَٰلِقُونَ". المني علامة على الحياة. هل أنتم تخلقونه أم نحن؟! "أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ () ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلْخَٰلِقُونَ"، "أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ () ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ"، "أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ () ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ". يريد أن يقول: الحياة بكل مظاهرها وألوانها، نحن مصدرها لأن الحياة تحتاج إلى حي يمدها ويبعثها. فهذه المظاهر الحية مصدرها الحي القيوم.
نأتي إلى الدليل الثاني الذي يذكره القرآن
القرآن الكريم يقول: الإنسان ليس فقط يعجز عن الحياة، بل يعجز حتى عن استمرار الحياة. كما يعجز عن صنع الحياة، يعجز أيضاً عن إبقاء الحياة. لا صنع الحياة ولا بقاء الحياة بيد الإنسان. صنعها واستمرارها وتلونها كله يرجع إلى مصدر الحياة الأول. "وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" قالوا: الله صنع الحياة وبعد ذلك تستمر الحياة وحدها ولا تحتاج إلى الله! لا لا.. "وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ" هو مصدر الاستمرار، هو مصدر البقاء، لا تستغني عنه الحياة لحظة واحدة، بل يداه مبسوطتان. قال تبارك وتعالى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" في كل لحظة أنتم مرتبطون بالله. فلنقرأ الآية التي افتتحنا بها ونسأل عن معناها. الآية التي افتتحنا بها: "ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" ما معنى خلق الموت والحياة؟ الحياة فهمنا خلقها، لكن الموت كيف خلقه؟ الموت عدم، فناء! كيف الله خلق الموت؟ الآية تقول خلق الموت والحياة. كيف خلق الموت؟ والموت عدم. فلنفهم هذه النقطة. هنا تفسيران للآية المباركة "تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍۢ قَدِيرٌ () ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ".
هنا تفسيران
التفسير الأول: الموت ليس فناء، الموت وجود. الموت هو عبارة عن سفر وانتقال من عالم إلى عالم. خلق الناس للبقاء فظلت أمة يحسبونهم للنفاذ. إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد. الموت ليس فناء، الموت حركة، سفر، انتقال. كما خلق الحياة، خلق السفر، خلق حركة من عالم إلى عالم آخر. هذا التفسير الأول لخلق الموت والحياة.
التفسير الثاني: خلق الموت والحياة يعني خلق تزاوج بين الموت والحياة. الموت والحياة زوجان في هذا العالم لا ينفصلان أبداً. كل لحظة فيها حياة فيها موت. شوف هذا الجسم الذي نعيشه، في كل لحظة يموت ويحيى. تموت ملايين الخلايا وتحيا ملايين الخلايا في إطار هذا الجسم. أنت تعيش دائماً بين موت وحياة. خلق الموت والحياة يعني خلق تزاوج وتقارن بين الموت والحياة في كل لحظة. "ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا".
نأتي الآن إلى الأمر الثاني الذي ذكره القرآن الكريم
الحياة قسمان: قد أحلق بك قليلاً لتنقل إلى عالم آخر. الحياة قسمان: حياة ملكية وحياة ملكوتية. الحياة الملكية هي هذه الحياة القصيرة الفانية التي نعيشها. هذه حياة ملكية، القرآن الكريم يعبر عنها "تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ". هذه حياة ملكية. لكن هناك حياة ملكوتية، القرآن الكريم يعبر عنها: "فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". الحياة الملكوتية ما هي؟ عندما نقرأ قوله تعالى: "تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ". كل شيء يسبح، إذاً كل شيء له لغة، إذاً كل شيء له حياة. التسبيح فرع اللغة، اللغة فرع الحياة. التسبيح فرع الوعي، الوعي فرع الحياة. إذا كان كل شيء يسبح، إذاً لكل شيء حياة، لكن ليست حياة ملكية وإنما حياة ملكوتية، حياة غيبية، حياة نحن لا نراها ولا نبصرها ولكنها موجودة. تلك الحياة الملكوتية نحن كلنا كنا قبل هذا العالم أحياء. كنا أحياء ثم جئنا إلى هذا العالم. كنا في عالم قبل هذا العالم، ذلك العالم الذي كنا فيه كان أيضاً عالم حياة. لاحظوا القرآن الكريم عندما يقول: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ". الإنسان عندما يموت يذهب إلى الله فرادى، لا أب، لا أم، لا أهل، لا زوجة، لا أولاد. يذهب بمفرده هو وقطعة كفنه. القرآن الكريم يقول: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ". ماذا يعني أول مرة؟ يعني الإنسان خلق مرتين! وإلا لماذا يقول أول مرة؟! كلمة أول مرة تعني هناك مرة ثانية. يعني أن الإنسان خلق مرتين. المرة الأولى خلق مفرداً، لا أب، لا أم، لا عشيرة، لا زوجة. خلق وحده. والمرة الثانية خلق من أب وأم. المرة الثانية من أب وأم، هذه نحن في الدنيا خلقنا من أب وأم. أما المرة الأولى خلقنا في عالم الذر قبل هذا العالم. خلقنا كل وحده، خلقت الأرواح والأنفس بلا أب، بلا أم، بلا عشيرة، بلا علاقات، بلا ارتباطات. لذلك القرآن يعيدنا لذلك العالم: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ". "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُواْ بَلَىٰ". هذه الشهادة كانت في عالم قبل هذا العالم، في عالم الذر قبل هذا العالم. القرآن الكريم يقول: "وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٍۢ مَّعْلُومٍۢ". كل شيء كان مختزناً عند الله ثم نزل إلى عالم الدنيا. نحن أيضاً كنا مختزنين في عالم آخر ثم نزلنا إلى الدنيا بأقدار معينة. "وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٍۢ مَّعْلُومٍۢ".
يأتي بعض الناس ويقول
ما في عالم بعد الموت، خلاص. الإنسان عندما يموت ينام ولا يصحو إلا يوم القيامة. ما في عالم بعد الموت، لا لا! أنت مشتبه، العالم الحقيقي هو بعد الموت. هذا العالم الذي أنت فيه عالم زائل، تافه، قصير. العالم الحقيقي هو الذي ستفتح عينيك عليه بعد الموت مباشرة. في أول لحظة بعد الموت ستفتح عينيك على العالم الحقيقي. أنت الآن في عالم صغير، أنت الآن في عالم قصير وضيق. بمجرد أن تموت سترى عالماً غريباً، أشباحاً، أرواحاً، ملائكة، أصنافاً وألواناً. عالم لم تعهده ولم تره يوماً من الأيام ستنفتح عليه في أول لحظة بعد الموت. ويقول القرآن الكريم: "وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ٱلْمَوْتِ بِٱلْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ". ثم يقول: "فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ". أنت أصلاً كنت في غطاء، كنت في الدنيا أعمى، كان حولك غطاء. سنكشف عنك الغطاء وسترى العالم الحقيقي كما خلقه الله. "فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ". هذه هي الحياة الملكوتية الحقيقية.
الأمر الأخير الذي ذكره القرآن الكريم
الحياة بعد الموت قسمان: (حياة انفصالية، حياة اتصالية).
الحياة الانفصالية مثل حياة أكثرنا، أكثرنا إذا مات يعيش بعد الموت حياة ثانية لكن حياة منفصلة عن هذا العالم. ينطلق إلى حياة أخرى منفصلة عن هذه الحياة. لكن هناك قسم من الناس يموت، ولكن تبقى له علاقة مع عالم الدنيا. هو مات، ولكن تبقى له علاقة مع عالم الدنيا. يبقى يرفرف على الأرض، يرفرف على عالم الدنيا. وإن مات، يعيش حياة اتصالية لا انفصالية. هؤلاء الذين يعيشون حياة اتصالية بعد الموت، يقول عنهم القرآن الكريم: "وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". ويقول: "وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ". هم معكم ولكن لا تشعرون بهم. هم يرفرفون عليكم ولكن لا تشعرون بهم. هم انطلقوا وماتوا ولكن حياتهم بعد الموت حياة اتصالية، حياة ترتبط بالأرض، ترتبط بالكائنات على الأرض. لذلك يقول القرآن: "ولكن لا تشعرون". حياة الشهداء، حياة الذين ضحوا وبذلوا وقدموا في سبيل مبادئهم، في سبيل قيمهم، في سبيل إحياء أمر السماء على الأرض، هؤلاء يبقون أحياء في الدنيا وفي الآخرة. لذلك أنت تقرأ في زيارة الشهيد سيد الشهداء: "أشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب". هو يسمع سلامنا ويرد جوابنا لأنه يعيش حياة اتصالية، روحه ترفرف على ذلك الضريح العظيم. "أشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب". أنت الشهيد يحيى، فكيف بسيد الشهداء، فكيف بأبي الأحرار، أبي عبد الله الحسين.
يا سيد الشهداء، أنت في قلوبنا، أنت حي في قلوبنا وفي ضمائرنا وفي دموعنا وفي حرقات أنفاسنا، أبا عبد الله.
لا تطلبوا المولى الحسين
بشرق أرضٍ أو بغربِ
ودعوا الجميع وعرّجوا
نحوي فمشهده بقلبي
أي المحاجر لا تبكي عليك دماً
أبكيت والله حتى محجر الحجرِ
هذه الأيام أيامك، أيام ذكراك الأليمة، أيام ذكراك الحزينة، أبا عبد الله. أيام الدموع، أيام البكاء، أيام ذكرى تلك المصيبة. "أشهد لقد عظمت المصيبة وجلت الرزية بك علينا وعلى جميع أهل الإسلام". أبا عبد الله، الأئمة الطاهرون في هذه الأيام، أيام محرم، يحيون العزاء، يحيون المصيبة. الإمام الرضا عليه السلام يقول: "من ذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة".
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ