مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيف نجمع بين الصفاء والجوّ الروحي، والاشتغال بإشكاليّات العصر وقضاياه وحواراته؟!

 

 الشيخ حيدر حب الله
هذه القضيّة لا تخصّ عصرنا الحاضر، بل كانت وما تزال مستمرّةً على الدوام، وكثيراً ما عجز مخلصون روحيّون عن حلّها فاختاروا العزلة، أو عجز عاملون فاعلون عن تفتيتها فغرقوا في قضايا زمانهم مبتعدين عن روحانيّة الدين.. وليس بالإمكان الحديث المفصّل هنا، لاسيما وطبائع الناس تختلف في هذه الأمور وحلولها، لكنّني أظنّ بأنّ الدين وضع نظاماً جيّداً في هذا الصدد، وهو نظام الأوراد والأذكار والبرامج العباديّة ذات الطابع الذي يختلي فيه الإنسان بنفسه وربّه؛ فصلاة الليل وإحياؤه، وكذلك قراءة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية النيّرة الرائعة، يمكن أن تنفع كثيراً هنا، لاسيما لو كانت متواصلة البرنامج وبعيدةً عن الناس، فقد يحتاج بعض الناس إلى الخلوة في إحياء بعض المراسم الروحيّة للاستزادة العليا منها، وقد يفتقدون الحالة الروحانية المطلوبة لو قاموا بممارسة هذه المراسم ضمن حالة جماعيّة، رغم أنّ الحالة الجماعيّة مطلوبة في كثير من الأحيان، فلو جرّبتم قيام الليل وقراءة القرآن والتوجّه بالدعاء إلى الله يوميّاً وبشكل منفرد منعزل عن الناس، وكذلك لو ركّزتم على برنامج متواصل في سماع القرآن والأذكار والوجدانيات بأصوات رقيقة عذبة، ومع هذا اعتدتم على الاستماع إلى ألوان الموسيقى السامية وأنتم في خلوة، إضافة إلى ممارسة ما من شأنه تفريغ الطاقة السلبيّة المزعجة، كممارسة الرياضة البدنيّة، والاستحمام بماءٍ بارد، والاعتياد على أخذ الأنفاس العميقة وإخراج الهواء بهدوء وغير ذلك من الأمور البسيطة التي يشرحها الأطباء والخبراء النفسيّون، ويرون لها تأثيراً كبيراً في كثير من الناس على الأقلّ.. إذا اعتدتم هذا كلّه فأعتقد بأنّه سوف يساعد بعض الشيء في حلّ نسبة معيّنة من هذه القضيّة.
إنّ مثل هذه الأمور يمكن أن يؤثر في خلق فضاء ذاتي منعزل عن ضجيج المجتمع، يقوم على:
1 ـ اعتماد برنامج متواصل للخلوة الروحيّة.
2 ـ اعتماد الوسائل التي يشرحها الأطباء والخبراء النفسيّون في تفريغ الطاقات السلبيّة.
3 ـ التدرّب على التعامل مع الضجيج بشيءٍ من الهدوء، وهذا يحتاج لمدّة حتى ينجح فيه الإنسان.
4 ـ الاعتياد على تبسيط بعض المشاكل، أو بتعبير أدقّ: على عدم تضخيمها، فإنّ الشخصيّة التي تقوم دوماً بتضخيم الأمور قد تكون أوّل المتضرّرين من هذا التضخيم نفسه.


هذا الموضوع ليس موضوعاً معرفيّاً فقط، بل هو عملٌ على برامج ميدانيّة تعتمد عنصر الاستمرار ولو بمقدار قليل، وترجّحه على عنصر الانقطاع ولو مع الكثير، وهو على خلاف طبائع كثير منّا نحن العرب، بمعنى أن تمشي بهدوء مشياً متواصلاً، خير لك من أن تمشي مسرعاً مشياً متقطّعاً، فالتدرّج في مثل هذه البرامج بشكل هادئ ضروريٌّ، لاسيما في مرحلة الانطلاق، وكأنّك تريد التدرّب البدني على شيء حيث لا يصحّ أن تبدأ بشكلٍ عنيف فوراً، إذ يؤدي ذلك إلى ضرر على الجسم أو العضلات، بل لابدّ من التدرّب لتحمية الجسم كما يقال. فالشيء الأهم هنا هو المواصلة ولو البطيئة، وأظنّ بأنّ ذلك سوف يترك أثراً إن شاء الله. وبالنسبة للإخوة الذين يحبّون أو يفضلون مشرفاً تربويّاً أو روحياً أو أستاذاً روحياً فإنّ بإمكانهم التواصل معه ليشعروا أكثر بجدّية هذا البرنامج.
وهناك شيء آخر مهم في هذا الصدد، قد يسمّيه بعضهم بروحانيّة العقل، وهو أن تفكّر بطريقة روحانيّة وليس بطريقة شرسة، روحانيّة العقل قد تعني أنّه يفكّر كشخص صادق أو نقيّ، وهذا غير أن يفكّر كشخص متحايل أو كاذب أو حاقد أو مُغرِض، وسبب ذلك ما تحدّثتُ عنه في كتابي المتواضع (مسألة المنهج في الفكر الديني) من أنّ التربية الروحية تترك أثراً على سلامة العمليّة الفكريّة في كثير من الأحيان، فعندما نقوم بتهذيب النفس فنحن نساعد أنفسنا على اكتشاف الحقيقة، ليس بمعنى الكشف الشهودي بالضرورة، بل يمكن أن يكون بمعنى أبسط من ذلك، وهو أنّ تهذيب النفس من الغضب والحسد والحقد والضغينة والكره والعدوانيّة والغيبة والسلبيّة وسوء الظنّ وغير ذلك.. يساعد على أن تفكّر براحة نفسيّة، وتعيش بسلام داخلي، وأن تفكّر أيضاً برساليّة عالية، وهذا ما قد يُبطل مفعول بعض العوائق أمام سلامة التفكير.


لاحظوا معي شخصاً مثل السيد محمّد باقر الصدر، فبقدر ما هو عقلاني متمحّض بالعقل النظري الصارم (والعقل الصارم هو الذي لو تمثّل وتشخّص لبدا على صورة إنسانٍ عبوس لا يبتسم)، هو أيضاً عاطفيّ وإنسان عادي جداً في عواطفه وغير معقّد رحمه الله، ولهذا تجد فيه إنساناً يجمع بين العاطفة والعقل، فلا عاطفته تضرّ بعقله، ولا عقله يذهب بعاطفته ودفء قلبه، وهذه مرحلة مهمّة أن يصل إليها الإنسان، فمبدأ المبادئ هنا هو تهذيب النفس وتطهير الروح والتحلّي بالأخلاق الجميلة، وعلى رأسها الروح الرساليّة التضحويّة، فهذه الروح هي التي تجعل الإنسان في المقام الحسيني: (هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى). وعندما أقول ذلك فلا أعني أنّ الوصول إلى أعلى مراتب هذه الحالة أمرٌ ميسور وسهل أو هو نزهة عابرة، بل أعني أنّه هدف سامٍ يمكن أن نسير نحوه، فإن لم ننجح في الاقتراب منه، فعلى الأقلّ سننجح في عدم الوقوع في مزيد من الابتعاد عنه إن شاء الله.

النقطة الأخرى المهمّة هنا أيضاً، وهي مرحلة متقدّمة في التدريب الروحي الذي تحدّثت عنه النصوص الدينية، أن تخوض غمار الحياة بإحساسٍ روحيّ نبيل، فأنت تنشغل بردّ إشكاليّة معّينة وأنت تشعر بطمأنينة روحيّة وسعادة؛ لأنّك بهذا الأمر تقدّم خدمةً للقيم الكبرى ولسبيل الله تعالى. عندما يمتزج هذا الشعور بخوض غمار التحديات المعرفيّة المعاصرة فسيكون شيئاً أكثر من رائع، وسيشعر الإنسان بأنّه ـ وهو يجادل ـ يقترب من التسامي الروحي، وبأنّه ـ وهو يكتب أو يقرأ أو يردّ أو يفكّر في موضوع إشكالي معاصر.. ـ هو يناجي الله بأنّني أعمل لأجلك، أنا أفكّر لأجلك، وأكتب لأجلك، وأخطب لأجلك، وأناقش وأحاور لأجلك، وأتأمّل أكثر القضايا بُعداً عنك فيما يبدو لي، لأجلك أيضاً. هذا الشعور ـ وليس الاعتقاد فقط ـ وهذا الحسّ الملموس المقارن لأعمالنا هو الذي يجعل من ما اعتبرتموه موجباً للبُعد عن الروحانية، مقرّباً منها، وهذه مرحلة سامية تحتاج للكثير من المراس والتدرّب أيضاً..

هنا يظهر مفهوم اللجوء إلى الله والالتجاء إليه، فأنت عندما يهجرك قومك أو يسبّوك أو يظلموك أو يعتدوا على قضيّتك وعلى كرامتك وعلى جماعتك وعلى أمّتك، ويتعاملون معك بالسوء.. تذهب إلى الله ـ كالطفل الصغير الذي يأتي إلى أمّه عندما يعتدي الأطفال عليه ـ فتبكي بين يديه، وتشتكي إليه؛ لتأخذ منه طمأنينتك، وهكذا كان الأنبياء، فلو راجعنا القرآن الكريم لوجدنا أنّ الأنبياء في اللحظات الحرجة في الحياة كانوا يرجعون إلى الله ويخاطبونه ويطلبون منه العون، ويلقون بهمّهم وضيق صدرهم إليه، ليكتسبوا من ذلك طمأنينتهم وسكينتهم، وما أدراك ما السكينة في زمن التوتر الدائم الذي نعيشه! ولهذا قال الله تعالى لنبيّه: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين) (الحجر: 97 ـ 99)، فضيق الصدر ينجلي بتسبيح الله وعبادته والسجود له. ويقال: إنّ بعض الفلاسفة والعرفاء الكبار كانوا إذا أشكل عليهم أمرٌ فلسفي دقيق، جعلوا ملجأهم الله، فصلّوا لله تعالى وسجدوا له وطلبوا منه العون، ليفكّروا في طمأنينة، وفي إحساسٍ سعيد بأنّ قوّةً غيبيّة قد تُعينهم للوصول إلى حلّ، فهذا الإحساس عندما يصاحبك وأنت تبحث في قضيّة عقليّة جافّة فهو يندمج مع جفاف العقل، كغيث ينهمر بمطرٍ على أرضٍ يابسة قاحلة جافّة..
هذه الأمور ليس معلومات، بل هي دربة ومراس ومرور وقتٍ وزمن، قد ينجح معه الإنسان بدرجة معيّنة، وقد ينجح آخر بدرجة أعلى، وبحسب ما يقدّم ويقدر الله له فإنّه يرزقه من هذا التوفيق. أكتفي بهذا القدر، رغم أنّي أتكلّم بما لست فيه في العير ولا في النفير. رزقنا الله وإيّاكم طمأنينة ذكره وحلاوة أنسه وجميل كرمه ولذيذ مناجاته، إنّه وليّ قدير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد