علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

السُؤال في عين كونه جوابًا (1)

تمهيد

 

كيف للسؤال أن يُرقَّى إلى المنزلة التي يكون فيها عينَ الجواب عن واقعٍ لم يظهر أثرُ وقوعِهِ بعد؟..

 

ينقلنا هذا السؤال عن السؤال إلى حقلٍ معرفيٍّ نميل إلى وصفه بـ “الوقوع الذاتيِّ” للإجابة في قلب الاستفهام. و”الوقوع الذاتيُّ” الذي نعنيه، هو ذاك الذي يشير إلى واحديَّة السؤال والجواب، واستحالة انفكاك أحدهما عن نظيره. يعمل السؤال على شاكلة الجواب، ولولا هذا لما حقَّت استجابةٌ ولا استحقَّ فهم. تَبَعًا لعمل الشاكلة لا يكون السؤالُ عينَ جوابه ما لم يكونا معًا من جنسيَّةٍ واحدة. فالسؤال الخطأ لا مناص له من الجواب الخطأ. والمنطق نفسه يصحُّ كذلك على السؤال الصائب وجوابه. بهذا سنكون بإزاء كائنيَّة واحدة، مهمَّتها الاستفهام والتعرُّف على ما تختزنه حضرات الوجود من لطائفَ وكثائفَ لا حصر لها.

 

السُّؤال في منزلة كونهِ رغبةً واعية

 

تلقاءَ ما نقصدُه من بحثنا الذي أقمناه تحت عنوان “السؤال في عين كونه جوابًا”، نرانا نمضي بلا ريب إلى مسرح الميتافيزيقا. هنالك سنرى أنَّ كلَّ استفهام عن شيءٍ- سواء كان ظاهرًا أم  خفِيًّا- هو استفهام ميتافيزيقي. فللإنسان – بوصفه كائنًا ميتافيزيقيًّا – القدرةُ على مساءلة الأشياء، والاستفهام عن الغاية من حدوثها أنَّى كانت عصّيَّة على الفهم. والقدرةُ الاستفهاميَّة في حقيقةِ أمرِها إعلانٌ عن فرادة كائنٍ يُسائلُ نفسه في سرِّها وعلانيتها، ويُسائلُ الوجود في ظهوره واستتاره.

 

هذه المساءلة المركَّبة التي اختُصَّ  بها الإنسان، تمنحه – من دون سواه – إرادة التعرُّف على ما يظهر وما يحتجب، بوصفهما عالميَن لا يفصل بينهما إلَّا فاصلُ الظنِّ والاعتبار. فالسؤال في عالم الظهور سعيٌ لفهم طبائع الممكنات وإدراك الغاية من وجودها. أما السؤال عن العالم المستتر بذاته، فبذلٌ فوق عاديٍّ لاكتناهِ ما يقع فوق استدلالات العقل الأدنى ومقولاته: كالاستفهام عن سرِّ الغيب، ومقصد الوحي، وخلود النفس.

 

في المدوَّنة الفلسفيَّة الكلاسيكيَّة – كما هو معلوم – تتأسَّس نظريَّة معرفة عالم الممكنات والسؤال عنها على مبدأين- كما هو معلوم-: أ-عدم التناقض- ب- العلَّة الكافية. وتبعًا لهذين المبدأين ليس ثمَّة من واقعة يمكن أن تكون حقيقيَّة أو موجودة، من دون علَّة كافية تفسِّر لنا لماذا كانت هذه الواقعة على الصورة التي ظهرت فيها، وليس على صورة أخرى. ولبيان ما ذهبنا إليه، ينبغي أن يتوفَّر شرطان: أوَّلًا، أن يوجد على الدوام أساسٌ ما للعلاقة الرابطة بين عناصر قضيَّة ما، وهو أساس يجب أن يوجد في تصوُّرها. وينبغي ثانيًا، الإيقان بأن لا شيء يحدث من دون أن يكون لحدوثه علَّة ما، وأنَّ كلَّ ما يوجد يستمدُّ كيانه من علَّة كافية تفصح لنا لماذا وُجد هذا الشيء بدلًا من عدم وجوده.

 

مثل هذه الأسئلة والتساؤلات هي بلا شكٍّ، ذات طبيعة ميتافيزيقيَّة، وإن كانت تستهدف الموجود الفيزيائيّ كموجود ممكن. فإذا كان الممكن (Le Possible) هو الذي لا يؤدّي نقيضه إلى تناقض، حيث يكون جوهره له، أي أنَّ هذا الجوهر ليس شيئًا آخر خارج دنيا الممكنات. بل إنَّ هذه الممكنات في مظهرها وجوهرها أمرٌ واحدٌ، وبالتالي، فإنها من أمر الله ومرعيَّةٌ بعنايته، وموجودة منذ الأزل في علمه. وعليه، فإن الممكن الذي صار واقعاً، لن يكون واقعًا إلَّا لأنَّ الله قد رأى الخير الذي تضمَّنه.

 

ولأنَّ الممكن مرعيٌّ بالعناية الإلهيَّة، فقد حظي بفعلية التمكين بمعنى أنَّه ممكنٌ متماكن (compossible) كما يقرِّر ليبنتز (1646- 1717). والمتماكن هو الذي يصل إلى درجة من الكمال تجعله خليقًا بالتحقيق. ولأنَّه “متماكن” فهو يتضمَّن ميلًا إلى الوجود. إلَّا أنَّه بهذه المواصفة يظلُّ ناقصاً، (Ens diminutum) ولا يكتمل إلَّا إذا أُنجز وجوده في الواقع. وعندما يُنجَزُ وقوعُه يصبح السؤال عنه ناجزًا ذهنًا وعينًا، وحضورًا وغيابًا. مع كل هذا، لا يعني وجود الممكن، من جهة إمكانه، أنَّه يتحوَّل بالضرورة الى واقع؛ إذ لو تحوَّل كلُّ ممكن إلى واقع، لأصبح كلُّ ما في العالم ضروريًّا، ويفقد الخلقُ بذلك دلالاته، إذ يعسر وقتها أن نتحدَّث عن إرادة خلقٍ تميِّز فعل الله. [ليبنتز – مقالة في الميتافيزيقا].

 

ما تقدَّم يفضي إلى ما يلي: حتى يكون السؤال سؤالًا ذا غاية وعن غاية، لا بدَّ له من الجمع الواعي بين ما يتراءى للعيان، وما لا يتراءى لها، ومن ثمَّ النظر إليهما يلتقيان في غاية واحدة. تلك مسألة لا يفقه مغزاها أولئك الذين أنكروا العلل الغائيَّة في العلوم الطبيعيَّة والميتافيزيقا. فالذي فعله هؤلاء أنهم اقترفوا عيبًا موصوفًا حيث جحدوا بما هو بديهيّ. كان الأحرى بهم في حالٍ كهذه، أن ينكروا أيضًا سيْريَّة العِللَ في ميدان المنطق. فالعلل الغائيَّة أنَّى تنوَّعت مراكبها، أو اختلفت ألوانها، تبقى ضرورة لِسويَّة الفهم في الظهور والاحتجاب. فلو لم يكن للسؤال غاية في نفس السائل لما أخرجه السائلُ من كمونِه.

 

ولمَّا أن كانت غاية السؤال عين المعرفة بأطوارها ومراتبها المشرعة على الَّلامتناهي، كان هذا دليلًا على استحالة أن يُبدي السائلُ سؤالَه من دون معرفة قَبْليَّة بالغاية من إبدائه. فإنك عندما تسأل عن شيء،، تكون أدركتَ بفطرة التعقُّل ماهيَّة هذا الشيء؛ أمَّا الاستفسار عنه من بعد ذلك، فليس سوى طلب الإحاطة بصورته البادية في عالم الحسّ. فلئن عرفتَ ماهيَّة كلِّ موجود بما هو عليه في خفائه، ستعرفه بما هو عليه في ظهوره. وبهذه العبرة يصير الموجود المستَفهمُ عنه ناطقًا بحقيقته، شاهرًا للملأ ماهيَّته وهوّيَّتَه. ومن هذا الوجه تصير العمليَّة الاستفهاميَّة، أدنى إلى استدعاءٍ صريحٍ للجواب الكامن في قرارة الذَّات السائلة.

 

الذي مرَّ قولُه، قانونٌ يسري “على” المبدأ الأول، و”منه” إلى سائر مبادئ الطبيعة وقوانينها. السؤال عن المبدأ، وفقًا لهذا القانون، لا يُحصَّل إلَّا من عقلٍ قاصدٍ وذي غاية. والعقلُ القاصدُ حين يسأل عن الأصل، يستشعر هذا الأصل بقدرة استفهاميَّة غير مألوفة في محسوبات العقل الأدنى ومقاديره. ذلك بأنَّ العقل في أطواره الامتداديَّة يستطيع أن يشهد على ذات الشيء، لا على مظهره وحسب. أي أنَّه قادرٌ على شهود الشيء في ذاتِهِ، خلافَ ما زعمت الفلسفة الأولى باستحالة التعرُّف إليه. والشهود دالٌ على أنَّ بإمكان العقل أن يذوق الأثر الآتي من خفاء الشيء في ذاته، فيعرف الشاهد من أثر الشيء ما خَفِيَ عليه من تلك الذات.

 

ها هنا نفهم كيف أنَّ الاستفهام عن المبدأ بلسان العقل الممتدِّ هو في ذاته إعرابٌ عن رغبة واثقة في استكشاف ما عَسُرَ كشفُه بالقياس والاستدلال. معنى هذا، أن لا يكون للسؤال منفسحٌ للصدور إلَّا من رغبة واعية. تلك التي لا يَسَعُها إلَّا عقلٌ يتمدَّد إلى الماوراء ويشهد عليه. لذا يصير من غير الجائز النظر إليها باعتبارها مجرَّد فضول يُراد منه علمٌ عارضٌ بأشياء متحوِّلة ومجهولة في كينونة الإنسان، أو في عالم الطبيعة، فضلًا عن عالم الأفكار. إنَّما الرَّغبة الواعية إدراكٌ وإرادةٌ وانهمامٌ عالٍ بوجوب الإنجاز. بل هي قبل أيِّ شيء، شغفٌ حميمٌ باستكشاف المخبوء، والسرِّيِّ، وغير المتوقَّع من عالَمَيْ النفس والكون. والذين ظنُّوا أنَّ العقل هو الحاكم الأخير على تفكير الإنسان ومسلَكهِ، لم يهبطوا إلى قاع الوعي ليشهدوا على الرَّغبة الناشطة هناك، تلك التي تحرِّك العقل متى أصابه أو حلَّ به كسل. بل غالبًا ما ينخدع الإنسان حين يتناهى إليه أنَّ وعيه العقلانيَّ هو الذي يقوده ويرسم له معالم الطريق إلى بلوغ الغاية، بينما ثمَّة في الأعماق قوَّة خفيَّة لا تخضع لمنطق العقل، ولا تصغي إلَّا لمنطقها الخاصّ. تلك التي تحيا انفعالاتها وأفعالها على نحوٍ تصبح فيه إجراءات العقل كلُّها مجرَّد مساحة متلقّية لسلطاتها وحاكميَّتها على أسئلة الوجود كلِّها.

 

لهذا سيتبيَّن لنا كيف ينظر الكائن ذو الرَّغبة الواعية، بعينٍ مدركةٍ إلى نفسه، وإلى العالم الذي هو فيه. ثمَّ سنرى كيف يمضي في فضول الاستفهام إلى تحصيل مساحات أوسعَ ممَّا غمُض عليه من إجابات آمنة. تبعًا لهذه الخصوصيَّة، سيحظى سؤاله بمفارقات ونعوتٍ ما كانت لتكون لو لم تتأتَّ من طبيعته الفريدة. وبسببٍ من هذه المفارقات والنعوت تستوي ملحمة الاستفهام لديه على منشأ ميتافيزيقيٍّ مُفارِق تتعدَّد فيه منازل السؤال، من دون أن يحدث أيُّ تناقض بين منزل ومنزل. حتى ليبدو الحال، كما لو أنَّ كلَّ سؤال عن الله والكون والإنسان ينال نصيبه من الإجابة بمقدارٍ يناسب النُزُل التي يحلُّ فيها. ولأنَّ جَريَان الأسئلة جميعًا يتمُّ تحت رعاية طور “ما بعديٍّ” في علم الوجود، فقد اكتسبت (هذه الأسئلة) مفارقاتها وصفاتها ونعوتها الأصيلة، بينما هي على تواصل وطيد مع مبدإها الأول.

 

ربما لهذا سيقال، إنَّ لسؤال المبدأ – المستوعِبِ للممكن والمحسوس والمجاوز له- منزلةً عظمى يفارق الإنسان معها سائر الكائنات، ويكون موصولًا بها في الآن عينه. خاصِّيَّةُ هذه المنزلة أنَّها ترقى به فتحيلُه إنسانًا يعقل نفسه، كما يعقل الكينونة، فيسائلها ويتدبَّر أمره فيها طبقًا لصراطها وقوانين الألوهيَّة التي فيها. هنا على وجه الدقَّة نستطيع فهم معنى الاستفهام – لدى صاحب هذه المرتبة – إذ يؤدّي مهمَّة وجوديَّة تضمُّ المتناهي إلى الَّلامتناهي على نحوٍ يصير السؤال فيهما عينَ الجواب عنهما.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد