قراءة في كتاب

سياحة في الشرق للسّيد النجفي القوجاني

ربى حسين

بعد قراءة تراجم علماء الشّريعة الّتي كانت تقتصر على ذكر اسم المترجم وأساتذته وتلامذته، يبقى القارئ في حيرة لمعرفة كيف كان نمط حياتهم أثناء الدّراسة،كيف كانوا يدبّرون معائشهم؟ ماذا اختلج في صدورهم؟ وكيف كانوا يواجهون المشاكل الّتي كانت تطرأ أثناء البحث والنّقاش؟

سياحة في الشّرق هو الكتاب الأول في العربية الّذي يعرض بل يوثق السّيرة الذّاتية لحياة طالب العلم الحق –السّيد محمد حسن النّجفي القوجاني - الّذي أتى من آخر الدّنيا لا يحمل مالًا ولا متاعًا ولا حسبًا ونسبًا يمكنه من الحصول على امتياز ما في بعض الحوزات ومدارس العلم. كما ولم يعرف تزلّفًا لهذا وذاك ممن يتطاول على الرّئاسة في بعض مدارسها لينال غرفة باردة في زواياها الرّطبة أو بعضًا من كسرات الخبز اليابس لتقيه جوع ما يقارب ثلاث ليال متتالية.

الأيام الأولى في قوجان

الصفحات الأولى من الكتاب تعرض سنيّه الأولى في قريته وكيف كان يعمل بنشاط ومثابرة في الزّراعة ومساعدة أبيه، كارهًا للمدرسة والكتّاب، مجبرًا على ذلك بطلب من والده الذي وعلى الرّغم من مرارة الحياة عليه كان يحرم نفسه من قوت يومه ليؤمن لابنه ثمن كتاب يدرس فيه، راغبًا بأن يكون ولده مثل الميرزا حسن الشيرازي "وإن لم تكن فكن أقل منه درجة".

بعد تنقّله بين مدارسها الدّينيّة، ثار السيد على شيوخ الكتاب وعلومهم ورفض مرارًا الالتحاق بهم بعد أن عايش بعضها ورأى الأخرى ملآى بالقذارة والمشادات الكلاميّة الّتي وصلت بأحد أساتذته إلى نهره بالجحش والكلب النّجس لأنه لم يلملم أطراف ثوبه عن حافة الحوض، إلى أن بدأت مسيرته خارج قريته وسلك أخيرًا مسير السّالك الصالح.

وعلى طريق السّمو عثرات

واستكمالًا لهذه المسيرة يسرد السّيد التّفاصيل الدّقيقة في رحلته في هذا العالم. فبعد مضي عام على بقائه بعهدة ذلك الأستاذ الّذي لم يدرّسه أكثر من بضع أوراق من كتاب "قطر النّدى"، سمح له الأخير بالذّهاب إلى أحد الطّلاب ودراسة "السّيوطي"، وهنا لفت سماحته إلى بدء حرصه العجيب على الدّرس والمتابعة. 

استطاع إتمام كتاب الجامي بثلاثة أشهر وهذا يعدّ إنجازًأ لدى بعضهم. وبعد زلزال وقع في المدينة ونجا منه بأعجوبة اضطّر إلى للانتقال إلى سبزوار حيث أنهى خلال خمسة أشهر سبعة أوراق من المطوّل ومثلها من كتاب الشّرائع.

ومن ثم عرض رحلته إلى مشهد حيث منبع العلم عند أنيس النّفوس الإمام علي بن موسى الرّضا (ع)، حيث كان برفقته زميله اليزدي. وبعد سنتين من المكوث في مشهد ماتت أمه ولكنه لم يعد إلى القرية بل أراد البقاء بعد تذوق حلاوة الدّرس ومتعته.

يعرض الكاتب بشكل صريح لما واجهه من المشاكل مع أصحاب اللّحى حسب تعبيره ورجال الدّين في الحوزات هناك حيث أجبر مرّة وبعد انتظار طويل لغرفة تأويه برد مشهد القارص على التّخلي عنها لصالح أحد الطّلبة المتزلّفين. وبعدما ضاق ذرعًا قرّر الهجرة إلى أصفهان لأنه وحسب اعتقاده أنّ الدّراسة في الغربة أفضل لطالب العلم الحق.

أصفهان بلاد القوجاني الموعودة

تعرّض في الفصلين الثاني والثّالث إلى حياته في أصفهان وتفاصيلها. هناك فوجئ السّيد أن تلك المدينة الّتي تحمل مشاق الطّريق الطّويل جدًّا للوصول إليها لم تلبّ طموحه المعرفيّة، حيث كان في مرحلة علميّة متقدّمة عن أقرانه.

أكل قشور البطيخ والخبز اليابس المحروق ونام بلا طعام لأيّام بلياليها. اضطر بعدها لبيع كتاب له لأن حفظ الجسد والنّفس من أوجب الواجبات ورقي الرّوح مرهون بالجسد، وهذه الموقف كان محل جدال مع أحد زملائه دفعه لنقد نظرية الطّبيعيين والمادّيين في شأن غذاء الرّوح مقابل غذاء البدن وأولوية الواحدة على الأخرى.

وصولًا إلى النجف

يأتي الكاتب بعد الحديث عن حياته في إيران للانتقال إلى الحديث عن حياته في العراق وخاصة النجف الّتي دخلها في السادس من رجب بهدف الزّيارة وليس الإقامة.  لكن السيد النجفي القوجاني وبعدما رأى كل هذا السّحر للنجف قرّر البقاء فيها من أجل الدّراسة على الرّغم من أنه لا يعرف أحدًا فيها.

عاش الأشهر الأربع الأولى محرومًا من كل شيء على حدّ تعبيره، كان يأكل صيفًا الخبز اليابس وعندما يكون هناك طعام فهو خبز ولبن، فبين طيات الكتاب وصف دقيق لحياة طالب العلم وما يعانيه من مشقّات لا يعلم فيها إلّا خالقه.

بدأ درس البحث الخارج في مباحث الملا صدرا، ودأب على حضور دروس الآخوند الملا كاظم الخراساني، طيلة فترة مكوثه فيها كان يكتب بعد كل محاضرة له تقرير مفصلًا عمّا سمعه منه. وكان لهذا المعلم بل الأب الرّوحي له أثرٌ بالغٌ على السّيد النجفي القوجاني على الرّغم من عدم وجود معرفة شخصيّة بينهما طيلة العشر سنوات.

زواجه

يتكلم الكاتب عن سيرة حياته بكثير من التّفاؤل والتسليم، هذا ما تشعر به بدءًا من العنوان حيث اعتبر سفره المضني  راجلًا أو على دابّة هزيلة من بلد إلى بلد خلال عشرين سنة من عمره أنّه سياحة في الشّرق. وهكذا كان زواج من لا يملك بضع قرانات لسد رمقه.

 يفصّل السّيد حيثيّاته الّتي تطلّبت أكثر من خمس وعشرين تومانًا أتته من حيث لا يحتسب بفضل العناية الإلهيّة والتّسديد الّذي كان من أسبابه علاقته الرّوحيّة بالإمام علي (ع). عارضًا الكثير من التوفيقات الإلهيّة الّتي إن سمعته عن غيره ربّما اعتقدته ضربًا من ضروب الخيال.

الحركة الدستوريّة

في الفصل الخامس من الكتاب توثيق لأحداث الحركة الدستوريّة وما خلّفت من تبعات على طلّاب الحوزات سيّما في النّجف وكربلاء. وكما لم يغفل السّيد عن انتقاد علماء السّوء في هذه الفترة التّاريخيّة الحسّاسة وأفعالهم البغضاء على الرّغم من أنّ بعضهم تتلمذ على يد الآخوند وأرادو أخذ لقب الاجتهاد لكي يحصلو على سهم السّادة والرّئاسة والمناصب غافلين عن محاسبة أنفسهم بحساب أمّة النّبي(ص).

النجف في ظل الحرب العالميّة الأولى

يؤرّخ الكاتب خلال الفصل السّادس لفترة دخول الإنكليز وضباطهم إلى النّجف، وكيف ثار ودافع أهلها عن المقام وأرضهم رافضين الاحتلال عازمين على المقاومة مهما عانوا من عطش وجوع. عارضًا تبعات هذه الأوضاع على الحياة المعيشيّة والسّياسية على النّجف وأهل المدينة. وقد كان مصرًّا على الرّغم من عدم تمكنه من النوم لأكثر من ساعتين ليلًا حينها بسبب العمل على قول "البلايا تظهر محبة الخالق لأنها شعار الصّالحين".

وبعد خمس وعشرين سنة من الغربة يختم ذلك العالم الكبير مسيرة قضى منها في أصفهان وفي النّجف، بقرار العودة إلى مسقط رأسه قوجان.كان ذلك بناءً على طلب أهل مدينته الّذين تكفلو بتكاليف سفره الأخير، حيث أسس حوزة علميّة على أسسٍ حقّة تشبه تلك الّتي رسمها في ذهنه خلال سياحته في ذلك الشّرق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة