السّؤال وجوابُه: واحديَّةٌ بصيغة المثنَّى
لمَّا قيل إنَّ السؤال حركة ممتدَّة من المجهول طلبًا إلى معلومٍ ما، فقد دلَّ هذا على رغبة الفكر في الامتداد إلى ما لا يتوقَّف فيه عند حدّ. ولو شئنا لَظَهَر لنا كيف يتبوَّأ السّؤال الطَّالع من الشعورِ القصيِّ عرش الفكر ليفتِّح له الآفاق ويمنحه الجواب الآمن. وإذا كان الجواب غالبًا يبدو شقاءً للسؤال، فلأنَّه بهذا المعنى يغدو أقرب إلى دعوة مفتوحة على أسئلة لا نهاية لها، الأمر الذي يستولد هلعًا لدى السائل، ظنًّا منه أنَّ الحصول على الجواب قد يدخله لجُّة أسئلة واستفهامات لا تنتهي إلى يقين. مع ذلك، فإنَّ هذا القول لا يشير إلى أنَّ الجواب شقيٌّ في ذاته. فالمجيب يبقى على ارتباطه الذاتي بالسائل حيث يترجم جوابه الَّلحظة التي ينضج فيها السؤال ضمن ما نسميه بـ “زوجية المثنى”.
فالاستفهام والإجابة في هذا المطرح، شأنهما شأن كلِّ موجود استوت نشأته على مبدأ الزوجيَّة. كلٌّ من طرفَيْ هذا المبدأ يتمِّمُ نظيرَه وهو في غاية الرِّضى. إنَّهما في الآن عينه “ما قبلُ وما بعدُ”، ذلك بأنَّ الواحد متضمَّنٌ في قلب نظيره ولا يغادره قطّ. فالسؤال القاطن في جوف الإجابة، هو أشبه بحبل متين يمتدُّ من الجهل إلى العلم، وحركته بينهما امتدادٌ جوهريٌّ تنساب معها البداية في النهاية، والنهاية في البداية، على نصاب الواحديَّة التامَّة. فلو حصل تقدُّم أو تأخُّر في طلوع العلم من الجهل، فذلك عائد إلى الشروط الفيزيائيَّة التي تحكم الوعي البشريَّ ضمن دائرة الزمان والمكان. أمَّا الحقيقة فهي السَّرَيان الجوهريُّ الذي يتوقَّف انكشافه على التناسب بين السؤال والجواب.
المفارقة العظمى في مبدأ الزوجيَّة، أنَّ السؤال حين يكون عين الجواب، فإنَّه يبطل المغالطة الشائعة حول انفصال أحدهما عن نظيره. السؤال بما هو سؤال لا يعوَّل عليه من دون موضوع يحمله.. ذلك بأنَّ موضوعَه هو إيَّاه الإجابة التي جرى استدعاؤها من قلب السؤال نفسه. عندما نبدي سؤالًا عن شيء، فلن يكون هذا السؤال معزولًا عن ذلك الشيء. وهنا تكمن خصوصيَّة المثنَّى كمفهوم لا نظير له بين المفاهيم. فالمثنَّى واحد وإن تركَّب من صورتين. ثمَّ إنَّ كلًّا من هاتين الصورتين المؤلِّفتين لكيانه، إنَّما هي صفة من صفات واحديَّته. لذلك صار السؤال وجوابه جوهرًا يتجلَّى في واحديَّة المثنَّى.
السؤال إذًا، مفطور على المثنَّى. مبنيٌّ على تلازم وثيق الصلة بجوابه في حضرة الزوجيَّة. وهذه الخاصِّيَّة التكوينيَّة للسؤال أكسبته صفة الحضور المركَّب في الميتافيزيقا وظاهريَّات التاريخ. لكنَّ الشيء الأهمَّ والأعمق في طبيعته، أنَّه ليس مجرَّد علاقة توسُّطيَّة بين مجهول ومعلوم. إنَّه أبعد من ذلك، بل وأعمق تأثيرًا ممَّا تنطوي عليه كلمة علاقة من معانٍ ودلالات. من سمات “العلاقة” كونها مقولة بسيطة لا تُدرَك إلَّا بالتركيب؛ إنَّها مولود بديهيٌّ لقوانين هذا العالم المتناقض والكثيف ولا تقوم إلَّا به. فالعلاقة لا تحدث إلَّا بين واقعين وأكثر. وإن لم توجد الحدود والوقائع فلا وجود لشيء اسمه علاقة. فالعلاقة ـ على ما تنظر الفلسفة الأولى ـ من أوهن مقولات الفكر، بل إنَّها الأكثر زوالًا وتبدُّلًا. بينما السؤال لا يزول كهوّيَّة ودور ولا يتبدَّل كماهيَّة وجوهر. غير أنَّ المفارقة في العلاقة هي أنَّها موجودة مع كونها غير قائمة بذاتها. بها تظهر الأشياء متَّحدة من دون أن تختلط، ومتميّزة من دون أن تتفكَّك. وبها تنتظم الأشياء، وتتألَّف فكرة الكون.
إنَّها تقتضي الوحدة والكثرة في آن. هي واحدة، وكثيرة بحكم خصيصة الأُلفة التي حظيت بها بين البساطة والتركيب. على صعيد الفكر تربط (العلاقة) بين مواضيع فكريَّة مختلفة، وتجمعها في إدراك عقليٍّ واحد، تارة بسببيَّة، وأخرى بتشابه أو تضادٍّ، وثالثة بقُرب أو بُعد. أمَّا على صعيد الواقع فإنَّها تجمع بين أقسام كيان واقعيٍّ أو بين كائنات كاملة محافظة عليها في تعدُّدها. وهكذا يستحيل تقديم توصيف محدَّد للعلاقة، حيث لا وجود مستقلّ لها. إنَّها كالماهيَّة من وجهٍ ما، لا موجودة ولا معدومة إلَّا إذا عرض عليها الوجود لتكون به ويكون بها. لذلك سيقول عنها أرسطو إنَّها واحدة من المقولات العشر، وهي عَرَضٌ يظهر لدى الكائن بمثابة اتِّجاه. أي أنَّها صوب آخر، تطلُّع، ميلٌ، مرجعٌ، ويقتضي دائمًا لظهوره وجود كائنين متقابلين على الأقلّ. صاحب العلاقة وقطبها الآخر، ثمَّ الاتصال بينهما.[1]
تَظهرُ العلاقة في ميتافيزيقا السؤال على خلاف ما انطوت عليه في كلاسيكيَّات الفلسفة. فالسؤال والجواب – كما مرَّ معنا – لا يرتبطان بعلاقة، بقدر ما يؤلِّفان معًا كينونة واحدة مصانةً بأصالة المبدأ ووحدته. قد يتميَّز شيئان متباينان أحدهما عن الآخر، إمَّا بتنوُّع صفات هذه الجواهر، أو بتنوُّع أعراض هذه الجواهر، فلو وجدت جواهر عدَّة متميّزة بعضها عن بعض لكان تميُّزها إمَّا بتنوُّع الصفات أو بتنوُّع الأعراض. إذا كان تميُّزها بتنوُّع الصفات فحسب، فسنسلِّم إذًا بأنَّه لا يوجد غير جوهر واحد للصِّفة الواحدة. وإذا كان تميُّزهما بتنوُّع الأعراض، وبما أنَّ الجوهر متقدِّم بالطبع على أعراضه، فإنَّنا لا نستطيع، -إن نحن أبعدنا الأعراض واعتبرنا الجوهر في ذاته، أي من منظور الحقيقة – أن نتصوَّره متميّزًا عن جوهر آخر. بمعنى أنَّه لا يمكن أن يوجد في الطبيعة جوهران لهما صفة واحدة، أي أنَّهما يتَّفقان في شيء ما.
وتبعًا لذلك فإنَّه لا يمكن لأحدهما أن يكون علَّة للآخر، بمعنى أنَّه لا يمكن لأحدهما أن ينتج من الآخر. وما يبرهن على هذه القضيَّة أنَّه لو أمكن للجوهر أن ينتج من شيء آخر لكانت معرفته متوقِّفة على معرفة علَّته، وبالتالي لما كان الجوهر جوهرًا.[2] في ميتافيزيقا علم المبدأ، لا يعمل السؤال وجوابه خارج المثنَّى.. ولا يرتضي لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، لظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أولًا من جديد. بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ السؤال وجوابه من نقيضين: الأنا السائلة والآخر المجيب. بل بوصفه إرادة استفهام هو ممَّا يُشتقُّ منه، نظرًا لأصالته وفعاليَّاته التوليديَّة. يستطيع صاحب السؤال أن يتمثَّل حال سواه ويكونه، بشرط أن يعقد النيَّة على الخروج من كهف الغيريَّة القاتمة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الأنا مع كلِّ من يغايرها هويَّتها. وفي هذه الحال يستحيل كلٌّ منهما نقيضين متنافرين لا يلتقيان على كلمة سواء. بل قد يسعى كلٌّ منهما إلى تدمير نظيره، أو- في أحسن حال – ليقيم معه توازنَ هلعٍ لا يلبث بعد هنيهةٍ أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معًا.
في السؤال الذي ينمو في واحديَّة المثنَّى يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسَرَيان الزوجيَّة الخلَّاقة في الوجود. لقد صار الأمر بيّنًا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وفي هذه الحال لا حاجة لأحدٍ من طرفَي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجهِ، لأنَّ كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلٌّ منهما يحسُّ بزوجهِ، ولولا رؤية كلٍّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان التكيُّف وتناقضات الزمان والمكان وفهم معاني الأشياء ودلالاتها. ربما لهذا كان علمُنا بباطن الشيء سببًا للعلم بظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس. فلو علمتَ أنَّ الحركة في كلٍّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنَّما هو من أجل أن تظلَّ مستمرَّة دائمًا وأبدًا.
فالشيء المتحرِّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنَّما هي حركةٌ مستمرةٌ لا تتوقَّف، وفيها تتمثَّل الصلة بين الخالق والمخلوق،- وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلِّ شيء. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الاتِّصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.
إذا كان المثنَّى يقوم على الضدِّية في إطار التماثل والانسجام والتكامل. فالاثنينيَّة قائمة على جدليَّة التناقض. لذا، تختزن الضدّيَّة أمرين متضادَّين مرتبطين برباط واحد، وهو المبدأ نفسه الذي ينحكم إليه إيقاع الكون ونظامه، فالنور والظلمة في النهار والليل ثنائيَّة ضديَّة يجمعها اليوم، والفرح والحزن متضادَّان، ويختفي أحدهما وراء الآخر، وكذلك النجاح والفشل، والغنى والفقر، والعلم والجهل…. في حين تقوم علاقة التناقض على مبدأ النفي والاقصاء وإعدام النظير.
أمَّا في المحلِّ الذي ينضج فيه السؤال ليُستفهم به ومنه عن الماوراء، تصبح الأضداد أساسًا للجمع والتناغم بدل الوحدة والقسمة والتشظّي. وعليه، فإنَّ للسؤال في الماوراء مقامًا مخصوصًا يعتني بالاستفهام عن الكيفيَّة التي ينتظم فيها شأن العالم، حيث تنشأ ضروب غير مألوفة من الاستفهامات حول الحكمة الأنطولوجيَّة من جمع الأضداد وانعدام التناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– الموسوعة الفلسفيَّة ـ معهد الإنماء العربي ـ إشراف: معن زيادة، بيروت- 1984. راجع مصطلح علاقة.
[2] – باروخ سبينوزا – علم الأخلاق – ترجمة: جلال الدين سعيد – المنظَّمة العربيَّة للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربيَّة – بيروت – 2009 – ص 35.
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ فوزي آل سيف
أحمد الرّويعي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
حبيب المعاتيق
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
اسجدوا للّه شكراً
هل نملك إرادة حرة واقعًا؟
السُؤال في عين كونه جوابًا (2)
سورة الهمزة
الإمام الحسين (ع): الخروج إلى الشّهادة على بيّنة
طريق الكوفة إلى الشام مشاهد ومواقف
الشّعر الحديث شاهد على قتل الحسين عليه السّلام
وجوه من ذاكرة الجاروديّة، جديد الكاتب علي منصور الحايك
السُؤال في عين كونه جوابًا (1)
فاجعة الطَّفّ: أبعادُها، ثمراتُها، توقيتُها