علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
عدنان الحاجي
عن الكاتب :
من المترجمين المتمرسين بالأحساء بدأ الترجمة عام ٢٠١١، مطّلعٌ على ما ينشر بشكل يومي في الدوريات العلمية ومحاضر المؤتمرات العلمية التي تعقد دوريًّا في غير مكان، وهو يعمل دائمًا على ترجمة المفيد منها.

هل نملك إرادة حرة واقعًا؟

المترجم: عدنان أحمد الحاجي

 

هل ما يعرف بـ "الإرادة الحرة (أو حرية الإرادة) (1)" موجودة بالفعل؟ غالبًا ما نعتبر وجود "الإرادة الحرة" من المسلّمات، لكنّ الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأعصاب ناقشوا هذه المسألة على مدى عقود - إن لم يكن على مدى قرون. في أطروحته الأخيرة للدكتوراه في جامعة بروكسل الحرة (VUB)، بعنوان "مناقشة الإرادة الحرة: تحليل متعدد التخصصات من منظور علم النفس وعلم الأعصاب والفلسفة العصبية (2)"، يتعمق إريك كيركهوف Eric Kerckhofs في هذه المسألة الجوهرية. يتميز نهج كيركهوف باتساعه غير المعتاد، حيث يجمع بين رؤى من علم النفس وعلم الأعصاب والفلسفة.

 

"يتناول نقاش الإرادة الحرة كيف ننظر إلى أنفسنا كبشر، بالإضافة إلى قضايا مجتمعية رئيسة مثل المسؤولية الأخلاقية (3) [المسؤولية الأخلاقية هي حالة تستحق المدح (4) أو اللوم (5) أو المكافأة أو العقاب، نتيجةَ فعل أو امتناع عن فعل وفقًا لالتزامات أخلاقية معينة]"، كما يبين كيركهوف. "ومع ذلك، غالبًا ما تعمل التخصصات التي تتناولها مسألة الإرادة الحرة بالدراسة بمعزل عن بعضها بعض. هدفي من هذه الدراسة كان دمج وجهات النظر المتعددة هذه في حوار يتناول مسألة الإرادة الحرة".

 

في بحثه، يستكشف كيركهوف ست مسائل جوهرية. من بينها: ماذا تعني "الإرادة الحرة" في الواقع؟ ويتوصل إلى ثلاثة معايير أساسية - قدرة  المرء على الاختيار (اتخاذ القرار)، وتحكّمه في أفعاله، وتصرفه بناءً على أسباب جعلته يتصرف كما يتصرف. لقد جاءت اللحظة الرّئيسة في نقاش الإرادة الحرة في ثمانينيات القرن العشرين مع تجربة ليبيت الشهيرة (6).

 

طلب باحث علم الأعصاب بنجامين ليبيت من المشاركين تحريك أصابعهم في لحظة من اللحظات، بينما كان يُسجل نشاط أدمغتهم واللحظة التي أدركوا فيها نيتهم (إرادتهم) في تحريك أصابعهم. وقد لفت انتباهه: نشاط الدماغ الذي يُشير إلى الاستعداد للحركة - المعروف باسم "جهد (إمكانية) الاستعداد (7 - 10)" - حدث قبل مئات المللي ثانية [المللي ثانية تساوي واحد على ألف من الثانية الواحدة] من إفادة المشاركين عن إدراكهم الواعي لقرارهم بتحريك أصابعهم.

 

يقول كيركهوفس: "سريعًا ما فُسِّر هذا على أنه دليل على أن الإرادة الحرة وهمٌ". "لكن هذا يعتبر تسرع في الاستنتاج. كانت المهمة التجريبية التي أجريت في ثمانينيات القرن الماضي مصطنعة ومحدودة - فهي لا تخبرنا إلا البسيط عن القرارات المعقدة التي نتخذها في حياتنا اليومية. كما كشفت الدراسات اللاحقة عن أوجه قصور منهجية في تلك التجربة".

 

يناقش كيركهوفس بأن تجارب ليبت تخبرنا بشكل أساس عن حركات اليد التلقائية [حركة لاإرادية لا يتحكم فيها الدماغ بل يوازنها الجهاز العصبي الودي والجهاز العصبي اللاودي]، وليس عن الخيارات المقصودة أو القرارت المبنية على التفكير المنطقي. استنتاج كيركهوفس واضح: تجربة ليبت لا تدحض (لا تثبت خطأ) الإرادة الحرة، لكنها تُبين أن العمليات اللاواعية [التي تجري في العقل الباطن (11)] لها دور أكبر مما ندركه غالبًا. يقول: "غالبًا ما يُساء تفسير نتيجة تجربة ليبت - نشاط الدماغ يسبق القصد (أو العزم على الفعل أوالإرادة) الواعية". "ما بينته تجربة لبيت بالفعل هو أن الدماغ يستعد للفعل [قبل وقوع الفعل]، ولا يعني أن الإرادة الواعية ليس لها أي دور".

 

من القضايا الشائكة الأخرى مفهوم الحتمية (12)- فكرة أن كل شيء في الكون مُقدّر. كما ذكر كيركهوف إلى أن "بعض الفلاسفة يدّعون أن الحتمية تجعل الإرادة الحرة مستحيلة". "لكن الفيزياء الحديثة تُشير إلى أن الواقع [أي الحالة التي عليها الأشياء] (13) أكثر تعقيدًا بكثير، مما يُتيح مجالًا لعدم القدرة على التنبؤ وتعدد النتائج المُحتملة [التي قد تحدث في حالة معينة أو حدث معين]". ضمن هذا التعقيد، يرى كيركهوف مساحةً لقدرة البشر الحقيقية على الاختيار.

 

كما تناول كيركهوف بالدراسة دور "الذات (14 - 19)" في أفعالنا. يرى كيركهوف أن الذات ليست موضعًا ثابتًا في الدماغ، بل هي مفهوم ديناميكي متعدد الطبقات. نماذج مختلفة للذات - من "الذات السردية (الهوية السردية) (20)" إلى "مفهوم الذات (21))" - في تفسير مدى شعورنا بالسيطرة على (التحكم في) سلوكنا. "اضطرابات مثل الفصام (22) أو متلازمة اليد الغريبة (متلازمة اليد الفوضوية) (23) تُظهر لنا ما يحدث حين يتعطل هذا الإحساس بالسيطرة أو بالتحكم،" كما يقول كيركهوف.

 

لقوة الإرادة أهمية بارزة أيضًا. مثل العضلات، قد تضعف، لكن يمكن تعزيزها وتقويتها أيضًا، كما يقول كيركهوف. "ضبط النفس، أي القدرة على مقاومة الدوافع والسعي وراء تحقيق الأهداف، أمران أساسيان لممارسة الإرادة الحرة".

 

وفي الخلاصة، يقول كيركهوف بأن الإرادة الحرة ليست ظاهرةً مطلقةً، بل ظاهرةٌ تدريجية [أي عملية تنطوي على تغيرات تحدث ببطء وبشكل تدريجي، ولا تحدث في مرة واحدة أو فجأةً]. وهذا يشمل تعديلات صغيرة ومتواصلة تؤدي في النهاية إلى تحول ملحوظ.] (24). "نحن لا نمتلك إرادةً حرةً كاملةً أو غير محدودة، ولكن هذا لا يعني أنها غير موجودة". ويدعو كيركهوف إلى استخدام مصطلح "الاستقلالية الشخصية  [قدرة الفرد على اتخاذ خياراته وإدارة أفعاله بنفسه من دون أي تأثير خارجي أو إكراه (25)] بدلًا من مفهوم "الإرادة الحرة" المُثقل غالبًا بالانفعالات والعواطف. ويختتم أطروحته بأسئلةٍ مستفزة للتفكير: هل بإمكان مجموعات أو جماعات من الناس أن يكون لهم نوع من الإرادة الحرة الجمعية؟ وهل يُمكننا يومًا ما بناء روبوتٍ يمتلك إرادةٍ حرة؟

 

هذه الدراسة تسهم في حركة متنامية في الفلسفة العصبية للوقوف على مفاهيم مُعقّدة كالنية أو القصد (الإرادة أو العزم على فعل شيء) والاختيار (اتخاذ القرار) (26) والوعي [الاحساس بالوجود الداخلي والخارجي] (27) من خلال أساليب أكثر تنوعًا وتعددًا للتخصصات. ومن خلال أطروحته، يفتح كيركهوف الباب على مصراعيه أمام رؤية أكثر دقةً وإنسانيةً للإرادة الحرة - ليست وهمًا، بل قدرة هشة، وإن كانت حقيقية تمتلك إمكانية القيام بوظيفتها، ويُمكن فهمها وتطويرها وحمايتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- https://ar.wikipedia.org/wiki/حرية_الإرادة

2- https://www.vub.be/sites/default/files/2025-06/2025_PhD_PublicDefense_VUB_PE-GF-LW_KerckhofsEric_20250703.pdf

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/مسؤولية_أخلاقية

4- https://ar.wikipedia.org/wiki/مدح

5- https://ar.wikipedia.org/wiki/لوم

6- "تجربة ليبيت: في ثمانينيات القرن العشرين بدأ بنيامين ليبيت المُختصّ في علم النفس العصبيّ في جامعة كاليفورنيا بنشر أبحاث سيكولوجية مغزاها أن القرارات التي يتخذها الإنسان يجري اتخاذها في الدماغ قبل أن يكون الإنسان على وعي بها. عرفت هذه التجارب بـ«تجربة ليبيت». تحاول هذه التجربة الإجابة عن السؤال القائل: هل لدى الإنسان إرادة حرة؟، لذلك تم ربط متطوعين بأجهزة لقياس موجات الدماغ، وطلب منهم إصدار حركة في وقت محدد. وكانت النتيجة مثيرة للجدل، حيث إنه تم رصد إشارات عصبية قبل الوعي بالقرار". مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان; 

https://ar.wikipedia.org/wiki/تجربة_ليبيت

7- "في علم الأعصاب، يُعدّ جهد الاستعداد، المعروف أيضًا باسم جهد ما قبل الحركة (RP)، مقياسًا لنشاط القشرة الحركية (8) والمنطقة الحركية الإضافية (9) في الدماغ، مما يؤدي إلى حركة العضلات الإرادية. يُعدّ جهد الاستعداد مظهرًا من مظاهر مساهمة القشرة الدماغية في التخطيط ما قبل الحركة للحركة الإرادية". ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان;

https://en.wikipedia.org/wiki/Bereitschaftspotential

8- https://ar.wikipedia.org/wiki/قشرة_حركية

9- https://ar.wikipedia.org/wiki/باحة_حركية_إضافية

10- https://www.buqiinstitute.com/spontaneous-movement/

11- https://ar.wikipedia.org/wiki/عقل_باطن

12- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/حتمية

13- https://ar.wikipedia.org/wiki/واقع

14- "الذات self" هي حصيلة تجربة المرء للظواهر المختلفة التي تشكل إدراكه الذاتي، ووجدانه أو تعلقه، وأفكاره. [وهي تختلف تمامًا عن الروح أو النفس soul. وهذا يعني أن أفكار ومشاعر ومدركات الفرد عن نفسه هي ذاته، ومن هنا نشأ علم تطوير الذات وغيره.

https://ar.wikipedia.org/wiki/ذات

15- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/إدراك_ذاتي

16- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/عاطفة

17- https://ar.wikipedia.org/wiki/فكر

18- https://ar.wikipedia.org/wiki/نفس

19- https://ar.wikipedia.org/wiki/تطوير_الذات

20- https://ar.wikipedia.org/wiki/هوية_سردية

21- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/مفهوم_الذات

22- https://www.moh.gov.sa/HealthAwareness/EducationalContent/Diseases/Mental/Pages/008.aspx

23- https://ar.wikipedia.org/wiki/متلازمة_اليد_الغريبة

24- https://ar.wikipedia.org/wiki/تدرجية

25- https://iep.utm.edu/autonomy/

26- https://ar.wikipedia.org/wiki/اختيار

27- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/وعي

المصدر الرئيس

https://press.vub.ac.be/vub-researcher-eric-kerckhofs-investigates-whether-we-truly-have-free-will

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد