علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الحريّة والنظر هل تشلّ مقولة العقاب الأخروي حركة الإبداع الفكري؟ (2)


حيدر حب الله

وإذا رجعنا إلى مواقف العلماء وجدنا تيّارين رئيسيين يتجاذبان هذا الموضوع بدءاً ــ ربما ــ من الجاحظ (255هـ) وحتّى العصر الحاضر، فتيّار يحاول ــ في إثارته للموضوع ــ أن يجعل القاصر محصوراً في دائرة الصبيان والمجانين والعجزة، ممّن لا تسعفهم الحيلة للبحث والنظر ما دامت إمكاناتهم محدودة عقلياً و.. ونجد هنا نصوصاً لأمثال المرجع الخوئي (1413هـ) تكاد تقترب من هذا الرأي، أما التيار الآخر فهو يعتقد بأنّ القاصر ليس فقط موجوداً في المجال العقدي على الخلاف ممّن نفاه بالكلّية بل هو الحالة الغالبة في الاجتماع الإنساني، وقد نقل مضمون هذا الكلام عن الشيخ بهاء الدين العاملي (1031هـ) حتّى سبّبت له هذه الفكرة ــ على ما يقول الخوانساري (1313هـ) في "روضات الجنات" ــ مشاكل و.. وأكاد أعتقد بأنّ الإمام الخميني (1409هـ) هو أبرز شخصيّة في هذا المجال، إذ لديه نصّ يعدّ من أقوى النصوص في هذا المضمار، فهو يقول: "إن أكثرهم ]الكفّار[ ــ إلاّ ما قلّ وندر ــ جهّال قاصرون لا مقصّرون، أمّا عوامهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم… والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً وآثماً، ولا تصحّ عقوبته في متابعته، وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولية والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة.." (المكاسب المحرّمة 1: 200).
وكما أشرنا، ينصّ الخوانساري على طعن بعض العلماء بالبهائي لقوله: ((إنّ المكلّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل، فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلّد في النار)) (روضات الجنّات 7: 67).

5 ــ ورغم هذه النصوص القاطعة يذهب البعض إلى تصوّر أنّ هذه المقولة مقولةٌ غربية، أتتنا من النـزعات البروتستانتية، ومن مدارس التعددية الدينية المعاصرة مع جون هيغ وأمثاله، وإنّما تعمّدتُ ذكر نصّين لفقيهين بارزين ليُعلم أنّ الفقه نفسه قادرٌ على تحمّل مثل هذا الرأي، مع اعتقادنا بالنـزعة الفلسفية والعرفانية للبهائي والخميني رحمهما الله.
إذن، فمن الضروري وعي التراث جيداً لملامسة إشكاليّات حسّاسة من هذا النوع، وعدم الاستعجال ــ الصادق أحياناً ــ في التعاطي مع هذه الموضوعات، ولو أردنا سرد الآراء ــ سيما آراء الفلاسفة والعرفاء ــ لطال المقام كثيراً.
إنّ هذه المقولة تمثّل ضمانة، تعلن أن من يطلب الحقّ صادقاً ويبذل الجهد المعقول في السعي خلفه ثم لا يبلغه أو يناله معذور في الجهل بالحقّ، دون أن يعني ذلك إعطاء العذر مطلقاً، فنحن لا ننكر وجود المقصّر، ولا غضّ الطرف عن المخالفات العملية لا أقلّ للعقل العملي كالظلم والقتل بغير الحق و… يجب أن تدرك المسألة بجميع جوانبها، ممّا لا مجال لإفاضة الحديث فيه في هذه الصفحات المحدودة.

6 ــ ويكاد التعجّب يمتلك الإنسان من اعتقاد البعض بأنّ الناظر الذي لا يبلغ الحقّ مقصّر، وشاهد ذلك أنّه لو لم يقصّر لبلغه، إنّ هذه الفكرة ذات صبغة أيديولوجية بحتة، تتجاوز وقائع الأمور، لصالح أيديولوجيا مسقطة، إذ من هو الذي برهن على هذا الأمر؟! وهل كل العقديات يجري عليها هذا القانون؟! وما معنى ارتهان شرعية النظر بصحّة النتائج؟! أليس في ذلك تفريغاً لحرمة التقليد في أصول الدين؟! وهل تحتجب الفطرة لعامل الذنب البشريّ فقط ولا تحجبها ظروفٌ قاهرة على الإنسان كالبيئة والمحيط؟!…
إنّ دراسة ظروف الناس من حيث القصور والتقصير أمرٌ لا يرتبط بالنتائج العلميّة التي خرجوا بها بقدر ما يرتبط بأدائهم العملي ونواياهم الداخلية، بل كيف يمكن رهن الثواب والعقاب بإصابة الحقيقة وعدم إصابتها، فإن الإصابة أمرٌ غير اختياري في حدّ نفسه فكيف يرهن العقاب بما لا يرجع إلى الاختيار؟! وأمّا التشكيك المستمرّ في النوايا فهو مشكلة يجب حلّها من جذورها النفسية والعقلية.

7 ــ وبهذه الضمانة تنطلق الأفكار لتدرس العقديات بحرّية أمينة وصادقة، لا حرّية منفلتة وعشوائية تبنى على التعسّف والابتسار، وعبر هذا الطريق يحيا الاجتهاد الكلامي، وتخفّ وطأة القلق والخوف المانعين عن الإبداع والخلاقية، وأيضاً تبنى بذلك عقديات برهانية، لا على الطريق المعتزلية المتشدّدة، وإنما على طريقة تستوعب إمكانات الإنسان، إذ لا معنى لمطالبة الباحث اليوم بدراسة جميع الديانات والمِلَل وكافّة البراهين والأدلّة، فهو أمرٌ لا بالمقدور لشخص واحد ولا بالمستطاع للشعوب، بل ولا بالمطلوب على مستوى العقل العملي.
ويبقى أن نرسم تصوّراتنا بدقّة جميعاً لا يستثنى من ذلك أحد، حتّى لا ننتج أفكاراً تقتل مجتمعاتنا أو تسير بها نحو الانحراف التام.

وهكذا تبقى مقولة العقاب الأخروي فاعلةً تربوياً في مجالاتها المنطقيّة، تبني الروح وتهذّب النفس وتشيد الأخلاق الحميدة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد