الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ فوزي آل سيف: المرجعيّة الشّيعيّة

الليلة الرابعة من محرم 1446 هـ
الشيخ فوزي آل سيف
(المرجعيّة الشّيعيّة)
مسجد الخضر بجزيرة تاروت

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله العظيم في كتابه الكريم: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" آمنا بالله صدق الله العلي العظيم.

حديثنا بإذن الله تعالى يكون بعنوان المرجعية الدينية الشيعية مرة أخرى، ونقصد بذلك أننا قد تحدثنا في بعض السنوات الماضية عن موضوع المرجعية الدينية الشيعية وبيّنا جانبًا من الجهات المعادية للمرجعية الدينية الشيعية وأساليبهم في محاربتها.

وعلى إثر ذلك أيضًا وفق الله وتم كتابة كتاب لمن أراد المطالعة والتفصيل بعنوان "المرجعية الدينية الشيعية"، يتحدث عن لزوم الحاجة إلى التقليد وإلى المرجعية وإلى ما حققته مرجعية الشيعة خلال القرون الماضية بعد زمان الغيبة، وتاريخ الرجوع والتقليد والأعداء وأساليبهم وغير ذلك من المواضيع التي ترتبط بهذا الأمر.

نحن في هذه الليلة نتحدث عن لزوم الرجوع إلى المرجعية الدينية والالتزام بفتاواها لكي يصوغ الإنسان عباداته ومعاملاته على أساس الحكم الشرعي الصحيح والسليم. يحدونا إلى ذلك بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه هو أن هناك جهات لا تزال تحارب المرجعية الدينية الشيعية، وتشيع عنها وتتهجم عليها وتحاول أن تقنع الناس غير الواعين بعدم الحاجة إلى ذلك وترمي هذه المرجعية بشتى أنواع وصنوف التهم.

ولا غرابة في ذلك، فإن الصغار عادة في عبثهم إنما يرمون الأشجار المثمرة دون الأشجار قليلة الثمر. قسم من الصغار عندما لا يكونون مؤدبين يأتون إلى شجرة مليئة بالثمر فيرمونها بالأحجار حتى تتساقط ثمارها.

 

هناك فئات من أبناء الأمة ومن أبناء الشيعة حتى يقومون بما يقوم به هؤلاء الصغار من رمي المرجعية المثمرة والنافعة في هذا الأمر. إضافة إلى ذلك، الاعتقاد الموجود بأن الجهات المعادية للأمة وللطائفة لابد أن تستمر كما كانت قد بدأت، لابد أن تستمر في تشويه صورة وسمعة المرجعية، لأن هذه الجهات المستعمرة والمرتبطة بالمستعمر تريد إضعاف الأمة، فتركز تحديدًا على النقاط التي تعتمد عليها الأمة وتتكئ عليها.

وأهم ذلك عندنا الإمامية هو مرتكز المرجعية الدينية فمن الطبيعي لإضعاف هذه الطائفة أن تقوم الجهات المستعمرة المعادية بالتهجم على هذا العمود الأساس. لذلك نعيد الحديث مرة أخرى في هذا الاتجاه فنقول: أصل موضوع الرجوع والمرجعية إلى من هو عارف بالدين هو نزوع فطري عند البشر، وهذا ليس خاصاً بالمسلم ولا بالشيعة. كل إنسان، كل البشر في داخله نداء فطري يدعوه للبحث عن خالقه وعلى التزام أوامر خالقه. الله سبحانه وتعالى غرس في نفوس البشر فطرة تهديهم إلى وجود الخالق وإلى الارتباط به، ولذلك يحتج عليهم أن من لم يلتفت ومن لم يعمل خالف نداء الفطرة. أما لو تركهم هكذا فلا يوجد هناك شيء يحدوه إلى أن يفتش عن خالق وعن ربّ وعن إله.

لذلك يوجد نزوع فطري في داخل نفس كل إنسان في البداية أن يبحث عن الخالق. ولذلك قال بعض الباحثين في الآثار والعهدة عليهم: إننا فيما بحثنا في الآثار في الحضارات المختلفة في أدوار الإنسان المتعددة في كل مكان وجد فيه إنسان لابد أن يكون هناك مكان يرتبط بالله. بينما سائر الأمور ليست ضرورية، لكن لابد من وجود معبد يتعبد فيه البشر لخالقهم، هذا يكون خطأ أو صواباً، على نهج الأنبياء أو غير نهج الأنبياء، المهم وجد مكان للبشر الذين يعيشون في تلك المنطقة في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها بحسب الأحافير.

 

لابد أن يكون هناك شيء يرتبط بالعبادة للخالق. على هذا الأساس كانت مهمة الأنبياء أنهم يستفيدون من هذا النزوع الفطري عند البشر ويقدمون للإنسان الهداية. أنت يا من تفتش عن خالق، يا من تفتش عن مدبر، يا من تفتش عن إله، هذا هو الطريق، الطريق عبر الكتب السماوية وعبر الأنبياء الذين يأتون من قبل الله عز وجل. فأصل البحث التفت إلى هذه النقطة، أصل البحث عن الطريق الموصل إلى الله عز وجل هو فطرة إنسانية في كل البشر، قد يخطئ البعض هذا الطريق وقد يصيب البعض الآخر.

لذلك حينما تقرأ القرآن، كثير من هؤلاء إذا قيل لهم لماذا تتبعون آباءكم؟ لماذا لا تتبعوا الأنبياء؟ لماذا أنتم ضالين؟ "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا". القرآن لا ينكر عليهم أصل الاتباع وإنما ينكر عليهم أن يتبعوا أشخاصًا لا يعقلون ولا يهتدون، "أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ". ليس أصل الاتباع فيه مشكلة، أصل الاتباع لا مشكلة فيه. أن إنساناً يبحث عن طريق الله عز وجل فيعتقد في هذا الشخص أنه طريق موصل، كلا، الله يقول له لا، والدك هو على ضلال بالنسبة إلى الأقدمين، هذا الطريق ليس صحيحاً، أنت اتبع ولكن اتبع من يعقل، من يعلم، ومن يهدي، "أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ". في مكان آخر يقول "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". أصل الاتباع مطلوب وهو فطري، ولكن يحتاج أن تتبع من يهديك إلى الصراط المستقيم.

هذا أول شيء، البحث عن طريق موصل إلى الله عز وجل في عبادته هو نزوع فطري عند البشر جميعاً. قد يسلك الإنسان الطريق الصحيح الموصل وقد يسلك طريقاً خاطئاً، طريق الأنبياء طريق موصل، طريق الرسل طريق موصل، طريق الأوصياء طريق موصل، وطريق العلماء العارفين بالله طريق موصل. أضف إلى ذلك أن بناء العقلاء غير الموضوع الإيماني والديني والفطري. بناء العقلاء في كل أدوار حياتهم وتاريخهم ووجودهم هو أنهم يرجعون إلى المتخصص في كل فن ويأخذون بكلامه. تريد أن تبني لك بيت، إذا أنت الهندسة والمعرفة تبنيه على ذوقك، لكن إذا لم تكن كذلك تذهب إلى مهندس، هذا المهندس يرسم لك الخريطة ويعرف المقادير: الأعمدة أين تكون، الجدران أين تكون، والتسلك أين يكون وهكذا إلى آخره.

 

ولو أن إنساناً خالف هذا الأمر يعاتب من قبل العقلاء: تركت هؤلاء المهندسين الذين أنفقوا عمرهم على دراسة وتطبيق عملي لهذا الأمر وتعمل بكيفك من دون استشارات؟ وهكذا الحال في الطب، الآن المستشفيات في كل الدنيا قائمة على أساس هذه القاعدة العقلائية. ما من بلد إلا وفيه أنواع المستشفيات باختلاف المستويات. لماذا؟ دع كل فرد يعالج نفسه وكل واحد يطبب نفسه وانتهى الأمر. لا، ولو أن إنساناً فعل ذلك لكان مخالفاً للحكمة ومخالفاً لطريق العقلاء. أمر الدين أيضا هو هكذا، أمر الدين بل هو أعظم، لأن عدم العلاج في المستشفى مثلًا ممكن يبطئ المرض أو يجعله يتفاقم بهذا المقدار. لكن أن يخطئ الإنسان طريقة عبادته لله عز وجل من غير أن يكون معذوراً في ذلك، نتيجته العذاب، نتيجته الخسران المبين، القضية هنا تكون أعظم.

إذا لنفترض أحداً أصاب بالإنفلونزا، جرب بعض الأدوية أو عالج نفسه يمكن أن يتسامحوا معه، ولكن إذا كان عنده جلطة قلبية، أو عنده سكتة دماغية وقال لا أنا أجرب أدويتي التي أنا أنتخبها، يعاتب أكثر مما يعاتب لو كان يستخدم فيه دواء الإنفلونزا. فإذا كان الأمر أمر الدين ومصير الإنسان الأبدي والخلود في الجنة أو في النار هنا يكون الأمر أصعب وأصعب بكثير.

حسناً، إذًا هناك أمر لابد من المصير إليه وهو عبادة الله عز وجل وأداء حقه كمنعم علينا واتباع أوامره كعبيد له وهو الخالق. أمامنا عدة طرق:

الطريق الأول هو طريق "الاجتهاد"، الإنسان هو نفسه يكون مجتهداً. أحد يقول أنا لست بأقل من غيري، أذهب أدرس وأبحث وأتبحر في العلوم، ذاك صار طبيباً، أنا أيضا طبيب وأنا أعالج نفسي. مثل ما ذاك صار فقيها ومجتهداً، أنا أيضًا أصير فقيها مجتهداً وأتبع آرائي وأحكامي الفقهية. هذا طريق لا بأس به، لا مانع منه، يجوز للإنسان مثلما أنه يجوز له أن يدرس الطب ويعالج نفسه بنفسه بناء على معرفته الطبية، كذلك يجوز له أن يدرس علم الدين والفقه بما يرتبط به من علوم ويصير فقيها. بعدها يقول أنا لا أقلد أحد، أنا بنفسي مجتهد وأنا أستنبط الأحكام.

 

هذا لا مانع منه، يجوز لكن المشكلة في هذا الطريق أن الإنسان بحسب نوعه لا يستطيع ذلك. أنت الآن لنفترض تشتغل في وظيفة، هل تستطيع في نفس الوقت أن تدرس الهندسة والطب وغير ذلك من الأمور، وأنت تعمل؟ غالب الناس ليسوا كذلك. في نفس الوقت الإنسان المسؤول عن أسرته، ويكسب قوته من الصباح إلى ما قرب المغرب، لديه مسؤولية تجاه أهله، هذا لا يستطيع أن يتفرغ لكي يكون مجتهدًا على مرتبة الفقاهة، وأن يستنبط الأحكام لنفسه.

هم من يتفرغوا إلى هذا الأمر، القليل منهم يحصل على هذه الدرجة. كم من الحوزات العلمية موجود؟ عشرات الآلاف من طلاب العلم، من الذي يصل من هؤلاء إلى درجة الاجتهاد؟ نسب قليلة جداً، مع أن شغلهم الشاغل ليل نهار، مع ذلك الذي يصل إلى مرتبة الفقاهة والاجتهاد نسب قليلة وأفراد محدودون. فكيف نأتي نكلف عامة الناس! أنت الذي تشتغل في البناء، وذاك الذي يشتغل في التدريس، وهذا الذي يشتغل في الصحة، وذاك الذي يشتغل في الإدارات الرسمية، تعال أنت بمفردك اجتهد واستنبط أحكامك، لا يمكن هذا، مع أنه جائز لكنه غير ممكن.

مثله أيضا طريق الاحتياط، وأعني بذلك أنه ممكن شخص يقول لماذا أتبع زيد أو عمر، دعني أرى الأمور كلها وأحتاط فيها. وأقطع مسافة لنفترض إذا أعود في نفس اليوم بعض الفقهاء يقولون إذا أعود في نفس اليوم أقصر، لكن إذا أبيت نفس الليلة وأرجع اليوم الثاني لا أتم. فإذا الأمر دائر بين الإتمام وبين القصر، ماذا أفعل؟ احتياطاً أصلي مرةً قصراً ومرةً تمام.

 

في يوم الجمعة، هل صلاة الجمعة واجبة على نحو التعيين وأن غيرها لا يكفي عنها أم لا؟ هي على نحو التخيير (تستطيع إما أن تصلي الظهر إما صلاة الجمعة). تستطيع أن تصلي هكذا وهكذا، أحدهم يقول أصليهم مرة هكذا ومرة أخرى هكذا احتياطًا، ويكمل يومه، هذا أيضًا طريق جائز، لكن المشكلة أولاً يحتاج أن يكون المؤمن عارفاً بكل موارد الاحتياط، معناه أنه لا بد أن يدرس في كل مسألة.

التسبيحات، هل يكفي فيها واحدة من التسبيحات في الركعة الثالثة أو الرابعة أم نحتاج إلى ثلاث؟ هذه مسألة يحتاج الإنسان أن يعرف آراء الفقهاء فيها، أحتاط أذكر ثلاث لا ضير في ذلك.

سائر الأمور أيضًا من اللازم أن أطلع على كل مورد من الموارد وأتعرف عليه. عدنا من جديد إلى أنه لا بد أن أفرغ نفسي في معرفة موارد الاحتياط، وهذا أمر غير متيسر إلى أكثر الناس على أن بعض موارد الاحتياط غير ممكنة. يعني مثلًا هناك رأي عند بعض الإمامية أن صلاة الجمعة في زمان الغيبة حرام، بل لا يجوز. هنا كيف تحتاط؟ هذا الذي يقول حرام وذاك يقول واجب عيني، وهذا الذي يقول واجب تخييري، كيف بالإمكان الاحتياط في هذه المسألة؟ إن صليتم معًا، ذاك الذي يفتي بحرمتها يقول لك قد خالفت الشرع. في بعض الموارد الاحتياط غير ممكن، غير متيسر هنا، لذلك هذا الأمر مع أنه جائز إلا أنه غير متيسر لا من الناحية النظرية بمعنى أن كثير من الناس لا يعرفون أين مواضع الاحتياط، ولا من الناحية العملية لأنه أولاً ينشغل الإنسان وتصبح شغلته الشاغلة الصلاة، هل هنا يجمع بين القصر والتمام ويجمع بين الواجب التعييني والتخييري وأمثال ذلك من الأمور... لا تنتهي القضية هنا، طريق أيضا غير متيسّر للأكثر مع أنه جائز.

يوجد طريق ثالث، قسم من السابق والآن يحيا من جديد وفيه مقدار من البريق الذي يجعل الإنسان أحياناً يصدق ويقول "يا إلهي، لماذا نتبع هؤلاء العلماء آية الله فلان وآية الله العظمى فلان والمرجع الأعلى فلان؟ لماذا نتبعهم؟ نروح مباشرة على الأئمة عليهم السلام، بدل ما نتبع آية الله العظمى فلان نروح نتبع آية الله الكبرى علي ابن أبي طالب" ونبدأ نستفتي الإمام الصادق، الإمام الباقر كيف؟!

قالوا لأن هذه رواياتهم موجودة في الكتب بدلاً من أن نتبع فلان، وهذه أشياء محتملة للخطأ. فتش عن المنبع والمصدر مباشرة.

 

هذه الأيام نجد ترويجًا إلى هذا الكلام من قبل جماعة، واضح يقول أنا إذا فصلته عن المرجعية وقلت له لا، أذهب بشكل مباشر، راح يأتي يسألني فكيف أذهب مباشرةً؟ فأصبح في الواقع مرجعا له، أقول له راجع الكتاب الفلاني، والحديث الفلاني، وأقول له الحكم بحسب كلام الإمام الصادق. هكذا في الواقع بالنسبة إلى قسم ممن في هذه الأزمنة يطرحون التخلي عن المرجعية الدينية الشيعية وإحالة الناس على موضوع الكتب والروايات مباشرةً، هو يستبطن مشروعًا أنه دعوني المرجع لكم واتركوا الباقي...

لماذا ترجع إلى الرسالة العملية؟ لا، تعال وأرجع إلى أحاديث أهل البيت، حسناً، أحاديث أهل البيت كم عظيم وكبير، فقط كتاب وسائل الشيعة وهو أحد الكتب فيه حوالي 35,000 رواية. أين أسبح في هذا البحر، ماذا أصنع بها؟ كيف أخرج الحكم؟ يقول لك أنا أعلمك كيف تستخرج الحكم، يعني أنا أصير مرجع لك، هذا واحد. الأمر الثاني الذي يقول هذا الكلام لا سيما بالنسبة إلى عامة الناس، الآن عامة الناس منشغلة بالحياة ومسؤوليات الأسرة وقضايا العمل وغير ذلك، لا تجعله يتفرّغ يحفظ مسألة شرعية إن قيلت في المسجد، كم من المؤمنين يحفظ 100 مسألة من الرسالة العملية؟ نادر جدًّا، نادر لماذا؟ ليس تقصيرًا فيهم حاشا، ولكن لأن ظروف الحياة صارت بالشكل الذي لا تدع الإنسان يتكئ على قاعدة إلا أن يبادر ويدرس هذه الأمور وهو لا يتيسر له. الآن إذا 50 مسألة و 60 مسألة أنا لا أقدر أن أجمعها في ذهني، أحتاج للرجوع إلى كتاب فيه 35,000 رواية، هذه الرواية تعارض تلك الرواية في بعض الجهات، هذه الرواية صحيحة السند وتلك الرواية عليلة السند، هذه تشرح تلك في بعض الأحيان، علماء يقولون أحيانًا رواية في كتاب الطهارة ترى شرحها في آخر الكتاب... حسناً، والآن أتصفح ال 35 ألف رواية حتى أصدر لي حكماً واحداً! لا يمكن! هذه هي الفكرة التي يدعو إليها قسم من الناس في هذه الأزمنة.

 

نحن طبعا لدينا مدرسة أخرى، مدرسة نظيفة ومدرسة تاريخية في الاستنباط الفقهي وفيها فطاحل وعلماء كبار، مدرسة المحدثين، منهم نفس صاحب الوسائل ومنهم صاحب الحدائق شيخ يوسف البحراني وغير هؤلاء.... علماؤنا يعتمدون على كتبهم، هؤلاء لا نتحدث عنهم، نتحدث عن النابتة الجديدة التي يقودها مجموعة من المغامرين الذين يريدون استبدال المرجعية وتحويل توجه الناس إلى أنفسهم وهم كما تعلمون، ولله الحمد، بعض هؤلاء خرجوا على الإعلام وتكلموا وتحدثوا حتى انكشفوا. لا أدب، لا تورع ولا علم ولا شيء... أنت أيها القارئ، المستمع، والإنسان (المؤمن) مثل بعض هؤلاء، لا تقبل أن تصلي خلفهم ركعتين جماعة أو تسلمهم قيادتك وفتواك وتسلمهم طريقك نهائياً.

قسم من هؤلاء يقولون مثلاً الرجوع والمرجعية الدينية هي طارئة في عالم التشيع، بعض هؤلاء يقول لك منذ زمان الشيخ المفيد صارت، يعني سنة 413 هجرية، توفي الشيخ المفيد فصارت في زمانه، قبلها بقليل مرجعية دينية. بعضهم يقول لا في زمان الشيخ الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه). الشيخ الأنصاري متوفى سنة 1261 هجرية، وفي زمانه صارت المرجعية، وكلا الأمرين خاطئ.

نحن نلاحظ أن تاريخ إرجاع الأئمة شيعتهم إلى فقهائهم من سنة 95 هجرية. لكن حتى هذا التصنيف الذي عند قسم من الناس يقول في زمان الأئمة ما كانت مرجعية ولا تقليد وإنما صارت بعد زمان الغيبة. حتى هذا التصنيف غير صحيح على رأي المحققين، بدأ إرجاع الأئمة شيعتهم إلى فقهاء أهل البيت المتميزين قبل سنة 95 هجرية، أي في زمان بداية زمان الإمام الباقر (عليه السلام). نحن نلاحظ في زمان الإمام الباقر يقول لأبان ابن تغلب البكري، وهو أحد من الفقهاء العظام من تلامذته، وأيضًا أدرك الإمام الصادق، يقول له: اجلس في مسجد رسول الله محمد في المدينة وأفتي شيعتي، أعطهم الفتاوى وأخبرهم عن الأحكام، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك، ليس فقط أحب أن تكون كذلك، بل أحب أن يرى في شيعتي عارف بالدين فقيه بالأحكام متصدر. نحن نعطيه الأصول كما ورد في الروايات: "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"، خطاب إلى هؤلاء الفقهاء، إلى هؤلاء الرواة المجتهدين المتميزين، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك، أنت أفتي الناس وعلمهم.

 

هذا كان أبان ابن تغلب مُفتيًا على مستوى الأمة. يقول للإمام الصادق (عليه السلام): يأتيني الرجل فأعرف أنه منكم، يعني من الشيعة، فأفتيه بمحض الحق، ويأتي الرجل من غيركم فأقول له قال فلان كذا وقال فلان كذا وقال فلان كذا وقال جعفر بن محمد كذا، فأضع قولكم في ضمن قولهم. هذا لا ينتظر مني قول الإمام الصادق، بل ينتظر قول شخص آخر من الفقهاء، لكن أنا أخبرهم بآراء الفقهاء، وأضع قولكم بينهم. فقال له الإمام ممضيًا عمله: افعل ذلك، فإني أفعل ذلك، أي لو عرض علي مثل هذا الأمر ما رفضته وغير هؤلاء.

توجد رسالة عملية في زمان الإمام الرضا (عليه السلام). هذا الذي يقول التقليد صار في سنة 413 هجرية، زمان المفيد. زمان الإمام الرضا استشهد سنة 203 هجرية. المرحوم المرجع الديني سيد محمد سعيد الحكيم (رضوان الله تعالى عليه) يقول أنه كان ليونس ابن عبد الرحمن، وهو أيضًا من الفقهاء الكبار في زمان الإمام الرضا (عليه السلام)، كان ليونس بن عبد الرحمن كتاب اسمه "يوم وليلة"، وهذا كان يشتمل على الأحكام التي يحتاجها الإنسان في 24 ساعة، صلاته وضوؤه غسله وغير ذلك، وهو يعد بمثابة رسالة عملية، كيف أنت لديك الآن مختصر الأحكام مثلا يفيدك ترجع إليه. كذلك كان الشيعة في زمان يونس بن عبد الرحمن يمتلكون رسالة عملية في زمان الإمام الرضا (عليه السلام). فهذا التقليد في ذاك الوقت. أرجع الإمام الرضا أصحابه وشيعته إلى هذا الرجل وكثير من الموارد.

عبد الله بن أبي يعفور، وهو أحد من خلّص أصحاب الإمام الصادق المخلصين لأمره، يقول له: سيدي لو قسمت لي تفاحة وقلت نصفها حرام ونصفها حلال لأكلت هذا النصف وتركت ذاك النصف. يعني عندما نقرأ في الزيارة "مسلّم لأمركم، مسلّم لكم، عامل بقولكم"، مع أنك تستغرب كيف في تفاحة واحدة يكون نصف حلال والنصف الآخر حرام؟ هو يريد أن يرسل رسالة لك بأنه أنا مسلّم غاية التسليم للإمام.

فيقول عبد الله بن أبي يعفور للإمام الصادق: إنه يأتيني رجل من الشيعة وليس عندي كل ما يسألني عنه، أنا عندي مقدار من المعارف الدينية لكن لا أقدر أن أفتي في كل الأمور، فماذا أصنع؟ قال: عليك بمحمد بن مسلم الثقفي، فإنه قد سمع من أبي، يعني الباقر (عليه السلام)، وكان عنده وجيهاً. هذا رجل كان بالغ مراحل عالية من الفقاهة والمعرفة الدينية، إما أنت تسأله أو تحوله عليه، هذا عنده تلك الدرجات العالية. فإذًا ما يشيعه البعض من أن قضية الإرجاع جاءت متأخرة ويريد أن يقول لك هذه بدعة وما شابه ذلك، لا، ليس صحيحاً، هؤلاء لم يقرأوا التاريخ بشكل صحيح. ولو أردنا أن نستعرض مثل هذه الأمثلة لطال بنا المقام، لكننا لا وقت لدينا.

 

الطريق الأخير، وهو الذي أشرنا إليه في هذه الأثناء، هو طريق التقليد للعالم الفقيه الورع التقي البالغ درجة الاجتهاد والفقاهة، وهذا هو الذي عليه الطائفة الإمامية منذ الأزمنة القديمة إلى أيامنا هذه. حيث أنني أعلم هذا الشخص كما أنني أرجع إلى طبيب القلب وألتزم بأوامره شيئاً فشيئاً وبشكل دقيق لأنه عارف وخبير وعالم متخصص، كذلك أرجع إلى هذا العالم الفقيه المتخصص في أمور الدين وفي الروايات، وأنفق سحابة عمره على تشييد المباني والآراء والأفكار، ويستطيع أن يقول هذا ما يستفاد من الروايات ومن آيات القرآن الكريم أن الحكم في هذا الأمر هو كذا وكذا...

وهذه هي الطريقة التي سار عليها كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد مهما بلغت فضيلته العلمية، مهما كان عارفاً فاضلاً مطلعاً على أحكام الدين، مطلعاً على العقائد الإسلامية، عارفاً بكل هذه الأمور، لكن ما دام ليس بالغاً درجة التخصص بمعنى الفقاهة والاجتهاد المقر له في ذلك، فإنه يبقى مقلداً، والتقليد ليس عيباً. أي أن أحداً يقول "والله أنا لست مقلداً" بهذا المعنى الشرعي، بالعكس هو طريق فيه نجاة للإنسان قاصداً (التقليد). لو سئلنا يوم القيامة: كيف عملتم هذا العمل؟ لماذا صليتم بهذا النحو؟ ولماذا صمتم بهذه الطريقة؟ نقول يا ربّ أنت قلت لنا في كتابك: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". أهل الذكر أولاً محمد وآل محمد، ثم الفقهاء الذين أمرنا بالرجوع إليهم في التوقيع المشهور عن الإمام صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه): "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". الراوي ليس فقط مسجل يحفظ، وإنما الراوي معناه أنه يعرف المعنى، أي أنه على مقدرة بأن يجمع بين هذه الرواية وتلك الرواية إذا حصل اختلاف وتعارض ظاهري بين هذا الحديث وذاك الحديث، يمتلك الطريق والمعرفة لحل ذلك التعارض، لأن كلام الأئمة نور واحد ولا يخالف بعضه بعضًا.

بينما قد أنا وأمثالي إذا نأتي ونفتح، نقول: الرواية تقول نعم، وتلك الرواية تقول لا، كيف يصير هذا؟ الفقيه يستطيع أن يحل المسألة، وغيره قد لا يستطيع ذلك.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا ظلال المرجعية الدينية الشيعية حماية للطائفة وصيانة لطريقنا إلى الله عز وجل، وأن يجعلنا من خير المتبعين لهؤلاء العلماء الربانيين، إنه على كل شيء قدير.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد