الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ عبد الجليل البن سعد: احتواء الانحراف بين العقل والدين

الليلة الخامسة من محرم 1446 هـ
الشيخ عبد الجليل البن سعد
احتواء الانحراف بين العقل والدين
مجلس الرضا (ع) بسيهات

 

قال الجليل في محكم التنزيل: "بسم الله الرحمن الرحيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.". 

آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم وصدق نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 

خضع تاريخ البشرية وأصبح موضع تجاذب للأنظار الجادة، فكلٌّ يعطي لهذا الواقع قراءة ونظرة ورؤية وفكرة. ومن تلك الأطوار التي عاشتها البشرية ولا تزال خاضعة لسطوتها هي ظاهرة الانحراف. الانحراف لم يقع أو لم يرتبط بتوصيف محدد، فالفلاسفة لهم توصيفهم، وكذلك علماء الاجتماع وأهل الاختصاص في هذا الشأن لهم توصيفهم، والمتحدثون بالفكر الديني أيضًا لهم توصيفهم. ونحن حيث نتحدث هذه الليلة حول احتواء الانحراف بين العقل والدين نفتتح بالتوصيف الذي ذكره علم الاجتماع الوضعي كنقطة انطلاق في حديثنا. من أكثر التوصيفات التي ذكرت بخصوص الانحراف في علم الاجتماع الوضعي، هو قولهم إن الانحراف عبارة عن الاغتراب بين الوسيلة والهدف، وإن الإنسان إذا أراد الوصول إلى أهدافه لا يوفق في كثير من الحالات للوسيلة الصحيحة. فالخطأ في اختيار الوسيلة صار وصفه "الاغتراب"، يعني انفصل عن هدفه بسبب أنه تاه في طريق وصوله إلى الهدف. 

هذا التوصيف، بالرغم من جماليته، يوحي لنا بأن اعتبار الإنسان عند علماء الاجتماع الوضعي، ولا أقلّ من تكلموا بهذا التوصيف، هو أنه كائن هادف بطبعه.

الواضح من هذا التعريف وهذا التوصيف أن الإنسان في اعتبارهم كائن هادف بطبعه، يختلف عن المخلوقات الحيوانية المتحركة غير الناطقة، لأنه يعي بأهداف، ويحمل أهدافًا ولا يملك نفسه أمام هذه الأهداف، لذلك هو يختط الخطط وينهج الطرق للوصول إليها، إنما لا يحالفه التوفيق في كثير من مساعيه فيحصل اغتراب بين الوسيلة والهدف. هذا ما يمكن أن تقرأه بشكل واضح في أكثر من موضع، في أكثر من صفحة من كتاب "الانحراف والجريمة في ثقافة المجتمعات الخليجية" للدكتور محمد السيف.

بعد هذه النقطة، وهذه النقطة نقطة الانطلاق، تفضي بنا قسرًا، تكسرنا وتجبرنا على أن نفتح نقطة ثانية في حديثنا تكون خاصة بالتعليق على هذا التوصيف. حينما يأتينا توصيف زبدته أن الإنسان كائن هادف، هل هذا التوصيف خاطئ؟ لا. قاصر؟ لا. لكن هل هو متوافق تمام التوافق مع المعطيات الكلامية والنقلية للدين الإسلامي أم لا؟ أحيانًا، ليس دائمًا، عندما ترفض كلامًا معينًا أو تعريفًا معينًا أو توصيفًا معينًا، هذا يعني أنك تتحفظ عليه جديًّا. لا، قد لا يكون هناك تحفظ جدي، إنما لا يكون متوافقًا مع المعطيات الكلامية والشرعية. هذا التوصيف عندما نرجع إلى معطياتنا الكلامية والنقلية نرى أنه من الأحسن والأفضل أن يوصف الإنسان بكونه محتاجًا مفتقرًا بالطبع، ولكنه حينما يجري وراء الوسائل لتوفير حاجته، يعكس الطريق ويقع في الخطأ ويتورط في الفساد، ويتسبب في الدمار ويهدم حتى الخراب.

لماذا نبدل عبارة "هادف" بعبارة "مفتقر"؟ لأن الإنسان لو لم يولد بحقيقة الفقر لما تحرك، ولو لم يتحرك لما حصل فساد. ولذا، الآية الكريمة التي صدّرنا بها حديثنا طالعتنا بهذا المعنى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ". وليست هي الآية الوحيدة في هذا الشأن. لذلك، وفق الوجهة الكلامية والنقلية الإسلامية، فإن هذه العملية، عملية تحرك المفتقر وراء حاجاته أو وراء إغناء نفسه وسعيه لإغناء نفسه، هو الذي يتسبب في الاغتراب والانفصال بين الوسيلة والحاجة. ومن يسعى إلى رفع حاجته ويبحث عن الوسائل التي تقرب حاجته، يطيح في وسائل تبعد حاجته ولا تقرب حاجته. ما مردّ هذا؟ إلى كثير من نصوصنا الإسلامية، ومنها الآية الكريمة بدلالة غير مباشرة. رواية عن أبي الحسن الرضا سلام الله تعالى عليه، تعطينا دلالة أوضح لأنها تكون قريبة من الموضوع ومباشرة للموضوع.

الرواية ماذا تقول؟ طبعًا، كما تعلمون، الإمام علي بن موسى الرضا سلام الله تعالى عليه هو الإمام الأوحد من بين أهل البيت الذي مهّد لوضع الدساتير والقوانين بحديث مفصل يسمى بحديث العلل، ما ورد عن غيره من الأئمة كما ورد عنه. حديث مفصل طويل، يعني فوق الـ 200 صفحة، رواه الفضل بن شاذان لأن الإمام أعطاه إياه في مجالس، وليس في مجلس واحد، كان الإمام يتحدث والفضل بن شاذان يكتب. هكذا. في هذا الحديث، وصل الإمام إلى نقطة مهمة، وهي: لماذا جعل الله عز وجل علينا أئمة وأولي أمر وافترض طاعتهم؟ عللها وبررها. 

فقال: "فإن قال قائل: ولم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لأسباب عديدة منها...". وصار يعدد. الوقت لا يسمح أن أذكرها لك، ولكن يقول بعد كلام طويل: "لأنه لو لم يكن ذلك، يعني لو لم يجعل وليًّا مفترض الطاعة ينقاد إليه الناس، لما كان أحد يترك لذته ولا منفعته لفساد غيره". يقول: لو لم يكن هناك ولي مفترض الطاعة، فإنه لا تكاد تجد أحدًا يترك منفعته أو لذته، لماذا؟ لأن لذته أو منفعته فيها فساد غيره. لا يهتم بغيره، المهم أن يحصل على لذته. الفكر الديني المستوحى من مثل هذه النصوص لم يرفض فكرة التقابل بين الوسيلة والهدف، أقر عليها. إذًا علم الاجتماع الوضعي يتكلم عن تقابل بين الوسيلة والهدف، فعلم الاجتماع الديني أيضًا يتحدث عن تقابل بين وسيلة وهدف. لكن الفكر الديني ميزته عن الفكر الاجتماعي الوضعي هي أنه أولاً جعل محورية وجود الإنسان هي الافتقار، وثانيًا عمق الوسيلة ونظر للوسيلة بعين التثنية، فقال: الوسيلة وسيلتان. عمّقها ونظر إليها بعين التثنية، وسيلة موصلة وهذه التي يجسدها الإنسان عندما يقوم وينهض ويذهب ويطرق باب غني وهو فقير، نقول طرق باب الغني هو وسيلة. فإن كان قد طرق بابًا كريمًا، فالوسيلة منسجمة مع الهدف، غير مغتربة.

وإن كان قد طرق باب من يريد أن يذله ويذل دينه حتى يعطيه، فهنا حصل اغتراب بين الوسيلة والهدف، انفصال بين الوسيلة والهدف. الانفصال عبارة ثانية عن الفساد. يعني أفسد أم أصلح؟ أفسد، صحيح. هذا الذهاب وطرق الباب، ماذا نسميه؟ نسميه الوسيلة. هل هي موصلة؟ هي التي تحدث عنها علم الاجتماع الوضعي فيما قرأنا واطلعنا عليه. لا ندعي أننا استوعبنا كل ما كتب.. لكن في الفكر الاجتماعي الديني، عمّق الوسيلة ونظر إليها بعين التّثنية، كما قلنا. ثنّاها، يقول هذه الوسيلة الموصلة، في قبالتها الوسيلة المقومة. الوسيلة المقومة، وجود نظام ووجود ولي أمر يقوم بسلوكك. يجب أن تكون لديك وسيلة قبالة وسيلة. وسيلتك الشخصية هذه عادة تكون في لحظات انفعال، تأخذ قرارك في لحظات انفعال، لابد أن تعرض أو تمر على الوسيلة المقومة. من هو الأكمل؟ الإنسان الكامل المؤتمن من قبل الله عز وجل ورسوله.

لذلك نحن نحتاج إلى القانون كوسيلة مقوّمة، نحتاج إلى الدستور كوسيلة مقوّمة، نحتاج إلى الولي. كل هؤلاء نحتاجهم في دور الاحتواء للانحراف. كيف نحتوي الانحراف؟ ليس عن طريق الوسيلة الموصلة وتقويمها بنصيحة وموعظة فقط، لا. إنما نحتاج إلى مثل هذه الأمور. نثبت مثل هذه الأمور حتى نحتوي الفساد. ولذلك، نحن بالنسبة لنا نقبل بكل المبررات التي تتحدث عن ضرورة القانون، ولكنّنا لا نلغي أهمية وجود المدبر للقانون. نحن بحاجة إلى قانون ومدبر فوق القانون، مدير فوق القانون.

هذه الكلمة تفتح علينا نافذة استذكار. نافذة استذكار نستذكر فيها كلمتين. الكلمة الأولى لأرسطو، وقد ذكرناها من قبل. أرسطو، عمل مفاضلة. نقلنا لكم أنه عمل مفاضلة بين القانون وبين الرجل الصالح. أيهما اختار أرسطو؟ الرجل الصالح، صحيح؟ قال: القانون مهم، لكنه لا يستغني عن الرجل الراشد، صحيح؟ لا يستغني عن الرجل الصالح. لماذا؟ لأنه يمثل الوسيلة المقومة. هناك كلمة أخرى نستذكرها، لكنها مغروسة في وجداننا الشيعي. وهي كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق أهل بيته. إلى أي مرتبة وصل بأهل بيته؟ إلى مرتبة الولاية، إلى مرتبة افتراض الطاعة، إلى مرتبة الهداية. أمان لأهل الأرض: "النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض". وهذا معناه، أوصى بالولاية والإمامة والهداية.

وحقك، لو كان قد أوصى لهم بالقصور لبنيت لهم القصور. لو أوصى بأن توضع على رؤوسهم التيجان، لوضعت على رؤوسهم. ولكن أهل البيت الذين دعا الرسول إليهم هم أكبر من أهداف الدنيا، بالتالي هم لا يتورطون في الوسائل إليها. فإذا أعطوا ما أراد رسول الله، سيقودون الناس إلى الزهد في الدنيا. إذن، إذا كان هذا هو الأمر، ماذا نريد أهل البيت. نبايع عليًا، ثم حينما يحملهم على الحق ولا يعطيهم حقّ أن يأسروا أو حق أن يسلبوا من يقاتلوا من المسلمين، ينزعون أيديهم وينقلبون عليه. هذا من أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هكذا. يعمق الوسيلة، يقول: الوسيلة المقومة مهمة، وإذا انتشر الفساد في المجتمع، فالسبب هو أن الوسيلة المقومة تكون مغيبة وتكون بعيدة. حينما تكون بعيدة وتكون مغيبة، ينتشر الفساد. ولذا، ما منيت به الأمة من مشاكل عريضة وطويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من وين جاءت؟ من أنه لا يوجد نظام؟ أبدًا. النظام كان موجودًا، ونعلم أنه كان هناك نظام. لم ينتج عن حالة اللانظام، إنما نتج عن أنه لم يكن على رؤوس الناس من يدين كل الناس لعلمه. حتى إذا اختلفوا، يرجعون إليه. ولذلك، تعال على مستوى الشريعة، حصلت مشاكل. على مستوى العقيدة، انقلبت أمور. على مستوى القرآن الكريم، على مستوى الأعراض والأموال، حدثت مشاكل.

لماذا؟ للاختلاف. والاختلاف لماذا؟ لأن الناس بالنتيجة لا تدين. ليس كل الناس مجمعة. ولذلك، لماذا صارت الناس تصلي صلاتين؟ نصلي بكيفيتين من ذاك الوقت؟ لأن هناك أناسًا ما دام يراد منا أن نصلي بهذه الطريقة نصلي في العلن، لكن كل واحد يمسك وليده، ماذا يقول له؟ اترك هذه الصلاة، صلّ كما يقول ابن عباس، فإنه من أهل البيت. وهذا يقول لولده: انظر إلى جابر بن عبدالله ماذا يقول، خذ بحديث جابر. لا عليك من حديث فلان وفلان. فحصل الاختلاف. كيف حصل الاختلاف؟ لأنه توجد فئة تصلي وهي غير مقتنعة، وتتوضأ وهي غير مقتنعة بهذا الوضوء، تخفي غير الذي تبدي. فظهرت هذه الاختلافات على مستوى العقيدة. لو كان هناك من تدين الأمة بأنه الوريث الحصري لرسول الله، لما وقعوا في التجسيم مثلاً، لما وقعوا في عقيدة التجسيم.

فحصل الذي حصل، ليس نتيجة لعدم القانون والفوضى، بل للخلاف. وهذه المعاناة ما كانت تحتاج إلى نظام فقط، كانت تحتاج إلى نظام وشخصية يتفق المسلمون على اتساع علمها بالشريعة والعقيدة والقرآن. لأن القرآن اختلفوا عليه، لو كان الأمر أن يروي القرآن عن علي فقط وعن أهل البيت فقط، لما صارت عندنا قراءات شاذة. وبحث القراءات الشاذة عند كل من له أبسط ثقافة، المحققون عجزوا عن أن يثبتوا تواتر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله. بحوث تحقيقية أنا أتكلم عنها، فحتى في القرآن هناك هذا الاختلاف، في الأعراض كفر بعضهم بعضًا وسالت دماء.

لأنهم ساروا بالوسيلة الموصلة دون الوسيلة المقومة. أرادوا أن يتخلصوا من المشكلات، فاتبعوا وسائل، لكن هذه الوسائل لا تؤمّن طرقًا صحيحة. النقطة الثالثة في حديثنا أن هناك إقرارًا تاريخيًّا ينفع في فهم الفكر الديني والاطمئنان إليه. لا نقول استفاد منه الفكر الديني، الفكر الديني مستقل، لا يستفيد من أحد، لكن ينفع لتقريب الفكر الديني إلى نفوسنا. فكر المجتمع الديني مثل مصطلحنا التاريخ أعطى إقرارًا، يعني أطلق شهادات. هذه الشهادات درست واقع البشرية في مختلف الحضارات إلى الحضارة الإسلامية، وبعد النكسة الإسلامية وهكذا. هذه النظرة التاريخية خرجت من هذا الاستعراض، من هذا السرد بشهادات جاهزة. هذه الشهادات الجاهزة تضم غالبية بني البشر إلى الاغتراب بين الوسيلة والهدف.

تقول لك إنه للأسف كثير من بني البشر لم ينجحوا في اختيار الوسيلة المناسبة والآمنة التي تؤمن على أهدافهم. كثير من البشر يرفع رأسه يطلب هدفًا معينًا ويسعى، ويعود بخفي حنين. وهكذا. هل هذا صحيح؟ نعم. خذ نماذج. المشهد الأول: الترويح، هل هو هدف بالنسبة للإنسان أم وسيلة؟ هل هناك أحد لا يمارس الترويح عن النفس؟ ثقافة الترويح، هي هدف أم وسيلة؟ ليست هدفًا. لأنني أريد أن أروح عن نفسي. الهدف هو النفس. وأما الترويح فهو طريقة وخطة، وسيلة وليست غرضًا بحد ذاتها. فحين نأتي لمشهد الترويح، أو "اللذة" حسب التسمية الرضوية، ماذا يقول؟ ما كان لأحد أن يترك لذته ومنفعته لفساد غيره. دعونا نراها في كل الحضارات. هل الترويح في كل الحضارات إيجابي، أم في غالب الحضارات؟ هل هو إيجابي أم مزيج من الإيجابية والسلبية؟ مزيج من الإيجابية والسلبية. الترويح يريده الإنسان ليرتاح، لكن غالبًا لا يكون مرتاحًا.

فغالبًا هذا الترويح لا يوفر للإنسان الراحة على خلاف حروفه ومادته. المسألة لا تقف عند هذا الحد. أعظم من ذلك، أحيانًا يصل الخراب والفساد في ثقافة الترويح حدودًا بعيدة جدًّا. مثلاً، التاريخ ينقل أن ملك الرومان، مدير حضارة كاملة، يتعب، يريد ساعة ترويح. هيؤوا له مدرجًا، يجلس مع حاشيته على هذا المدرج وهناك ملعب في الأسفل. هذا الملعب ينزل فيه اثنان من العبيد، يتقاتلان أيهما يقتل الآخر. هو يرتاح على الدم. هذه لذته، هذه متعته.

علم النفس، أو علم الاجتماع اليوم، ماذا يقول؟ علم اجتماع الجريمة، علم اجتماع الانحراف، ماذا يقول؟ يقول: اليوم أكثر أنواع الجريمة والانحراف شيوعًا ما يكون بقصد المتعة واللذة. مثل سرقة السيارات. في بعض البلدان تسرق السيارات، للمتعة. فقط للمتعة. فأكثر أنواع الجرائم تكون بهذا المستوى. نعم، سوف تلاحظ هذا الكلام حين ترجع إلى "علم اجتماع الجريمة والانحراف" لغادة الطريف وأسماء التويجري. ذكرتها قبل ذلك. هذان الكتابان، أنا ذكرتهما الليلة. وهكذا. وكتاب محمد السيف..

مشهد آخر: الموسيقى والغناء. الموسيقى والغناء، هذا مشهد. الموسيقى والغناء إنه خمر الأذان بعد خمر الأذواق. الخمر رقم اثنين هو الغناء والموسيقى، لأنه يكسب الإنسان أوضاعًا غير طبيعية. مثلاً، يجعله يبكي. هناك نوع من الغناء للبكاء. أحدهم يقول: أنا أريد أن أبكي، فيسمع أغاني حتى يبكي. ويبكي على ماذا؟ على أغنية حب وحرمان. هذا حب لا يرتبط بنهج حياتك، أنت إذا بكيت عليه. هذا لا يرتبط بنهج حياتك، لا يصحح شيئًا في حياتك ولا ينهض بك. ابكِ حبًّا على الحسين. هذا مرتبط بنهج حياتك. صحيح؟ هذا مرتبط بنهج حياتك. هذا يكسبك أوضاعك الطبيعية التي فقدتها وضاعت منك. يعود ويجمعها لك ويعطيك إياها أبو عبدالله. يقول لك: تعال إلّي. خذ وضعية غير طبيعية. لا نستطيع أن نقول عليها وضعية طبيعية. من الأوضاع غير الطبيعية، الرقص. الذي يريد أن يرقص ماذا يسمع، هذا غير طبيعي.

بدليل أن بعض الفتيات أصلحهن الله يقولن: حين أسمع موسيقى معينة أو غناء معين، أقفل الباب. إذا كانت الوضعية طبيعية. فلماذا تقفلين الباب، بعد، هذا يجعلها في وضعية هستيرية، هسترة. هل هذه وضعية طبيعية؟ هذه لا تكون وضعية طبيعية، أحد يقود السيارة، الجي بي إس يقول له: باقي على المخرج الفلاني كيلومتر. لكن وحقك، الذين يقفون في المخرج يسمعون الغناء عن بعد كيلومتر. هل هذه وضعية طبيعية؟ خمر أو لا؟..  يبدأ الإنسان يستنغم، يستنغم، يستنغم، يعني يتبع النغمات ذات العواطف. يصبح الرجل لا يميل إلا لنغمات المرأة المغنية، لأنها تثير عواطفه أكثر. وتصبح المرأة لا تميل إلا لنغمات الرجل، لأنه يثير عواطفها أكثر. بعد، أكثر من هذا. من أخطر ما فيه الغناء والموسيقى من حالات أن يجعل الإنسان ينفصل عن نفسه. ليس الانفصام الذي يتكلم عنه علماء النفس. ينفصل عن نفسه. يريد ينسى نفسه، يريد يرتاح من نفسه. ينفصل عن نفسه.

ليش اعتبرناها أخطر شيء؟ لأنه يجعل الإنسان من يدمن النغمات هذه، لا يحب سماع تنغيمات القرآن. لماذا؟ لأن النغمة القرآنية، على العكس، تريد أن تجعلك في مواجهة نفسك. وهو متعود على أن يكون منفصلًا عن نفسه. فمن يسمع القرآن، يصبح في مواجهة نفسه، ويريد أن ينفصل عن نفسه. وهناك سيئات كثيرة جدًّا لا أسترسل فيها، جمعها القرآن كلها في تسمية واحدة: لهو الحديث. بعد، النقطة الأخيرة: أنه هنالك اعتراف علمي غير مباشر، نحن نصنع منه نتيجة دينية. علم الاجتماع الوضعي لما انفتح على الأسباب، جاء وحاول أن يحصي، لكن ما الذي حصل؟ أنت حين تسمع نشرة أخبار، لا تأخذ عشر دقائق. لأن كل الأخبار مؤلمة، يعني لا يصاب الإنسان بالإحباط. عشر دقائق كافية. ما بالك إذا أنت تفتح نشرة أخبار وتسترسل لساعتين، ثلاث، ماذا تفعل؟ تتوقّف. هنا قتل خمسون، هنا قتل مئة، هنا جرح كذا. والعالم لا يتحمل.

تصور أن علماء الاجتماع حين جاؤوا لأسباب الانحراف، أعطوا نشرة استمرت ولم تتوقف. أنت حين تقرأ هذه النشرة، أحد يقول لك: الانحراف يرجع للعامل الطقسي. عامل الطقس. ولذا في المناطق التي فيها حرارة، يكثر فيها الهوس الجنسي. طبعًا، نحن يجب أن نعطي أنفسنا الحق ونقول: إن الإباحية في المناطق الباردة، لا نعلم كيف خرجت هذه النظرية، يقول لك مثلاً: إن هذا الشيء إنه من العوامل البيولوجي، هنالك نعم، عامل البيئة، هنالك الجغرافي، العامل الجغرافي، وهنالك وهنالك. هذا غير المدارس. المدرسة الوضعية عندها رؤية، والمدرسة السلوكية عندها رؤية، وهكذا، وهكذا. نشرة انفتحت ولم تغلق. بدأت واستمرت. أنت حين تقرأ هذه العوامل، تشعر أنّ الانحراف إذا كانت عوامله بهذه الكثرة، هل يمكن احتواؤه أم لا يمكن احتواؤه؟ لا يمكن احتواء هذا. كيف نحتويه؟ إذا ركزنا على دراسته بمنطق العوامل، لا نقدر أن نحتويه. لكن نعم. دعنا نرجع إلى الفكر الإسلامي. لأنه في الفكر الإسلامي لم يذكر واقعيات. واقعيات وليست عوامل. هذه واقعيات، أنت لا تشغل نفسك بالواقعيات وتبني عليها النتائج. لماذا؟ لأن الواقعيات تولد حاجات. أينما وجد الواقع، وجدت الحاجة بإزائه. ولكن، إذا أردت أن تحتوي الانحراف، فلا تفكر بهذا المنطق، لأنه يزيدك حيرة.

المنطق الديني يقول: إذا كانت درجة الاختلاف كبيرة في المناشئ والواقعيات، لابد أن تنتهي إلى شيء له نوع من الاستقرار. اذهب إلى شيء مخلوق في داخلك له استقرار، له قابلية الاستقرار، وراهن عليه. لا تقرأ الحدث بقراءة وقائعه وعوامله فقط. الدين شيء، لكن له قدرة على الاستقرار، ويجعل الروح تستقر. بحيث كان في نقطة جغرافية تحمله على المعصية أو لا؟ إذا كانت مليئة بالدين. يستطيع أن يؤدبها، ويقضي عليها بالدين.

نعم، هكذا. أو يحيلها على وضعية السكون، ولا يفرط الزمان من يده. ولذلك أمير المؤمنين سلام الله عليه يخاطب أحد عماله ويقول: أما والله لو أن الحسنين فعلا الذي فعلت، لأخذت الحق منهما. قد البعض يقول: شيخنا، هو الحسن والحسين هل يمكن أن يفعلا هكذا؟ لا، ليس ممكنًا. ولكن المبالغة في الحق، أن يبين أن هذا شيء لا يميز فيه، يسمونه المجاراة. هذا ما سبب المشاكل والعوائق، الذين بايعوا علي بن أبي طالب، انقلبوا عليه. لأنه لم يسمح لهم أن يأسروا، ولا سمح لهم أن يسلبوا في قتالهم. هذا المعنى موجود وواضح، يجب الوقوف عنده. لذلك، الإمام الحسين سلام الله عليه، الإمام الحسين في هذه الحالة، في ذلك المجتمع. الذي كان للأسف الشديد، لا يميز بين الحق والباطل. وأصبحت الناس تصلي، ولكنها تشرب ما حرم الله. وتصوم ولكنها تفعل ما حظر الله عز وجل. في ذلك الوقت، يبرز الإمام الحسين سلام الله تعالى عليه، يبحث عن النقطة الجغرافية التي تمهد لإقامة الحق ولو بعد حين. ولو بعد مقتله وشهادته.

بهذا نصرّ على النظرية التي تكلمنا عنها وهي أنك مفتقر إلى الله. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ". أنت مفتقر. ماذا يعني "مفتقر" يعني من حقك أن تسعى في إنقاذ نفسك، وفي طلب النصرة، وفي تأسيس دولة. هذا كله من حقك. ولكن أن تسعى إلى أن يقول لك القدر قف، تطلب أهدافك إلى أن يقول لك القدر كف، فتكف. بهذا المستوى سعى الإمام الحسين سلام الله عليه، نعم، سعى وتحرك. ولذلك، حين مشى، بدأت بعض النفوس تتقوم لوجود الوسيلة المقومة، وهو أبو عبدالله الحسين. بدأ الدين والروح يتجلى بأروع الصور. يا عزيزي، أن ترى بعضهم مشى مع الإمام الحسين مسافة 250 كيلومترًا حافيًا. بعض الدارسين اليوم حين جاؤوا وحددوا نقطة الانطلاق، انطلاقة بني فلان أو فلان مع الحسين، إلى أن وصلوا كربلاء. 250 كيلومترًا، حافيًا، لا فرس عنده ولا ناقة، هذا يدلك على ماذا؟ على أن التركيز في التصحيح على الروح يبتني على الدين. وخذ من آيات عجيبة، كيف استقامت الأرواح. استقامت في هذه الرحلة الحسينية، وهذه الملحمة الحسينية. والحقيقة، أن الأرواح التي تجلّى فيها الحب إنما استلهمته من أبي عبدالله. لأن ما ظهر من أبي عبدالله من حب للناس كان يفوق حب الناس له. هذا المشهد كثيرًا ما يترك أثره البالغ على النفس، كيف تعامل مع شيعته.

تعامل المضحي، نعم. يقبل من بعض الأنصار المشارطة، شارطوني، فيشارطونه. إذا أردنا الرجوع، نرجع، فيأذن لهم في الرجوع. لماذا؟ لحين يأذن لك في الرجوع، وهو أمس الحاجة إليك، يعني ضحى بنفسه من أجلك ولم يضحّ بك له. مشهد آخر. الرواية تقول: إن ثلة من الرجال ما كانوا يهتدون إلى الطريق، فاتخذوا الطرماح دليلًا ووصلوا إلى الحسين بعد أن أحكم الحر قبضته على الحسين. فرأى هؤلاء القوم كانوا مع الطرماح، فألقى بالقبض عليهم. قال له الحسين: خلِّ عنهم فإنهم شيعتي. قال: كلا، قد أمرت. نعم، أمرني ابن زياد أن لا أرى خارجًا إلا رددته. فظل الإمام الحسين يناشده، لما أصر على رفضه، وضع يده على مقبض سيفه، وقال: إما أن تخلي عن شيعتي وأحبابي، وإلا ناجزتك بسيفي. فترك سبيلهم للحسين عليه السلام. كانوا يسمعون كلام أبي عبدالله، لم يتحملوا، فجاؤوا ووقعوا على أقدام الحسين. نعم، التفت الحسين إلى الطرماح، قال له: يا طرماح، أما ترى الذي فيه نساء رسول الله وحرائره من الخوف؟ لو أمسكت بزمام الناقة وقدتها بصوتك. فانطلق الطرماح وهذه أناشيدكم تحفظونها.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد