
الحرّيّة في الحياة الفرديّة
المعنى الآخر للحرّيّة عدم تدخّل القانون في الأحوال الشخصيّة، إنّ أنصار هذه الرؤية رغم اعترافهم بحاكميّة القانون في الأمور الاجتماعيّة، يخالفون تدخّله في الحياة الفرديّة. وبعبارةٍ أخرى أنّ الإنسان وإنْ وجب عليه اتّباع القانون في الحياة الاجتماعيّة ولا يحقّ له عدم الالتزام به، لكنّه يجب أنْ يكون حرًّا في حياته الفرديّة من قيود القانون، فالبشر مسؤولون في نطاق الحياة الاجتماعيّة، ولكنّهم أحرارٌ في الحياة الفرديّة وليست لهم أيّ مسؤوليّة. وقد ورد التأكيد على الحرّيّة بهذا المعنى في الإعلام العالمي لحقوق الإنسان أيضًا.
وعند تقييم هذا المعنى من الحرّيّة لا بدّ من لحاظ معنى القانون الذي يرفضون تدخّله في الحياة الخاصّة، فلو أرادوا القوانين الحقوقيّة فهذا المدعى صحيح متّفقٌ عليه. وإذا أرادوا مطلق القوانين ليشمل القوانين الأخلاقيّة والتكاليف الشرعيّة، فهو ادّعاءٌ خاطئٌ وغير مقبول.
بيان ذلك: إنّ القوانين الحقوقيّة تقتصر على الارتباطات والمناسبات الحاكمة على الحياة الاجتماعيّة، ولا تتدخّل في الحياة الفرديّة، وعليه فكلّ شخصٍ حرٌّ في حياته الخاصّة وأحواله الشخصيّة من أمرٍ ونهي وإلزامٍ وإجبار القوانين الحقوقيّة، ولا تتوجّه له أيّ مسؤوليّة تجاهها.
ولكن عدم المسؤوليّة أمام القوانين الحقوقيّة يختلف عن عدم تقبّل المسؤوليّة أمام مطلق القوانين. ولا يعني تحرّر الإنسان من قيود القوانين الحقوقيّة في حياته الفرديّة، تحرّره من جميع القوانين؛ إذ إنّ نفي سيطرة القوانين الاجتماعيّة وحاكميّتها، لا يعني نفي سلطة جميع القوانين وحاكميّتها.
ففي الوقت الذي يتحرّر الإنسان عن القوانين الحقوقيّة ولا تكون له مسؤوليّة أمامها، فإنّه مسؤولٌ أمام القوانين الأخلاقيّة (بحسب التعبير الدارج)، أو التكاليف الشرعيّة (بحسب تعبيرنا)، وليست له حرّيّة إزاءها. صحيح أنّ الإنسان في حياته الفرديّة غير مؤاخذٍ من قبل القوانين الحقوقيّة كيفما عاش، لكنّه معاقبٌ شرعًا في عالم آخر، وعليه لم تكن حرّيّة الإنسان في حياته الفرديّة مطلقة. فمن يعصي الله تعالى في البيت لا يكون تحت مراقبة وعقوبة السلطة القضائيّة، لكنّه لا يُصان من عقوبة الله وعذابه الآخروي. وعلى سبيل المثال فإنّ (منع الانتحار) لم يكن قانونًا حقوقيًّا، لأنّ القانون الحقوقي ينظر أوّلًا إلى المناسبات الاجتماعيّة، وثانيًا يكون مضمون التنفيذ من قبل الدولة، وثالثًا عقوبة للمخالفين، والحال أنّ (منع الانتحار) لا علاقة له بالمناسبات الاجتماعيّة، ولا يتضمّن الدولة تنفيذه، كما لا يمكن عقوبة المخالف (إذ قد مات).
فبما أنّ الانتحار لم يكن ممنوعًا حقوقيًّا واجتماعيًّا، فيحقّ لكلّ أحدٍ أنْ يقتل نفسه من وجهة نظرٍ حقوقيّة، ولكن هل يسمح الأخلاق أو الشرع بهذا الحقّ؟ لا يسمح بذلك شرعًا قطعًا، فالذي ينتحر سيعاقب في الآخرة، وإن لم يكن يكن له عقوبة قانونيّة في هذا العالم.
إنّ حرمة التجسّس على الحياة الخاصّة والتحقيق في أحوال الناس الشخصيّة، ينشأ من هذه الحقيقة أنّ القوانين الحقوقيّة ليس لها سلطة على حياة الإنسان الفرديّة.
نعم إنّ أصل حرمة التجسّس لم يكن مطلقًا، ولا يمنع أيّ نوعٍ من التدخّل في الحياة الخاصّة. نفترض أنّ شخصًا يزور شخصًا آخر ويراه في حالة الانتحار، فإنّه مكلّفٌ بمنعه من هذا العمل بأيّ نحوٍ كان، وإلّا سيقع تحت طاولة الملاحقة القانونيّة ولا يتمكّن من الاستناد على قاعدة حرمة التجسّس. والخلاصة أنّ الإنسان ليست له مسؤوليّةٌ حقوقيّةٌ في حدود حياته الخاصّة، ولكن له مسؤوليّةٌ أخلاقيّةٌ أو تكاليف شرعيّة.
الحرّيّة في حدود القوانين الاجتماعيّة الصحيحة
هذا المعنى من الحرّيّة يخالف رؤية الأنظمة التوتاليريّة كالشيوعيّة والفاشية؛ إذ إنّ هذه الأنظمة تحاول مهما تمكّنت من إحكام سيطرة رقابة الدولة على حياة أفراد المجتمع، ولا شك في أنّ رقابة الدولة كلّما اتّسعت انحسرت حرّيّات الناس وتحدّدت. لذا نرى تقييد الحرّيّات الفرديّة في أنظمةٍ كهذه يومًا بعد يوم، بحيث لا يرى كلّ شخص إلّا طريقًا واحدًا أمامه، وإنّ الانحراف عن هذا المسير يوجب العقوبة الشديدة. نعم إنّ هذه الأنظمة تواجه موانع عدّة في توسّع سيطرة الدولة على حياة الناس، ولكن رغم هذا يسعون كثيرًا لتحقيق أهدافهم.
إنّ رؤية الدين الإسلامي، وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يتّخذان موقفًا سلبيًّا تّجاه هذه الرؤية، ويحاولان من تقليل دور الدولة مهما أمكن، والدفاع عن حرّيّات الناس.
إنّ الإسلام يؤكّد كثيرًا حقَّ الحرّيّة الفرديّة بوصفه أساسًا من أسس المباني الحقوقيّة، ويبني كثيرًا من قوانينه الاجتماعيّة على هذا الأساس. فالأصل في الرؤية الإسلاميّة حرّيّة الإنسان في حياته الخاصّة، ولا بدّ من تحقّق الأعمال الفرديّة حتّى الدراسة واستيفاء المصالح العامّة على نحوٍ حرٍّ وطواعية. وللدولة حقّ التدخّل فيما لو لم تكف الأعمال التطوعيّة حصرًا، بأنْ تلزم الناس على أداء وظائفهم، وسبب هذا إنّ الإنسان خُلق لأجل التكامل ولا بد أنْ يستكمل في أيام حياته، ولا يتحقّق الاستكمال إلّا بالأفعال الاختياريّة والتطوّعيّة.
وبناءً على هذا فالأصل في حركة الإنسان أنْ تكون حرّةً واختياريّة، وتقتضي حكمة الله تنعّم الإنسان بنعمة الحرّيّة كي يسلك طريق السعادة أو الشقاء باختياره. فلو كان القانون بحيث يجبر الناس على السير في طريقٍ واحد - وإنْ كان صحيحًا - ويسلب حقّ الانتخاب عنهم، لكانت هذه الحركة إجباريّةً وغير استكماليّة في مآلاتها. ولو كان محيط المجتمع بحيث يفقد الإنسان القدرة على الذنب، سوف يُحرم من الاستكمال المعنوي، وإنْ لم يصدر منه بحسب الظاهر سوى الأعمال الصالحة.
فالمجتمع لا بد أنْ يكون بحيث من يريد الصلاة إنّما يؤدّيها عن حبٍّ وإرادةٍ ولم يرد المعصية، وأنْ يتمكّن من يريد معصية الله ترك الصلاة من دون خوف، وكذلك الأمر في الصوم والحج وسائر العبادات. وعليه يلزم فتح طريق الاستكمال والتعالي، وكذلك طريق السقوط والهلاك، كي يختار كلّ إنسانٍ طريقه من بينهما.
قلنا إنّ الأصل في الرؤية الإسلاميّة حرّيّة الإنسان في اختيار نمط حياته، وهنا يمكن أنْ نتساءل ونقول: هل يمكن العدول عن هذا الأصل في وقتٍ مّا؟ وبعبارةٍ أخرى هل يمكن تحديد حرّيّة الإنسان؟ الجواب نعم، إنّ ما يحدّد حرّيّة الإنسان هو مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة. فالإنسان حرٌّ طالما لم يضرّ بمصالح المجتمع؛ لذا فإنّ من يراعي في المجتمع قوانين الإسلام تمامًا، بألّا يظلم أحدًا ولا يتظاهر بالفسق و...، ولكنّه يترك الصلاة في خلواته ولا يصوم ويشرب الخمر، فهذا الشخص وإنْ كان مكلّفًا أمام الله تعالى، ويعاقب في الآخرة، غير أنّه لا يلاحق قانونيًّا ولا يعاقب؛ لأنّه لم يرتكب الجريمة علنًا، ولكن من يتجاهر بالإفطار وشرب الخمر يجري عليه الحدّ والتعزير؛ لأنّ هذه الجرائم وإنْ لم توجب ضررًا ماديًّا، لكن لها أضرارٌ معنويّةٌ وروحيّةٌ كثيرةٌ للمجتمع.
وبالدليل نفسه فإنّ الإسلام لا يسمح بالتجسّس على حريم الإنسان الخاصّ، وهذا الأمر من الأهميّة بمكان بحيث لو شهد ثلاثة أشخاص مثلًا على شخص بارتكاب الفاحشة، ولم يكتمل العدد بشهادة رجلٍ رابع أو امرأتين أُخريين، يتمّ تطبيق عقوبة حدّ القذف على هؤلاء الثلاثة، نعم لو ثبتت الفاحشة أو شرب الخمر يُجرى الحد؛ لأنّ شهادة رجلين عادلين في شرب الخمر وأربعة رجال عدول في الفاحشة، يدلّ على أنّ الجريمة أخذت طابعًا اجتماعيًّا وتعدّ تجاوزًا على المجتمع معنويًّا.
في الرؤية الحقوقيّة الإسلاميّة لا متابعة قانونيّة لمخالفة التكاليف الشرعيّة والأحكام الإلهيّة ما دامت لا تضرّ بمصالح المجتمع ماديًّا أو معنويًّا. ولا يمكن أيضًا حسب هذه الرؤية إجبار أيّ شخصٍ على أداء التكاليف الشرعيّة حتّى في خلواته. نعم إنّ الله تعالى قد أوجب أداء أو ترك بعض الأعمال على الإنسان، يستدعي مخالفتها العذاب والعقاب الآخروي، ولكن مع هذا لم يسمح إطلاقًا بوضع رقيبٍ مثلًا لكلّ مكلّفٍ ليجبره على أداء تكاليفه، ويعاقبه عند التخلّف.
والحاصل يرى الإسلام أنّ طريق استكمال الإنسان المعنوي لا يتحصّل إلّا عن طريق الاختيار؛ لذا يؤكّد على موضوع الحرّيّة القانونيّة والحقوقيّة أكثر من سائر المدارس الحقوقيّة والسياسيّة الأخرى، ويجعلها من أهم مبانيه الحقوقيّة، وما يقيّد هذه الحرّيّة لا يكون سوى مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة، فما دام لا يضرّ الشخص بمصالح المجتمع، يكون حرًّا في سلوكه من وجهة نظر القانون والحقوق، وهذا لا ينافي مسؤوليّته الإلهيّة والآخرويّة.
ولا بدّ من رعاية هذا الأصل في جميع شؤون المجتمع: السياسية، والاقتصاديّة، والتعليميّة، والتربويّة وغيرها، ولا بدّ من وضع القوانين وتنفيذها بحيث يتمّ تأمين الحرّيّات الفرديّة بالحدّ الممكن، وينحصر تدخّل الدولة في الموارد الاستثنائيّة والضروريّة فقط، أي حينما تتعرّض مصالح المجتمع للخطر.
إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتوافق معنا في جعل الأصالة لحريّة الفرد لا الدولة، لكنّه يعجز في تبيين وتبرير هذا الأصل، لزعم مدوّنيه أنّه مقتضى الحرّيّة المطلقة التي يطلبها الجميع، ويرون أنّ هذا الأصل يرجع إلى حبّ الإنسان للحرّيّة المطلقة، ولكن بلحاظ ما تمّ بيانه آنفًا يتبيّن ضعف هذا الكلام.
ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ الإعلان يجعل حدّ حرّيّة كلّ أحدٍ مرتبطًا بحريّة الآخرين، بمعنى حريّة كلّ شخصٍ ما دامت لا تضرّ بحريّة الآخرين، والحال أنّ الإسلام يجعل حدّ الحريّة مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة. ونحن نعتقد فيما لو تمّ وضع بعض القيود القانونيّة، بأنْ يُمنع مثلًا من العمل الفلاني، أو تقام الحدود والتعزيرات على جماعة، إنّما هو لأجل وجود حقّ التكامل لجميع أفراد المجتمع، ولا بدّ من منع حدوث الجريمة بشكلٍ علني كي لا تمنع آثارها السيّئة المجتمع من التكامل.
ويتبيّن الاختلاف بين هاتين الرؤيتين بشكلٍ أكثر حينما يرتضى جميع أفراد المجتمع بما يتضادّ مع مصالحهم الواقعيّة ونفس الأمريّة، وعلى سبيل المثال لو ارتضى الجميع الشذوذ والانفلات الجنسي، وأنْ يرتبط كلّ رجلٍ من أيّ امرأةٍ شاء، وكذا العكس فحينئذٍ لا يقدّم أيّ أحد الشكوى للسلطة القضائيّة بطبيعة الحال، بأن تعدّى الشخص الفلاني على أمّه أو أخته أو زوجته أو ابنته، فهنا لو تعدّى رجلٌ على امرأةٍ لم يضرّ بحريّتها، ويصادق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذه الحالة؛ لأنّها لا تزاحم حرّيّات الآخرين، ولكن نحن نعتقد أنّ هذا العمل ممنوع؛ لأنّه يخالف هدف الخلقة في الاستكمال المعنوي للإنسان.
إنّ خلافنا مع مدوّني الإعلان مبنائي، إذ نعتقد باعتبار القوانين المتطابقة مع مصالح الإنسان الواقعيّة ونفس الأمرية، ولكنّهم يعتقدون باعتبار القوانين المتوافقة مع أهواء الإنسان، إنّهم يرون آراء الناس وأهوائهم منشأ اعتبار القانون، ونحن نرى أنّها المطابقة مع المصالح المادّيّة والمعنويّة، ونحن نرى أنّ الإنسان عبدٌ لله تعالى في التكوين والتشريع، وهم يفتون بحريّته أمام الله تعالى. والخلاصة أنّنا نعتقد أيضًا بالحريّة التي تعني حرّيّة اختيار الإنسان في إطار القوانين الاجتماعيّة الصحيحة.
معنى (وفق) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الصدقات وعجائب تُروى
عبدالعزيز آل زايد
حقوق الرعية على الوالي عند الإمام عليّ (ع)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
صفة الجنة في القرآن الكريم
الشيخ محمد جواد مغنية
لماذا ينبغي استعادة أفلاطون؟ (1)
محمود حيدر
معـاني الحرّيّة (4)
الشيخ محمد مصباح يزدي
(الغفلة) أوّل موانع السّير والسّلوك إلى الله تعالى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (2)
الشيخ شفيق جرادي
(مفارقة تربية الأطفال): حياة الزّوجين بحلوها ومرّها بعد إنجابهما طفلًا من منظور علم الأعصاب الوجداني
عدنان الحاجي
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (وفق) في القرآن الكريم
الصدقات وعجائب تُروى
حقوق الرعية على الوالي عند الإمام عليّ (ع)
صفة الجنة في القرآن الكريم
لماذا ينبغي استعادة أفلاطون؟ (1)
معـاني الحرّيّة (4)
عبير السّماعيل تدشّن روايتها الجديدة (هيرمينوطيقيّة أيّامي)
(الغفلة) أوّل موانع السّير والسّلوك إلى الله تعالى
معنى (منى) في القرآن الكريم
ثلاث خصال حمدية وثلاث قبيحة