نسرين نجم ..

قيل عنه أسطورة الشعر ، لأنه نبع شعوري شعري متدفق وخلّاق ومبدع ، له بصمته المميزة في القصيدة شكلاً ومعنى، فهو يجعلك تحلق معه في عالم ساحر من الكلمات التي تدخل القلب دون استئذان ، إنه الشاعر الكبير جاسم الصحيح الذي أجرينا معه هذا الحوار.

رحلة في عالم الشعر:

يعرف الجميع أن الأستاذ جاسم مهندس ميكانيكي ، الأمر الذي دفعنا إلى سؤاله حول كيفية جمعه لعالمين مختلفين؛ الشعر والهندسة الميكانيكية في شخصه ، فكان جوابه أن قال : " هناك مجالات متنوعة كثيرة في العالم، ولكنها غير متناقضة في جوهرها . لذلك ، يمكن لكلِّ إنسان أن ينخرط في عدَّة مجالات دون أن يلغي المجالُ مجالاً آخر . بالنسبة لي ، الهندسة الميكانيكية هي مهنة عمل ، أما الشعر فهو هويَّتي وملامح وجهي وعلامتي الفارقة في الحياة ". ويعتبر بعضهم أن الشعر يولد مع الإنسان ، فيما يرى فيه آخرون أنه نتاج معاناة ، ويذهب بعضٌ إلى القول إنه ترف فكري ، فماذا يقول الشاعر الأستاذ جاسم الصحيح  ؟ : " الشعر ليس ترفًا فكريًّا ولا زخرفة على لوحة الحياة.. الشعر هو موهبة تتفتَّح زهرتها في حواسّ الشاعر مع بداية تفتُّحه على الحياة ، ثم يقوم بتطويرها وصقلها عبر التأمل والقراءة العميقة . وفي ختام المطاف ، سوف يكتشف الشاعر أنّ الشعر هو التورُّطِ في الحياة والإيمان بالإنسان وقضاياه وحقوقه " .

 وللمكان لدى الأستاذ جاسم الصحيح أثر بالغٌ في تعزيز موهبة الشعر لديه ، سيما أنه عرف عنه من الصغر مرافقته لقرّاء القرية ومثقفيها ، يقول : " الشاعر هو أحد محاصيل البيئة التي يعيش فيها ، فلا يمكن أن يكتب إلا من خلال ظلال هذه البيئة التي يحملها في دمه كما تحمله هي في أحضانها . لذلك ، تأثير المكان على الشاعر تأثير عميق مرتبط بالوعي واللاوعي ، ولا يمكن لشاعر أن ينفرط من قبضة هذا التأثير ، ولكن على الشاعر أن يحمل هذه البيئة الصغيرة التي ينتمي إليها ، ويحوِّلها إلى بيئة كونيَّة تنتمي للإنسانية جمعاء ".

كان الصحيح كما يعرف عنه حافظًا للشعر في صغره ، فإلى أي حدٍّ ساهمت حافظته في توطيد علاقته بالشعر ؟ يقول الصحيح : " نمت الموهبة بطريقة تدريجية فأنا لست من أولئك الذين يتمرَّدون على نواميس التدرُّج . كانت رحلة طويلة وشاقة وممتعة مع الكلمات على مدى ثلاثين عامًا.. رحلة استطاعت أن تنقلني في مراحل عديدة من الوعي ، وقد قلت سابقا أنَّ كلّ مرحلة تلعن أختها وتحاول أن تتفوَّق عليها.. هي رحلة مع الحياة من خلال مواقفي المتعددة تجاه الحياة" .

وحول سؤالنا إياه عن مدى امتداد أفق الشعر في التعبير عن هويته وشخصيته ، وعمّا إذا باح الكروان بمشاعره أم لا يزال محاصرًا بصحراء الصمت ؟ قال الأستاذ جاسم : " لا شكَّ أن الشعر استطاع أن يقدِّمني إلى الناس كما أريد على صعيد الشخصية وعلى صعيد الهوية ، ولكن الهوية والشخصية لا تتوقف عند حدّ.. هما ليستا صخرتين ثابتتين ، وإنما فضاءان قابلان للاتساع على طول الزمن . لذلك ، دائما ما تنمو عناصر جديدة تضاف إلى الشخصية والهوية كي تعيد صياغتهما إلى ما هو أكثر إنسانية وحضارية " .

خصائص شعره ومكانة المرأة :

ويتحدث الصحيح عن مكانة المرأة في شعره ، معتبرًا أن : "حضور المرأة في قصيدتي هو حضور الروح في الجسد.. حضورها يدلّ على الحياة فهي الرمز الأمثل للحياة في خصوبتها وجمالها وعطائها وخلودها " . ورغم أنه استطاع أن يعطي هوية خاصة للشعر إلا أنه يرى بأن شعره : " لا يختلف عن غيره ، أنا أنتمي إلى جيل من الشعراء العرب الذين عملوا بمساحةٍ كبيرة من الاجتهاد في بثِّ الروح الشعرية الحديثة داخل النص الشعري العروضي ، وجاءت النجاحات متفاوتة بين شاعر وآخر " .

بالانتقال إلى موضوع جدلية العلاقة بين مدرستي الشعر "الكلاسيكية والحديثة" يرى الصحيح نفسه مسكوناً بـــ "الكلاسيكية" وأن روحه الشعرية روحًا عمودية : " منذ بدايتي مع الكتابة ، وجدت نفسي مسكوناً بالشعر الكلاسيكي مثل شعر المتنبي وأحمد شوقي ، وانخرطت مبكرًا في هذا الشكل من الكتابة الشعرية حتى أصبحت روحي الشعرية روحًا عمودية ، أشعر بها حتى في قصائدي التفعيلية .  أعتقد التشكُّل الأول للروح عبر القراءة والكتابة لعب دورًا كبيرًا في أن أكون شاعرًا يجمع بين الكلاسيكية والحداثة اللغوية " .

فهل تعلُّقه نفسيًّا وروحيًّا بالمدرسة الكلاسيكية يستدعي منه أن يسجل اعتراضات ما على المدرسة الحديثة ؟ ينفي الصحيح ذلك : " لا توجد اعتراضات أبدًا.. وإنما يوجد انتماء وانحياز له " .

وحول رأيه بما قد يقوله بعض المهتمّين بالشعر الحديث ، بأن أفق الشعر التقليدي ضيقة جدًا ،  يعتبر الأستاذ جاسم أنه : " لا يوجد الآن من يقول ذلك ، نحن الآن في عصر ما بعد الحداثة حيث تصالحت كلُّ الأشكال الإبداعية وأصبحت تبحث عن الجوهر بغضّ النظر عن المظهر " .

وحول رأيه بظاهرة الشعراء الشباب ، يرى الصحيح فيها بشرى كبرى تتابع مسيرة الجيل السابق : " اكتشفنا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة مثل تويتر والواتساب والفيسبوك.. اكتشفنا أنَّ هناك الكثير من الشعراء الشباب المبدعين في أنحاء الوطن العربي ، وهذه بشارة كبرى لنا نحن الجيل السابق بأنَّ الشعر العربي في أيدٍ أمينة . في كلِّ مرحلة زمنية يكون هناك شعراء حقيقيون وآخرون مزيفون ، ويبقى الزمن هو الكفيل بالتمييز بينهم في فترة لاحقة من التاريخ " .

ولدى سؤالنا إياه عمّا تعني له الكلمات التالية: الجمال، الحب، العرفان، الحياة، الهجرة، الحزن، الأم . أجاب بشاعرية واضحة :

الجمال : مصدر الإلهام

الحب : القيمة التي تلتقي تحت مظلَّتها جميع القيم الإنسانية

العرفان : الأفق الأوسع للروح

الحياة : أنثى هاربة مني دائما

الهجرة : البحث عن الذات

الحزن : شكل من أشكال الجمال

الأم : الحياة في أجمل تجليَّاتها وأقدسها .

وفي الختام كان لا بدّ من سؤاله عن أنشطته المستقبلية ، قال الصحيح : " أعمل على ترجمة مختارات من قصائدي وطبعها في ديوان شعري باللغة الإنجليزية ".

ــــــــــــــــــ

الشاعر.. الـمُتَشَجِّرُ بالكائنات

مقاطع من قصيدة طويلة

كالوقتِ جاءَ.. يدورُ حولَ أناهُ

ويتيهُ في صحراءِ لاجدواهُ

سارٍ إلى اللَّا أينَ.. غايةُ قَصدِهِ

أنَّ القصيدةَ من حقوقِ سُرَاهُ!

ما قالَ قَطُّ: (وَجَدْتُهَا).. وَهُوَ الذي

نَشَرَ الوجودَ برأسِهِ، وطَوَاهُ

رأسٌ ينوسُ كشُعْلَةٍ أَبَدِيَّةٍ

تَعِبَتْ بـحَمْلِ ظلالِـها، كَتِفَاهُ

يشكو.. وكُلُّ الأبجديَّةِ وِحْدَةٌ

لقياسِ عُمقِ الجُرحِ في شكواهُ!

والشعرُ بذرتُهُ العزيزةُ.. حيثما

يُلقِيهِ تنبتُ في المكانِ جِباهُ!

كالوقتِ جاءَ.. يُشِعُّ مِلْءَ مجازِهِ

من قبل أنْ يَلِدَ النهارُ ضُحاهُ

سَبَقَ الكلامَ إلى الكلامِ كأنَّما

من قَبلِهِ لم تُخلَقِ الأفواهُ

ما انفكَّ يقطفُ مفرداتِ بيانِهِ

من معجمِ الخفقانِ في أحشاهُ

ماضٍ إلى المعنى مُضِيَّ نبوءةٍ

فكأنَّهُ (موسى) إلى (سيناهُ)

سفرٌ يطولُ وشاعرٌ مُتَرَحِّلٌ

لا يبتغي وطنًا سوى معناهُ

ماضٍ يُحَرِّرُ بالنشيدِ زمانَـهُ

كي يفتحَ المعنى إلى أقصاهُ

هَجَرَ البلادَ جميعَها مُتَبَتِّلًا

للتِّيهِ حيث بلادُهُ قَدَمَاهُ

يحنو على ظبيِ الفصاحةِ كلَّما

عَلِقَتْ قرونُ الظبيِ في فُصحاهُ

مُتَخَفِّفٌ كالحقلِ بعد حصادِهِ

يكفيهِ من قمحِ الحياةِ سَـنَاهُ

أعمى، يُفَتِّشُ عن حقيقةِ سِرِّهِ

وعلى المجازِ تَفَتَّحَـتْ عيناهُ

ورأى الوجودَ.. رآهُ باباً مقفلاً

بالأحجياتِ فهَزَّهُ ودَحَاهُ

وطوى على يدهِ المدى فكأنَّما

كلُّ المداراتِ الْتَقَتْ بـمَدَاهُ:

عُرْسٌ ولكنْ لا عروسَ، فلم يزلْ

يُحيِيهِ بالقَدْرِ الذي يحياهُ

* * *

كالوقتِ جاءَ وحين قَدَّمَ نَفْسَهُ

للأرضِ، فَاضَتْ خضرةٌ ومياهُ

فَرْدٌ من البَشَرِ المُعَطَّلِ، إنَّما

ما انفكَّ يعملُ في يديهِ اللهُ

ما الشِّعرُ إلَّا الفيضُ.. فيضُ ألوهةٍ

في فكرةٍ.. فإذا الكلامُ إلهُ

والحبرُ ليسَ سوى مَمَرٍّ آمِنٍ

كي يهربَ الإنسانُ من بلواهُ

والكونُ لعبةُ شاعرٍ مُتَوَرِّطٍ

بالخلقِ منذُ تَأَلَّهَـتْ كَفَّاهُ

لم يلتفتْ للأوَّلينَ كأنَّهُ

بدءٌ، وثَمَّةَ لا وراءَ وراهُ!

ينتابُهُ هَوَسٌ بكلِّ ولادةٍ

تفتضُّ عن حُلْمِ الحياةِ غِشَاهُ

ينتابُهُ هَوَسٌ بكلِّ طفولةٍ

تمتصُّ من صدرِ الوجودِ أَسَاهُ

في كلِّ قافيةٍ تَجِدُّ بدايةٌ

للخلقِ تجمعُ أُمَّهُ وأَبَاهُ

ما شَعَّ مصباحُ القصيدةِ في المدى

إلَّا وصادفَ (آدمٌ) (حَـوَّاهُ)

* * *

كالوقتِ جاءَ.. يَشُفُّ عبرَ حضورِهِ

حتَّى يُظَنَّ حضورُهُ أَخفَاهُ

حُلْمٌ كحُلْمِ الأنبياءِ مُحَصَّنٌ

ضدَّ الهباءِ فـمَنْ رَآهُ رَآهُ!

لم يختبئْ في الصوتِ.. خَبَّأَ نفسَهُ

ما بين نبرةِ صوتِهِ وصداهُ

نشوان يحملُ قلبَهُ في رأسِهِ

ويُضِيءُ فكرتَهُ بـزيتِ مُنَاهُ

تَتَفَتَّحُ الصَّبَوَاتُ في كلماتِهِ

حتَّى يُعيدَ إلى الكلامِ صِبَاهُ

لَهَبُ السليقةِ جامحٌ في روحِهِ

ونقاؤُها مُتَدَفِّقُ بِـدِمَاهُ

يحيا بأبياتِ المطالعِ كلَّما

- في مطلعٍ - نَفَخَ الإلهُ شَذَاهُ

ويموتُ في البيتِ الأخيرِ بـنَصِّهِ

ويعودُ يُبعَثُ من لظَى (عنقاهُ)

لحنٌ أضاعَ من القبيلةِ لحنَها

وأشاحَ عن إيقاعِها بِـغِنَاهُ

ماضٍ على ما تشتهي أوتارُهُ..

مُتَتَبِّعٌ إيقاعَ مُوسِيقَاهُ!

ماضٍ، وتنطلقُ الحياةُ أمامَهُ

مهما أدارَ إلى الحياةِ قَفَاهُ

يحدو الأَجِنَّةَ في الطريقِ إلى غَدٍ

ضاحٍ أفاقَ على انهيارِ دُجَاهُ

مُتَيَقِّنٌ أَلَّا انعكاسَ لوجهِهِ

ما لم يُضِئْ مرآتَهُ بِرُؤَاهُ

مُتَبَدِّلٌ فيما تُبَدِّلُهُ الرُّؤَى

منهُ، فما تجترُّهُ الأشباهُ

نَسَفَ الوصايا حيث كلُّ وَصِيَّةٍ

جبلٌ يسدُّ بـوجهِهِ ممشاهُ

رهطٌ من الأسلافِ في وجدانِهِ

يتقاتلونَ على احتلالِ سَمَاهُ

حتَّى إذا هَوَتِ الرؤوسُ جميعَها

لم يبقَ إلَّا رأسُهُ مولاهُ

سَحَبَتْهُ روحُ الفَرْدِ من أسلافِهِ

مثل انسحابِ السيفِ من قتلاهُ

واجتازَ فَخَّ الانتماءِ كـطائرٍ

حُرٍّ يرى كلَّ الفضاءِ فَضَاهُ