لقاءات

الفاضلة أمّ عبّاس الطّاهر النّمر: إذا أُعطيت المرأة حظّها من العلم، كانت أقدر على كبح غريزة الأنا والذّاتيّة

الجزء الأوّل من الحوار الذي أجرته معها "نسرين نجم"

 

تحصين الفتاة بالعلوم المتنوعة والمعارف يعدّ من الأمور الأساسيّة المهمّة في عصرنا هذا، وأيّامنا هذه التي أصبحت تشهد وتؤكّد على الشّراكة الحقيقيّة في بناء المجتمع السليم بين الرجل والمرأة. إلّا أنّ ذلك لا يكفي، لأنّ تشجيع المرأة على الحصول على العلوم الدينيّة من شأنه صناعة مجتمع يهتدي بالمثل العليا والمبادىء والأخلاق والآداب،  حول هذا الموضوع ومواضيع أخرى تتعلق بأهمية القدوة في حياة الفتاة، كان لنا هذا الحوار مع (العالمة الفاضلة الأستاذة أم عباس الطاهر النمر). 

 

(في ظلّ التّحدّيات والمغريات التي نعيشها في هذا العصر، ومحاولات السّعي لسلخنا عن هويتنا، ما أهميّة تحصين الفتاة وتثقيفها بالعلوم الدينية؟ وما المقصود بالعلوم الدّينيّة ؟ هل هي -كما عند البعض - الابتعاد عن العلوم بشكل عامّ؟)

 

أشكر القيّمين على شبكة فجر الثقافية التي تعنى بالشّأن الثّقافيّ والفكريّ والتّربويّ والاجتماعيّ، أشكركم لإتاحة هذه الفرصة لنقدّم هذه الخدمة المتواضعة للمرأة المؤمنة بشكل خاص وللمؤمنين بشكل عام. نعم كما تقولون لقد تعرّضت أمّتنا الإسلاميّة لتحدّيات وضربات موجعة مختلفة، ولكن ما تعانيه في هذه الحقبة الزّمنيّة هو الأخطر في تاريخها على الإطلاق، بالرّغم مما وصلت إليه أمّتنا اليوم من عناصر للاستنهاض والإحياء، إلا أنّ التّحدّيات والصّعوبات ضدّها تشتدّ وتقوى وتتّسع على جميع الصّعد. وجوديّة فكريّة فلسفيّة واجتماعيّة، تكاد تأتي على الأخضر واليابس، تكاد لا تمرّ هذه الأمّة بهذه الامتحانات كما تمّر الآن بهذه المنعطفات، وما عرفت في تاريخها معارك شرسة كالّتي تخوضها اليوم، لأنّه صراع على جذورها ووجودها وكيانها.

أعتقد أنّ ذلك بسبب ما يسمّى بالحضارة المعاصرة التي بنيت على مجموعة من الثّوابت والقواعد، اعتمدت إفراز إنسان يمكن أن نشبّهه باللّقيط الذي لا أب له، هو يشبه بني آدم أصلًا من أيّ جهة، والغريب أنّ القرآن الكريم دائمًا يخاطب الإنسان والنّاس ويذكّرهم بأنّ أباهم آدم "يا بني آدم كلوا واشربوا ولا تسرفوا" وهكذا، ربّما لأنّه مع وضوح هذه الحقيقة وبداهتها، لكنّ الإنسان سيستمرّ عبر مسيرته الانحرافيّة إلى محطّة وهي محطّتنا في هذا اليوم، يحتاج إلى من يذكّره بهذه البديهيّة وهي أن له أبًا معروفًا بخصائصه "صفي الله"، ذلك أن الحضارة الغربية اليوم فصلته عن هذا النسب، وعن هذا السبب الروحي والبعد الفكري والعقلي والأخلاقي، وصاغته على أنه ذو بعد واحد مادي فيزيولوجي، فهويّته جسده، لغته جسده، مطالبه جسده، أغرقت الإنسان بهذا الشّبر من الماء السّطحيّ، وفرّقته من جوهره الفطريّ والرّوحيّ والفكريّ، لأنّه بعد دراستها للإنسان رأت أنّه لن يكتب لها البقاء والهيمنة على العالم، إلّا بعد تفكيك الإنسان وإعادة تركيبه وفق مقاييس قائمة على إلغاء الجانب الأصيل منه، الروح والفكر والعقل والإيمان، ولذلك أصبحت تضخّم حاجته المادّيّة بكلّ أبعادها، ترى كلّ ذلك في السّوق في الإعلام في مناهج التّعليم في الجامعات لتتفنّن في عمليّه مسخه، وقد أعانها على هذا المشروع تعميم هذا المنتج، أعانها عليه ما وصلت إليه من قدرة على التّواصل بين أطراف العالم، وتحقّق لها ما كانت تدعو له من مئات السّنوات تحت شعار "العولمة".

 

هذا الخطر لا يمكن أن يواجه إلّا بعمليّة معاكسة لهذا المشروع، وذلك باستنهاض الإنسان علميًّا وفكريًّا ومعرفيًّا، والعلم لن يكون كافيًا بنفسه لإدارة هذه المعركة وإزاحة هذا الخطر، ما لم يضمّ إليه الإرادة الحرّة والعزيمة الجادّة والإيمان الرّاسخ للنّزول إلى ساحة المواجهة، طبعًا العلم ليس هو من مقولات الإرادة كما يقول الفلاسفة، ولا مقولات الإيمان والتي هي الهدف من وجود الإنسان، ولكنّ العلم هو خطوة مهمة في توجيه الإرادة والعقل والإيمان، ومن هنا تأتي أهميّة دور العلم والمعرفة في مواجهة الحضارة العمياء الصمّاء، فإنّ العلم الحقيقيّ هو أيضًا يقوم بعمليّة معاكسة، فهو يفكّك الإنسان من الدّاخل، ويفرّغ الإنسان من الدّاخل، ويعيد بناء الإنسان ولكن وفق منظومة تتناسب ومقاييس العقل والوحي، ويحدّد للإنسان البعد الأصيل من البعد الثّانويّ والطّفيليّ، ولهذا كان دائمًا سلاح الأنبياء التربية والتعليم، وهنا يأتي سؤالكم ولكن بصيغة ثانية هل يفترض من الإفادة بالعلم أن يكون المتعلّم مثلًا رجلا أو امراة أن يحميها من منزلقات المادّة الزّائفة، أو من منزلقات هذه الحضارة الزّائفة، فنقول:

إنّ العقل ينفي لنا شرط الذّكوريّة لتحصيل العلم والمعرفة، وكذلك النّقل أي القرآن والسنة، أما نقلًا فإذا رجعنا للقرآن والسنّة سنجد هناك الحث الشّديد على طلب العلم والمعرفة، حتى جعل فريضة دينية لا يجوز تركها للمسلم رجلًا كان أم امرأة، والنبيّ محمّد (ص) الذي هو المعلّم الأول، وعرفانيًّا نقصد بالمعلم الأول أي أنّ علومه هي الحقّانيّة بالدّرجة الأولى، ولها المرتبة العالية الوجوديّة.

كان صلّى الله عليه وآله علاوة على أنه كان يحثّ على طلب العلم، كان يمارس التّعليم، فقد جاء على قول أصحابه: إنا كنّا ندخل على رسول الله وإنه كان يفرغنا ثم يملؤنا، يفرغهم من الجهل، ثم يملأهم نورًا وعلمًا ومعرفة، كذلك ذكر السّيّد الطباطبائيّ في كتابه "سنن النّبي" أنّ المسلمين كانوا يدخلون على رسول الله وفّادًا ويخرجون عنه ذواق... فكانوا يدخلون فارغين ويخرجون عنه ذواق وهو القائل (ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، فقد كان يمارس هذه الوظيفة مع الرجال والنساء، وكانت النساء يحضرن الجمعة والجماعات كما كان الرجال، بل إنّنا نلاحظ أنه في القرآن هناك دعوة خاصة لنساء النبي، طبعًا لكونهنّ في مكان يرجى منهنّ أن يكنّ مثالًا للمرأة المسلمة، هناك دعوة وحثّ خاصّ لقراءة القرآن وتعليم ما فيه من آيات بيّنات وبراهين وحكم عقليّة وعمليّة.

 

قال الله تعالى مخاطبًا نساء النّبي"وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا"، ذلك سينعكس على وعيهن وحياتهن، هذا من جهة النّقل الديني، وأمّا عقلًا فإنّنا لو أخذنا أيّ فكرة، أيّ معلومة، أيّ مسألة، أي موضوع نريد إيصاله للإنسان، فسنجد أنّ هذه المعلومة، وهذه الفكرة، هذا الموضوع لم يؤخذ في فهمه قيد الذكورة أو الأنوثة، نعم يشترط أن يكون المتلقي سليم الحواس عاقلًا، وأيضًا أخلاقيًّا يطلب الحقيقة غير مكابر، هذه شروط ترتبط بالعقل والفكر والإدراك والأخلاق، وهذه أبعاد وجوديّة للإنسان ليست تابعة للقالب البدنيّ، رجلًا كان أو امرأة..

اما الشّقّ الثّاني من السّؤال، فينبغي أن نقول إنّه يجب أن نفرّق بين الدّين والتديّن، نعم الدين بمعنى معرفة الدّلالات والآيات والرّوايات وتحصيل العلوم العقليّة النّافعة المؤثّرة في معرفة قضايا الفقه والفكر والثّقافة الدّينيّة، نعم لقد وضعت هذه العلوم الحوزويّة الكلاسيكيّة المعروفة بحيث تساعد على فهم دلالات الآيات والرّوايات وتحصيل العلوم العقليّة التي تؤثّر في هذه المعرفة، ولكن هذا يؤثّر في معرفة النّصّ الدّينيّ، ومعرفة الأحكام الدّينيّة، وأمّا التّديّن والإيمان والورع والتّقوى والفضائل، فالإنسان يحصل عليها بمعرفة تكليفه والالتزام به، ولا يفترض بذلك طبعًا دراسة علوم معيّنة، فقد جاء في الرواية: "من تعلّم العلم فسيعود إلى الله". ويقولون معنى العلم هو القدرة على الرّبط، الرّبط بين المبادىء والنّتائج، وعندما يصل الإنسان إلى أهمّ نتيجة، وأهمّ غاية وهي وجود الله سبحانه وتعالى، فهذه أوّل خطوة في العلم، أوّل خطوة في الدين وفي التدين.

 

( ما هي آثار العلوم الدّينيّة على الحياة الأسريّة والاجتماعيّة للمرأة المسلمة؟).

 

إنّ الأسرة هي أكثر شركة يخالط فيها الفرد أناسًا آخرين أو يشاركهم في خصوصيّاتهم النّفسيّة والماليّة وفي وقته واهتمامه وأخلاقه وسلوكيّاته، ومن شأن الخلطة التّساهل في التّعامل مع حقوق الآخرين، وكثرة الخلطة وتشابكها تجعل الإنسان يغفل عن مراعاة العدل والإنصاف، إلّا من عاقب نفسه قال تعالى: "إن كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ" ولكي لا يقع الإنسان في براثن الظّلم والبغي وتجاوز الحدود، يجب أن يعلم أنّ البيت الأسريّ ليس مكانًا يسكن فيه مع الآخرين لإشباع حاجته الماديّة والغرائزية، بل هذا الاجتماع فرصة مهمة في حياة الإنسان يمارس فيها قدراته الرّوحيّة والأخلاقية، وينمّي فيها قيمه المعنويّة، وهنا تكمن خاصيّة الإنسان، فهو على خلاف سائر الحيوانات التي تتحرك بما تمليه عليها أعضاؤها الجسديّة، بأنّ الإنسان حتّى في تلبيته لحاجاته المادّيّة ينزع للجمال والخير والكمال، ولذلك نجد عند الإنسان خاصية فيه، وهو أنّه يمزج ثقافته وعلمه ومشاعره الباطنيّة برغباته كلّها أو يمزج الرّغبات بالثّقافة والعلم والمشاعر الباطنيّة، وهو يحتقر نفسه لو فصل غرائزه عن مشاعره وثقافته وعلمه، الحيوان يركض طوال الوقت وراء فريسته لينقضّ عليها ويشبع حاجته وهكذا يلبّي حاجاته، ولكنّ الإنسان إذا أراد أن يأكل أو يلبس أو يقوم بأيّ شيء فإنه يمارس ذلك ضمن شبكة واسعة متداخلة من ثقافته واجتماعيّاته المدعومة بمبانيه العالية والمتسامية المعرفيّة والعلميّة.

 

والإنسان لا يريد أن يضعف أمام رغباته المادّيّة، فطرته تدعوه لأن لا يضعف، فطرته تدعوه لأن يخفيها على طبيعته المادّيّة، لاحظوا قول الله سبحانه وتعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" فالإنسان لا يستظهر قواه على تلبية غريزة الجوع للحصول على أكل الأنعام كيفما كان، ولا شرب أي شيء كيفما كان، الحيوان يضع رأسه في النهر أو في أيّ مستنقع ماء ويشرب، لكنّ الإنسان يحتاج إلى كأس نظيفة يرسم عليها رموزًا أو أشكالًا ليشرب فيها، هنا الآية تتحدث عن حالة خاصة عند الإنسان، هو لا يريد أن يأكل كما الأنعام، بل يشبك هذا الالتذاذ الماديّ معايشته للذّة الجمال حين يريه قبل شروق الشّمس بجماله وأنعامه ليأخذها للمرعى ولو فيها جمال آخر حين يعود ويستريح مع غروب الشمس، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وإذا كان هذا الإنسان مسلمًا فيكون قد أدّى قبل هذه الاستراحة طقوسًا عباديّة قبل ظهور الشمس وأذكارًا وأورادًا، وأيضًا بعد ذلك يترقّب الغروب ليمارس أيضا عباداته، وفي هذا سرّ إيداع الله سبحانه وتعالى للغرائز المادّيّة في الإنسان ليعطيها صبغة إلهيّة.

 

لا شكّ أن الإنسان ما لم يستظهر ويتقوى بعلمه على جهله، وبعقله على جهالته، لا يتمكن من خلط أبعاده الوجوديّة ببعض، وسيتعذب بنار التّناقض والازدواجيّة كما هو إنسان اليوم، ولكن بالعلم والمعرفة يمكن للإنسان أن يحافظ على هذه الخلطة الوجوديّة الرّائعة، أقصد غرائزه المادّيّة وأبعاده المتسامية الفطريّة، وأهم موقع في تفاصيل حياة الإنسان يمارس فيه هذه الخلطة هي الحياة الزّوجيّة والأسريّة، وإلّا فإنّ أصل التّزاوج تمارسه البهيمة بقوّة ورغبة وجموح أكثر من الإنسان، وعليه فإنّ من كثرة معارفه من النّوع الإنسانيّ زادت قدرته وأخلاقيّاته على استحضار عناصر الحياة الطيّبة السّعيدة، والمرأة باعتبارها موجودًا ذا حسّ عال ومشاعر سامية وإدراك للطائف المسائل، لا شكّ أنها إذا أُعطيت حظّها من العلم كانت أقدر على كبح غريزة الأنا والذّاتيّة التي تدمّر الأسر والمجتمعات والتجمّعات، وكما أن العلم يطرد ويضيّق دائرة الوهم والخيال حيث أنّه أصبح اليوم الوهم والخيال الساحة الواسعة التي يلقي فيها أصحاب رؤوس الأموال حبالهم وعصيّهم من منتوجات إغرائيّة تغييريّة لا ينتهي سعيرها، والمستهدف فيها الأوّل هي المرأة استخفافًا بها، وأمّا العلم فإنه يجعل الانسان رزينًا ثقيلًا فقد جاء في الخبر أو الرواية او الحكمة "من تعلّم وقر". فقد أصبح ثقيلًا لا يستخفّ به، وباستعمال العلم يتحقّق العدل الأسريّ والاجتماعيّ وتبتعد الرّعيّة عن البغي والظّلم والعدوان وتصنع للشّهوات والمطالب المادّيّة حدودًا تنكسر عندها الأماني التي لا تنتهي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد