الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: هل بات الدين عائقًا أمام المشروع الحضاري؟

الليلة الرابعة محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
هل بات الدين عائقًا أمام المشروع الحضاري؟
مجمع أهل البيت (ع) - عمان (مسقط) - 

 

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ورد عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنه فيما قال حين نزوله أرض كربلاء: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم. فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون".

كلمة موجزة لسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، يطرح فيها مبدأ اجتماعيًّا غاية في الخطورة. وهو مسألة توظيف الدين، يعني إذا كان الدين يحقق لي مكاسب ومصالح فأنا أرفع شعار الدين، ومتى ما أصبح الدين مورداً لجلب الابتلاءات والمحن والامتحانات الإلهية بأن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يمتحن الإنسان ليعرف صدق إيمانه وصدق تدينه، فإذا أصبح الدين يجر علي الابتلاءات والامتحانات والويلات أتنصل عن الدين. هكذا يقول إمامنا صلوات الله وسلامه عليه بأن حال الكثير من الناس بهذه المثابة. الناس عبيد الدنيا، الأصل عند كثير من الناس أنهم منجذبون إلى الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يعني مجرد لفظة يرددونها على ألسنتهم. يحوطونه ما درت معائشهم، ما داموا يعيشون حياة وادعة ووافرة فلا مانع أن نرفع شعار الدين، لكن بمجرد أن يصبح هناك ابتلاء وامتحان من صلب الدين، فتراهم يتبرؤون منه.

هذا المعنى نحن نصوغ منه تساؤلاً، هو عنوان محاضرتنا لهذه الليلة: هل الدين يشكل عائقاً أمام تقدم الإنسان في هذه الحياة؟ أمام تحضر الإنسان في هذه الحياة؟ هل الدين يشكل عائقاً أمام المشروع الحضاري أم لا؟ إذاً تساؤل عريض نحاول من خلال هذه المحاضرة أن نجيب عن هذا التساؤل من خلال ثلاث وقفات أو ثلاثة محاور: المحور الأول محور نظري، المحور الثاني محور قرآني، والمحور الثالث محور تطبيقي.

تعالوا إلى المحور الأول: هل هناك تقاطع وتعارض بين الدين والحضارة؟ يعني إذا كنا نتحدث اليوم عن هذه الحضارة الشاخصة أمامنا، التي لها مجتمعات تعتبر رائدة، المجتمع الغربي على سبيل المثال وبعض المجتمعات الشرقية، تعتبر رواداً للحضارة الإنسانية المعاصرة. هذا المشروع الحضاري الذي تطرحه هذه المجتمعات وهذه الثقافات، هل يشكل الدين عائقاً أمامه بحيث من يريد أن يتحضر، من يريد أن ينخرط ضمن هذا المشروع الحضاري، من يريد أن يشكل له بناءً حضارياً متماشياً مع هذا المشروع الحضاري العالمي، هل يعتبر الدين عائقاً أمامه أم لا؟

 

قد يكون البعض عنده تصور أن الدين يشكل حاجزاً، يشكل عائقاً خصوصاً إذا لاحظنا الإعلام العالمي الذي يروج لهذه الفكرة ولهذه القضية ويصور بأن الأديان مصدر التخلف ومصدر الرجعية، وأنك إذا أردت أن تتحضر أن تصبح إنساناً عصرياً فيجب أن تتنازل عن كثير من مبادئك الدينية، وإلا لا يمكن لك أن تصنف نفسك على أنك إنسان قادر على المضي مع الركب الحضاري. هكذا يتصور البعض. تعالوا نناقش هذه المقولة أولاً مناقشة نظرية: هل فعلاً الدين يعيق الحضارات؟ هذا سؤال عريض طرحه الفلاسفة منذ عهود متأخرة وتنوعت الأجوبة حول هذا السؤال: هل فعلاً الدين يعيق إنشاء الحضارة؟

توجد ثلاثة اتجاهات في سبيل الجواب عن هذا السؤال: الاتجاه الأول، وهذا اتجاه نشأ مؤخراً، ورواده الملحدون الذين يريدون أن يسوقوا لهذه الفكرة من أجل إبعاد الناس عن دينها. الملحدون اليوم يؤكدون على هذه النقطة، أن الدين لا يمكن أن يتعاطى مع الحضارة التكنولوجية والتقدم الحضاري، وبالتالي إذا أراد الإنسان أن يبني له مشروعاً حضارياً على مستواه كفرد أو على مستوى الأمم والمجتمعات، فيجب أن تتخلى عن أديانها. هذا الطرح اليوم أيضاً بات مفضوحاً بأن كثيراً من المفكرين يناقشون هذه الأطروحة ولا يرون أن هؤلاء الملحدين قدموا براهين مقنعة لهذا المعنى، مجرد دعوة. طبعاً يساير هؤلاء الملحدون بعض الليبراليين والعلمانيين الذين ينادون بنبذ الدين وإبعاد الدين عن الساحة العامة، وبالتالي أصبح هذا الرأي مؤدلجاً، يعني رأياً ينطلق من حكم مسبق، من خلفية معينة، من أجندة معينة. ولذلك المفكرون والمنظرون لا يقيمون وزناً لهذا الرأي لأنه رأي غير قائم على دراسة موضوعية. لماذا نصف هذا الرأي بأنه رأي غير قائم على دراسة موضوعية؟ لأن الرأيين الآخرين يقدمان براهين وأدلة على صحة قولهما.

ومن هنا تعالوا إلى الاتجاه الثاني، وما يتبناه ثلة من المفكرين يقولون لا يمكن للحضارة أن تنشأ إلا بمعية دين. الدين يمثل عنصراً مهماً لكل حضارة من الحضارات. لا يمكن لأمة أن تبني حضارة إلا إذا أولت الدين اهتماماً وعناية. فإذا الاتجاه الثاني يقول بأن وجود الدين مهم ومهم جداً من أجل بناء الحضارة.

 

الاتجاه الثالث وهو الأهم، الاتجاه الثالث يقول: أصلاً من المستحيل أن تقيم حضارة إلا بدين. يقدمون براهين على هذا الجواب وعلى هذه النظرية وهذه الرؤية. يقولون نحن استقرأنا كل الحضارات المشهودة والمعروفة في تاريخ البشرية فلم نجد حضارة واحدة استطاعت أن تثبت وجودها وتشيد نفسها من دون دين، كل الحضارات الإنسانية إنما تشكلت و انبنت على أساس ديني. الدين يمثل العمود الفقري لكل حضارة من الحضارات، يقولون ودونك الحضارات البشرية المعروفة استقرئها بأجمعها: الحضارة البرهمية التي من امتدادها اليوم الحضارة الهندوسية في شرق الكرة الأرضية، هذه حضارة قائمة على دين اسمه الدين البراهمي. الحضارة البوذية، طبعاً نحن هنا لا نتحدث عن الأديان السماوية وإنما نتحدث عن الأديان بشكل عام، خصوصاً وأن هذه الأديان التي توصف اليوم بأنها أديان بشرية هناك بحوث وتحقيقات تشير إلى أن أصول هذه الأديان أديان سماوية لكنها حرفت وعبث بها. إذاً الحضارة البراهمية قامت على أساس ديني، الحضارة البوذية قامت على أساس ديني، الحضارة الأشورية في بلاد الرافدين قامت على أساس ديني، كان الأشوريون يعتقدون بألوهية أشور. الحضارة الفرعونية قامت على أساس ديني، كان عندهم معتقد تاليه الإله آره. الحضارة الإسلامية قامت على أساس ديني، الحضارة الغربية المعاصرة قامت على أساس ديني، الإسلام هو أساس الحضارة الإسلامية، المسيحية هي أساس الحضارة الغربية. إذاً لا يمكن أن نظفر بحضارة شاخصة إلا ويكون من ورائها دين. ثم يقدم أصحاب هذا الرأي برهاناً جميلاً، التفتوا إلى هذا البرهان حتى تستطيعوا أن تجيبوا على كل شخص يقول لك بأن الدين عائق أمام الحضارة: الحضارات لا تقوم إلا بدين. وللبرهنة على ذلك يقول هؤلاء المفكرون: كيف تنشأ الحضارات؟ الحضارات عبارة عن مجتمع يتكاثف فيما بينه ويقيم دولة، ثم هذه الدولة تتوسع، ثم هذه الدولة تقدم منجزات عمرانية وصناعية وزراعية، تتسع رقعتها وتصبح لها ثقافة، وهذه الثقافة تنشرها إلى مجتمعات أخرى. هذا هو معنى الحضارة. أنا لم أشأ أن أمر على التعريفات النظرية للحضارة حتى لا أدوخك في البحث النظري.

إذاً الحضارة هي عبارة عن بناء، كيف يتشكل هذا البناء؟ مجتمع يتكاتف بعضه مع بعضه فيقيم دولة، هذه الدولة تتوسع. سؤال: هل يمكن للمجتمع أن يقيم دولة إذا كان مجتمعاً صغيراً، قبيلة من القبائل مثلاً؟ هل يمكن لها أن تقيم دولة خاصة بهذه القبيلة أم أنها لابد أن تطرح فكرة تجعل قبائل أخرى تنضم إليها ضمن هذه الفكرة التي طرحتها؟ يقولون حينما نرجع إلى تاريخ المجتمعات وتاريخ الدول التي قامت على مر التاريخ نجد أنه تبدأ نشأة الدولة بقبيلة ما، لكن هذه القبيلة ترفع شعاراً، ترفع فكرة، فتستقطب قبائل أخرى فيتشكل مجتمع يلتف حول هذه الفكرة. يقولون كل الأفكار التي وظفت من أجل إقامة دول تاريخية عريقة في الأزمان الغابرة هي أفكار تطرح فكرة دينية تؤمن بها قبائل أخرى تلتف مع هذه القبيلة تحت هذا الشعار وهذه الفكرة فيتشكل مجتمع متكاتف من قبائل كثيرة، هذا المجتمع يقدر يقيم دولة. إذًا من دون وجود فكرة دينية لا يمكن للمجتمع أن يتكاثر ويخرج من إطار القبيلة ويصبح مجتمعاً ذا هوية أوسع من الهوية القبلية، هذه الهوية ليست إلا الدين. ولذلك يقول الباحثون: أننا إذا نرجع إلى الحضارة الأشورية نجد هذه المعتقدات التي كان يؤمن بها الأشوريون هي هويتهم الحضارية. إذا نرجع إلى الفراعنة نجد معتقداتهم الدينية هي هويتهم الحضارية. إذاً دائماً الحضارات في تاريخ البشر ترفع شعاراً دينياً. ومن هنا يبرهن أصحاب الاتجاه الثالث على أنه لا يمكن للحضارة أن تقوم إلا بدين.

 

ومن هنا نصبح قد أجبنا على السؤال العريض الذي طرحناه: هل الدين يتقاطع مع المشروع الحضاري؟ هل الدين يقف عائقاً أمام المشروع الحضاري؟ لا، اتضح أن الدين، كل دين، أساس للمشروع الحضاري، وبالتالي لا يمكن أن تنطلي علينا هذه الدعايات المضللة التي تحاول أن تصور أن الأديان مصدر تخلف، أن الأديان تعيق المشاريع الحضارية، خصوصاً في الهجمة الشرسة التي نشهدها في العصور الأخيرة على الإسلام حينما يراد تصوير أن الإسلام يقف عائقاً أمام التقدم الحضاري. لا، اتضح أن ما يحققه ويقرره العلماء والمفكرون في دراسة الحضارات يرون بأنه لا يمكن إنشاء حضارة إلا من خلال دين.

أرجع مثلاً إلى ما كتبه المفكر الإسلامي المعروف مالك بن نبي، هذا مفكر جزائري متخصص في دراسة الحضارات، له سلسلة من الكتب اسمها مشكلات الحضارة، من أهمها الظاهرة القرآنية، من أهمها سبل التقدم، من أهمها وجهة الإسلام. يتحدث هناك عن أن أي مشروع حضاري لابد له من دين، ويتحدث عن الحضارة الإسلامية كيف نشأت، يقول: إذا نرجع ونحلل نشأة الحضارة الإسلامية نجد أن المنطلق الأساس للحضارة الإسلامية هي دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. دعوة النبي دعوة دينية، هذه الدعوة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله هي التي أخرجت المجتمع العربي الجاهلي، الذي كان مجتمعاً متخلفاً، أخرجته من الحالة الجاهلية وصيرتهم مجتمعاً يبني نفسه بالتدريج إلى أن بنى حضارة واسعة بزت وندت الحضارات الأخرى. وهكذا يقول: إذا ندرس مثلاً تاريخ الحضارة الغربية نشوف أن المسيحية هي الأساس في بناء هذه الحضارة المعاصرة.

إلى هنا انتهينا من المحور الأول وقدمنا من خلاله أهم الآراء والنظريات التي تجيب عن هذا التساؤل: هل أن الدين يقف عائقاً أمام المشروع الحضاري؟ اتضح أن الرأي السائد والرأي الذي يجمع عليه، إلا من شذ من المفكرين الذين كما قلنا ينطلقون من رؤية وأيديولوجية معينة، فإن كل المفكرين متفقون على أن الدين هو أساس قيام الحضارات، لأنه يقف عائقاً، يعني من دون دين لا يمكن أن تبني حضارة.

 

تعالوا إلى المحور الثاني: نشوف القرآن الكريم. قلنا أن المحور الثاني محور قرآني. نشوف القرآن الكريم كيف يؤكد على هذا المعنى. القرآن ضرب لنا قصصاً تؤكد بأن الحضارات الإنسانية إذا لم يرفدها دين سرعان ما تنهار. أي حضارة من الحضارات، أي دولة من الدول العريقة في تاريخ الأمم السابقة، الأمم السالفة، بمجرد أن تتخلى عن القيم الدينية تنهار حضارتها. والقرآن مليء بالقصص التي ترتبط بهذا المعنى. أنا أشير إلى قصة بشكل موجز ثم أنتقل إلى أخرى.

لاحظوا قصة موسى عليه السلام وهارون مع فرعون، أمير المؤمنين في بعض خطبه في نهج البلاغة القرآن يصف المشهد الأول للقاء موسى وهارون مع فرعون. يقول أمير المؤمنين، يجب أن يعتبر الإنسان بقصص المستكبرين وبقصص الأمم السالفة كيف كانت دول عظمى وأمم كبرى انهارت بسبب عدم رضوخها لمشروع الأنبياء، يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: "دخل موسى وهارون على فرعون، وكان عليهما مدارع الصوف"، يعني لباس متواضع جداً، لباس يظهر فقر موسى عليه السلام وفقر هارون. يقول: "دخل موسى وهارون عليهما مدارع الصوف"، يعني لباس صوف، لباس الفقراء، وكانت العصي بأيديهما، كل واحد عنده عصا، فالمظهر مظهر فقر. "فالتفت موسى عليه السلام مخاطباً فرعون قائلاً له: يا فرعون إن أردت بقاء ملكك ودوام عزك فآمن بالله تعالى وتخلى عن ربوبيتك الزائفة". انظر لجرأة نبي الله موسى عليه السلام في خطاب فرعون وهو يقف أمام هذا الملك العظيم الذي كان يقول عن نفسه بأنه هو الرب الأعلى للمصريين. ماذا كان جواب فرعون؟ قال: انظروا لهذين كيف يبدو عليهم الذلة الفقر والمسكنة وهما يهدداني بأنني إن لم أدن بدينهم يزول ملكي، هلا ألقيتم عليهم شيئاً من أساور الذهب يعني أظهروا لهم عظمة سلطاني وملكي وكيف أني أزدريهم وأزدري لباسهما، ولكن سرعان ما مضت الأيام وتحركت الأحداث وإذا بهذا النبي في واقعه ومضمونه الفقير في مظهره الزاهد المتقشف، يزيل مملكة فرعون عن بكرة أبيها، إذاً هذا نموذج عن أن الحضارات إذا تخلت عن الدين تحولت إلى حضارات ودول زائفة سرعان ما تنهار.

تعال إلى المثال الأوضح قصة سليمان على نبي وآله وموسى وهارون وسائر الأنبياء، أفضل الصلاة والسلام. في قصة سليمان عليه السلام وبالتحديد قصته مع ملكة سبأ بلقيس، يطرح لنا القرآن مقارنة غاية في الروعة بين حضارتين: حضارة قائمة بشكل مؤقت باليمن على يد ملكتهم بلقيس، حضارة سبأ، "لقد كان لكم في سبأ آية جنتان عن يمين وشمال"، ويصف القرآن هاتين الجنتين وكيف كانت الخيرات والنعم متداولة ومبذولة. حتى ذكرت بعض الروايات أن هذه البلدة كانت من وفرة النعم فيها ومن صفاء جوها ومائها أنها ما كانت ترى الحشرات ولا ترى المؤذيات، حتى أن المريض إذا كان من بلدة أخرى يأتي يقيم في سبأ أيامًا معدودة ويشفى من مرضه. إذاً مملكة كانت في بداية ازدهارها وبلغت أوج إزدهارها حينما جاءت مرحلة حكم بلقيس، هذه الدولة التي تعتبر دولة فتية في بداية تشكلها ووصلت أوج عظمتها في أيام بلقيس، حتى أن الروايات وكتب السير تصف عرش بلقيس كيف كان مزخرفاً بسبائك الذهب وكيف كان مرصعاً بالجواهر واليواقيت والغرفة التي فيها عرش بلقيس كيف كانت فاخرة البناء وترفل بالمعادن والجواهر الثمينة.

 

في مقابل هذه المملكة الكبيرة التي تعتبر حضارة إنسانية في بدايات تشكلها، لكنها بمعزل عن الدين. لأن القرآن يصف لنا حضارة سبأ وكيف كانوا يعبدون الشمس. بالمقابل، هناك مملكة سليمان عليه السلام التي العمود الأساس فيها هو عبادة الله وتوحيد الله والإسلام الذي يؤمن به سليمان، يعقد لنا القرآن في سورة النمل مقارنة بين مملكة بلقيس من جهة ومملكة سليمان عليه السلام من جهة، وكم هو الفارق الهائل بين ازدهار الحضارتين. حينما نطالع هذه الآيات المباركة سنرى بوضوح أن الدين إذا دخل في تشكيل حضارة من الحضارات ونحن نتحدث عن الدين الواقعي، ليس الدين الذي عبث به، ليس الدين الذي تعرض للتحريف، لا، دين جاء به الأنبياء دين تحت إشراف وصي من الأوصياء. إذا دخل الدين في بناء حضارة من الحضارات تصبح هذه الحضارة في أوج حالات الازدهار ولا يمكن لحضارة بشرية أن تضاهيها. لاحظوا القرآن الكريم حينما يتحدث عن مملكة سليمان، الآيات المباركة تفتتح بقول سليمان عليه السلام: "يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين". إذاً أول عنوان ينطلق منه سليمان عليه السلام في التعريف بمملكته وبحضارته وبدولته أنه بسبب اتصاله بالله تعالى، بسبب اتصاله بالغيب، أعطي خصوصيات لا يمكن أن تعطى لشخص منعزل عن الدين، منعزل عن السماء، منعزل عن التوحيد. هذه الأسرار التي أعطيت لسليمان لا يمكن أن نتصور أن تعطى لمثل بلقيس أو لأي شخص بعيد كل البعد عن السماء وعن ديانة التوحيد.

ولهذا يظهر لنا القرآن الكريم هذه الأسرار التي أعطيت لسليمان عليه السلام وهي لم تعط له إلا لأنه نبي. وتبدأ القصة بموقف غريب: كيف يستطيع سليمان عليه السلام أن يوظف الطيور والحيوانات لخدمته؟ بالله عليك، هل توجد حضارة اليوم في تاريخ البشرية استطاع روادها أن يوظفوا الحيوانات والطيور؟ الآيات القرآنية صريحة بأن سليمان كان يتحدث مع الطيور، يتحدث مع الوحوش، يتحدث مع الجن، وكانوا كلهم مسخرين لأوامره. تقول الآية المباركة: "وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين". تقول الآيات وسرعان ما جاء الهدهد وكشف لسليمان سبب غيابه: "قال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم". التفتوا، الهدهد هنا يتحدث مع سليمان وسليمان عليه السلام يفهم كلام الهدهد. إذاً هكذا هي الحضارات الإلهية، الحضارة المبنية على وجود نبي معصوم، على وجود نبي آتاه الله من العلوم ما لا يمكن للإنسان العادي أن يصل إليه. تصبح بنياته ومملكاته وحضاراته بهذه المثابة. إن الله سبحانه وتعالى يوظف كل الكائنات لخدمته، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إنما خلق هذه الأرض من أجل أن يستخلف فيها الإنسان، وهذا الإنسان ينبغي له أن يعمر الأرض. لكن كيف تعمر الأرض؟ هل تعمر الأرض بالعصيان؟ هل تعمر الأرض بالابتعاد عن البرامج الإلهية التي أرادها الله للبشر؟ هل تعمر الأرض بالابتعاد عن الرسالات السماوية وعن الكتب الإلهية أم ينبغي للبشرية أن تلتصق بالبرنامج الإلهي من خلال التصاقها بالأنبياء وبالكتب السماوية؟ حينئذ تصبح كل الموجودات في هذه الأرض مسخرة لخدمة الإنسان.

 

"وجئتك من سبأ بنبأ يقين"، وأخذ الهدهد يصف مملكة بلقيس وأنهم منحرفون، يعبدون الشمس: "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون". هنا ماذا قال سليمان؟ قال له: أريد برهاناً. قال: سننتظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. أعطني برهاناً على صحة كلامك. فلما أراد سليمان عليه السلام أن يمتحن الهدهد كتب له كتاباً، هذا الكتاب يتضمن دعوة بلقيس إلى الإيمان بالدين الذي يؤمن به سليمان عليه السلام وهو دين الإسلام كما تصفه الآيات: "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون". تقول الروايات فعلاً، مضى الهدهد ورمى هذا الكتاب في فناء القصر فوجدته بلقيس.

طبعاً نحن هنا لا نتكلم عن الحمام الزاجل الذي يستعمل في البريد وإرسال الرسائل، لا، هنا سليمان عليه السلام يجعل الهدهد ساعياً بريدياً. إذاً وظيفة فريدة من نوعها، وظيفة فيها التفاتة من سليمان عليه السلام، التفاتة إلهية. "إنه من سليمان"، قرأت بلقيس الكتاب وإذا مكتوب فيه: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم"، ودعاها سليمان إلى الإسلام ونبذ عبادة الشمس ونبذ عبادة الكواكب. هنا تقول الروايات تحيرت بلقيس، فاجتمعت مع قومها وطرحت عليهم المسألة، قالت: جاني كتاب من ملك يدعى سليمان وأنا ما عندي معرفة به، فما الذي ترى؟ هل ننصاع لأمره أم ماذا نصنع؟ عرضت الموقف على أصحابها، قالت: يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين. فماذا تقولون؟ قسم من هؤلاء قالوا: أيها الملكة، نحن دولة قوية، عندها جيوش، عندها جنود، فتعالي نناجز هذا الملك القتال وندخل معه في معركة ونعرفه بقوتنا وهيمنتنا. لكن يظهر أن هذه المرأة كانت حكيمة، قالت: لماذا لا نرسل إليه بهدية؟ طبعاً هو موقفهم يسجله القرآن: "قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين". فقالت: "إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون". الروايات تقول: فعلاً، أرسلت هدية ثمينة من الذهب ومن الجواهر الفاخرة وأمرت وفداً ينتقل من اليمن إلى فلسطين، حيث موطن مملكة سليمان عليه السلام، وأمرت هذا الوفد أن يصبح وفداً من جهة يقدم الهدية لسليمان ومن جهة يرصد دولة سليمان، يرى قوة هذه الدولة، هل هم قادرون على مناجزتها؟ هل هم قادرون على الدخول في معركة معها أم يسلكون طريق السلام والسلم؟

تقول الروايات: وفعلاً، وصل وفد بلقيس إلى مملكة سليمان. سليمان عليه السلام كانت عنده طيور تفد إليه وتخبره بأن هناك وفداً قد جاء من اليمن يحمل هدية عظيمة من الملكة التي ألقى الهدهد إليها كتابه، فأخذ سليمان يتهيأ لهذا الوفد ليظهر له عظمة مملكته. تصف الروايات المشهد: حينما دخل وفد بلقيس على سليمان، تقول الرواية: استقبلهم سليمان عليه السلام في غابة واسعة وحشد جيوشه وجنوده من سائر المخلوقات بما في ذلك جملاً حتى من الحيوانات التي سخرت لسليمان عليه السلام. ثم لم يكتف سليمان بهذا بل بهرهم أيضاً بأساليب الضيافة، قدم لهم موائد فاخرة كان من ضمن الموائد التي قدمها أطعمة متعارف عليها في اليمن لكنها قدمت بشكل فريد يفوق ما تعودوا عليه في بلدانهم، فعلموا بأن هذا الملك ليس ملكاً عادياً، هذا عنده علوم وعنده اطلاع على أمور غيبية لا يمكن لأحد أن يصل إليها. ثم بين لهم سليمان أنه لا حاجة له إلى هديتهم، إنما أراد أن يدعوهم إلى دين التوحيد. دعاهم إلى أن يخبروا بلقيس بأنه لا ينوي إزالة ملكها إنما يريد دعوتها إلى العبادة والديانة الصحيحة وترك عبادة الشمس وترك الديانة المنحرفة التي أوصلهم إليها الشيطان. فعلاً، رجع الوفد ووصف لبلقيس عظمة مملكة سليمان.

 

إذاً، تخيلوا هذه المقارنة بين مملكة سليمان عليه السلام ومملكة بلقيس، القصة طويلة ومفصلة، والقرآن الكريم تعرض لمشاهد كثيرة منها، لكن من أهم المشاهد التي رصدها لنا القرآن المشاهد التي تظهر عظمة القوة التي أعطيت لسليمان عليه السلام. أي دولة، أي حضارة على مر التاريخ تستطيع أن تنقل عرشاً يبعد آلاف الأميال من بلد إلى بلد؟ شوفوا الآيات القرآنية حينما تتحدث عن رغبة سليمان عليه السلام في إحضار عرش بلقيس، يعني أخذ يفكر سليمان عليه السلام في طريقة بحيث يريد أن يبهر بلقيس حينما تأتي إليه، فماذا اقترح على أصحابه؟ قال: أريد أن نحضر عرشها حتى إذا قدمت علينا ترى عرشها فتنبهر وتعرف مدى القدرات التي عندنا. قال: "يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟" قال عفريت من الجن: "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين". القرآن لا يتحدث عن قضايا خيالية، القرآن هنا يتحدث عن قضايا واقعية. بالله عليك، توجد اليوم حضارة قادرة على أن تسخر المخلوقات الخفية الجن؟ أيش المقصود من الجن؟ الجن ليس مخلوقاً مخيفاً مثل ما رسم في مخيلتنا، لا، الجن يعني المخلوق الذي يجِنّ على الناس، الذي لا نراه، المحجوب عنا. يعني مخلوقات موجودة في هذا الكون لا يمكن للإنسان أن يراها أو أن يستشعر وجودها من خلال الحواس، لكن بالمعارف العلمية وبالأسرار الإلهية يستطيع الإنسان إذا اتصل بالله أن يوظف هذه المخلوقات الخفية الموجودة في هذا الكون وتصبح في خدمته. قال عفريت من الجن: "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك". لم يعجب سليمان عليه السلام هذا الجواب. تقول الروايات: سليمان يقوم من مقام خلال ساعة أو ساعتين، لا، سليمان يريد سرعة أكثر. "قال الذي عنده علم من الكتاب"، أيضاً هنا نتحدث عن إنسان، عن مخلوق بشري، لكن هذا المخلوق ما هي ميزته؟ أنه مخلوق إلهي كسليمان عليه السلام. كما أن سليمان نبي، هذا وصي، إذاً له اتصال بالسماء، إذاً عنده عصمة، إذاً عنده ارتباط بالغيب، إذاً عنده دين وإيمان وعقيدة قادرة على أن توظف كل أسرار الوجود في خدمة الإنسان وفي عمران الأرض. "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر".

إذاً، سليمان هنا يسلم بأن كل ما عنده من مظاهر الملك، من مظاهر الحضارة، إنما هي من الله سبحانه وتعالى. فإذاً، لاحظوا الدين والاتصال بالغيب والاتصال بالبرنامج الإلهي الذي أراده الله للبشر، كيف قادر على أن يصنع حضارة ومملكة لا تضاهيها حضارة من حضارات البشر.

ثم جاءت بلقيس ورأت العجب العجاب في مملكة سليمان. لما دخلت ورأت عرشها أمامها انبهرت: "فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو. وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين". إذا سليمان يقول: العلم الذي عندنا مصدره ما هو؟ مصدره الدين، مصدره الإسلام، مصدره التوحيد. ثم أراد سليمان أن يبهرها. تقول الروايات: أوجد أو جاء بعرشها في غرفة خاصة أو قصر خاص بني على ممر بحري. وهذا يعني على شاطئ البحر، وهذا الممر البحري صنع من الزجاج النقي وامتد إلى الماء بحيث ترى البحر يتحرك والمياه تتحرك من أسفل هذا العرش السليماني المصنوع من القوارير ومن الزجاج الشفاف. فلما دخلت بلقيس، تصورت من نقاوة الزجاج أن هذا ماء، فكشفت عن ساقها، فأدار سليمان سلام الله عليه بصره، ثم بين لها أن هذا زجاج. "قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير". هنا بعد إذعنت بلقيس، أنه آن لها أن تصل إلى ما وصل إليه سليمان، فرأت أن عرشها وملكها وحضارتها تتهاوى أمام هذا الملك العظيم الذي مصدره الإسلام والتوحيد. "قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين".

 

إذاً، هذه الآيات المباركة تطرح لنا مقارنة واضحة أن الحضارات التي تستمد وجودها وتقدمها من خلال البرامج الإلهية السماوية لا تستطيع بقية الحضارات البشرية أن تدانيها. وهذا ما نعتبره عند خروج الإمام المهدي سلام الله عليه. الإمام المهدي حضارته وملكه كما ورد في الروايات كملك آل داوود، يعني كملك سليمان. ولذلك تسخر له الرياح كما سخرت الرياح لسليمان، تخرج له الأرض كنوزها وبركاتها.

إذاً، ينبغي أن نأخذ فائدة مهمة من هذا المحور القرآني، أنه بالدين والالتصاق بالدين يمكن للإنسان أن يبني حضارة لا يمكن للحضارات الأخرى أن تضاهيها. كان من المخطط أن أنتقل إلى محور عملي أو تطبيقي لكن يظهر أن الوقت قد أدركنا.

إذاً، من هنا نصل إلى نتيجة مهمة تجيب عن هذا السؤال: هل الدين يقف عائقاً أمام المشروع الحضاري؟ الدين، كما قررنا في المحور الأول، هو أساس بناء الحضارات، وكلما كان الدين نقياً، كلما كان الدين سماوياً، كلما كان الدين متصلاً بالغيب، كلما كان الدين قائماً على نبي أو وصي نبي، كلما استطاع هذا الدين أن يؤسس حضارة لا يمكن للحضارات البشرية أن تضاهيها. ولذلك كن على يقين أنه بقدر التصاق المسلمين بدينهم النقي حققوا حضارتهم. لكن تصور لو أن الأمة سارت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله على النهج الذي رسمها لها، لكانت ظاهرة المسلمين حضارة لا تضاهيها حضارة. ولذلك سلمان المحمدي رضوان الله عليه يقول: "والله لو قلدوها علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولا أدرّت عليهم السماء بخيراتها وبركاتها". إذاً الإنسان كلما اقترب من البرنامج الإلهي، البرنامج التوحيدي، كلما كانت حضارته حضارة لا تضاهيها حضارة.

ومن هنا نقول: ما يقال بأن الأديان أو الدين الإسلامي دين متخلف، دين متوحش، دين بعيد عن الحضارة، هذه مجرد دعاوى زائفة. تعالوا نطرح نماذج عن الحضارة القائمة اليوم: إلى أين تريد أنت تأخذها هذه الحضارة اليوم هذا المشروع الحضاري الشاخص أمامنا إلى أين يريد أن يوصلنا؟، يريد أن يسوق لمبادئ وقيم بدأت الفطرة الإنسانية تتقزز منها هل المشروع الحضاري يعني أن المجتمعات والعياذ بالله تجاهر بالزنا والفسق والفجور، تفتح العلاقات غير المشروعة في محافل عامة. هكذا نرى حينما نسمع ونرى المجتمعات الغربية كيف تبتذل المرأة وكيف تباع المرأة كسلعة من أجل الترويج للفجور والفاحشة والعياذ بالله. هل المشروع الحضاري أن يسوق لفكرة الشذوذ والعياذ بالله؟ أن يتشبع المجتمع الغربي من العلاقة مع الجنس الآخر فيبحث عن علاقة مع الجنس المماثل؟ هل هذه الحضارة؟ هل هذا هو التحضر؟ هل هذه العصرية؟ هل التحضر أن ينحدر المشروع الغربي إلى درجة التسويق لما يعرف بالبيدوفيليا؟ ما هي البيدوفيليا؟ يعني لما الغرب أن مسألة المثلية بدأت تأخذ موضعها، وبدأوا يعطون لهؤلاء الشواذ حقوقهم تحت عنوان الحرية، هذه الحرية التي ليست إلا فوضى وليست إلا إشباع للغرائز، انتقلوا الآن إلى خطوة أخرى وهي خطوة تعرف بالغلمانية. توجد ثلة شاذة من هؤلاء الشواذ عندهم ميول والعياذ بالله للجنس مع الأطفال، الآن بدأت تطرح أفكار ونظريات من قبل بعض المنظرين الغربيين من أجل تهيئة الأذهان لتقبل هذه الفكرة كما تقبل الآن المجتمع البشري فكرة المثلية.

 

في عام 2018 طرحت مفكرة أو دكتورة ألمانية في مؤتمر، في منصة تيد، هذه الألمانية طرحت فكرة أن الانجذاب والعياذ بالله الجنسي للأطفال، هذه حالة لا يمكن النظر إليها على أنها حالة شاذة. يعلق بعض الكتاب الغربيين يقول: يظهر أن هذا الطرح سوق له من أجل تهيئة الأذهان لتقبل البيدوفيليا كما تقبل المجتمع الغربي الشذوذ. إذاً، نحن أمام توحش حضاري، نحن أمام مشروع حضاري يعبث بالفطرة الإنسانية. اليوم ما يطرح على مستوى الحريات في الغرب تتقزز منه الفطرة البشرية. فكيف يقال بأن الدين هو مصدر التخلف ومصدر التوحش؟ لا والله، الدين مصدر الرحمة، الدين مصدر الاعتدال الأخلاقي، الدين مصدر القيم العليا، وهذا المشروع الحضاري هو الذي يريد أن يحول البشر إلى مجتمعات تسودها الغريزة، تسودها التوحش الغريزي.

ولذلك رأينا صاحب هذه الليالي المباركة، سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، كان مشروعه مشروعاً دينياً من جهة ومشروعاً إنسانياً من جهة أخرى، يرفع القيم والمبادئ الإنسانية كشعار له في حركته. تقول الروايات لما التقى به جيش الحر، عفواً ابن زياد أرسل الحر ومعه ألف مقاتل، أمره أن يجعجع بالإمام الحسين إلى أرض لا ماء فيها ولا كلأ. تقول الرواية: فوصل الحر بأصحابه إلى الإمام الحسين وركبه في منطقة شِراف أو شُراف، ووصلوا إلى ركب الحسين وهم في أشد حالات العطش، يعني لو أن الإمام الحسين منع عنهم الماء ماتوا عطشاً. لكن ما الذي صنعه أبو السجاد سلام الله عليه؟ التفت إلى أصحابه وقال: اسقوا القوم ورشفوا خيولهم ترشيفاً، يعني مو فقط بذل لحيواناتهم، بل بالغوا في بذله لحيواناتهم فضلاً عن بذله لهم. وانت في منطقة صحراوية يعني الماء عزيز، لكن الإمام الحسين سلام الله عليه صاحب قيم، صاحب مبادئ. وإلا يعلم الإمام الحسين أن هؤلاء مرسلون من قبل ابن زياد لأجل مناجزته وقتاله؟ وتصف لنا الرواية كيف أن الإمام الحسين رؤوف حتى بأشد الناس عداوة له. آخر من وصل من معسكر الحر رجل يدعى علي بن الطعان المحاربي، وكان متلهفاً لشرب الماء، جاء إلى ناقة عليها سقاء، فأخذ يشرب الماء والماء يتدفق على جانبه. التفت إليه الإمام الحسين سلام الله عليه وقال: "اخفض السقاء" يعني خلي الجمل يقعد. يظهر أن هذا الرجل لم يفهم. فجاء واحد من أصحاب الإمام الحسين وأناخ له الجمل، لا زال الماء يتدفق على كتفيه. قال له الإمام: "اخنث السقاء" يعني ضيق فوهة القربة. لم يفهم، فجاء الإمام الحسين بنفسه يسقي علي بن الطعان المحاربي.

وتعرف من هذا علي الطعان؟ رواية تقول هو أبو الحتوف الجعفي الذي رمى الإمام الحسين يوم العاشر بحجر صكه في جبهته، فأدماه. بعض الروايات تقول لا، هو من رمى الحسين بسهم في جبهته الشريفة. هذا هو موقف الإمام الحسين سلام الله عليه مع ألد أعدائه. إذاً، الإسلام ورواد الإسلام وأئمة الإسلام، هذه هي قيمهم هذه هي مبادئهم هذه هي مشاريعهم، ثم حرك الإمام الحسين ركبه بعد أن قضى وطراً في ذلك المكان. وجاء كتاب من ابن زياد إلى الحر يأمره ويشدد عليه بضرورة الجعجعة بالإمام الحسين. أصر الحر على أن يأخذ الإمام الحسين إلى منطقة نائية، والإمام الحسين اعترض عليه. الحر يقول: والله لا أدعك. والحسين يقول: والله لا أتبعك. وتروعت بنات رسول الله بهذه المشادة بين الإمام الحسين وبين الحر. تصوروا الهوادج فيها زينب، فيها أم كلثوم، فيها سكينة، فيها رقية، فيها الرباب، نساء تربين على العز والدلال. وإذا بهن في هذا الموقف يحتكون مع هؤلاء الأجلاف من أهل الكوفة. لذلك تروعت بنات رسول الله من ارتفاع صوت الإمام الحسين وصوت الحر، فأراد الطرماح بن عدي رضوان الله عليه أن يطيب خواطر بنات رسول الله، فأمسك بزمام ناقة الإمام الحسين وأخذ يحدو، الحداء المعروف.

يا ناقتي لا تجزعي من زجري *** وشمري قبل طلوع الفجر

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد