طبائع السُّؤال الفلسفيِّ ورغائبه
عند أول أمرها تخرَّجت الفلسفة من رحم السؤال. لأجل هذا سيظهر الاستفهام عن سرِّ الكينونة والغاية من وجود الكائن الواعي كما لو كان رغبة تفلسُفٍ يُراد لها الكشف عن الميقات الذي نضج فيه العقل البشريُّ ليسأل عمَّا يتعدَّى فيزياء العالم. لكأنَّنا حيال السؤال عن الموجود، ولماذا صار الموجود موجودًا بدلًا من العدم، هو سؤالٌ جاء في أوانه. ولنا أن نعترف أنَّ سؤال الميتافيزيقا ولو لم يُجب عليه، جاء مناسبًا للميقات. ربما لهذا السبب صحَّ أمرُه وسرى بيانُه إلى يومنا هذا. لكنَّ السؤال الأرسطيَّ – على سموِّ شأنه في ترتيب بيت العقل – سيتحوَّل بعد برهة من زمن، إلى علّةٍ سالبة لفعاليَّات العقل وقابليَّته للامتداد.
وما هذا إلَّا لحَيْرة حلَّت على أرسطو فأمسك عن مواصلة السؤال، بعدما أعرَضَ عن مصادقة الأصل الذي أطلَّ منه الموجود على ساحة الوجود. الحاصل أنَّ فيلسوف “ما بعد الطبيعة” مكث في الطبيعة وآَنَسَ لها فكانت له سلواه العظمى. رضي أرسطو بما تحت مرمى النظر ليؤدّي وظيفته كمعلِّم أول لحركة العقل. ومع أنَّه أقرَّ بالمحرِّك الأول، إلَّا أنَّ انسحاره بعالم الإمكان أبقاه سجين المقولات العشر.
ثمَّ لمَّا تأمُّل مقولة الجوهر وسأل عمَّن أصدرها عاد إلى حَيْرته الأولى. على ذلك، يبيّنُ لنا كيف أنَّ استيطان الفيلسوف في عالم الممكنات قد أفضى به في الغالب إلى الجحود بما لم يستطع نَيْلًه من دابَّة العقل. لكنَّ حَيْرة زائدة عن حدِّها ستجيئه على حين غفلة، فلا يجد معها مخرجًا. ثمَّ سيكون عليه أن يسترجع ما اقترفه من ظنون، من أجل أن يكتشف مصدر حيرته. حتى لتبدو أحواله وقتئذٍ كذاك الذي دخل المتاهة ولن يبرحها أبدًا.
الفلسفة إذًا، سليلة القلق الذي غالبًا ما ينتهي إلى الغمّ.. فإنَّها تسأل وتتساءل وغالبًا ما تنمو إجاباتها وسط مُنفسَحَات الظنّ. مع ذلك، فمن دون القلق ما كان للسؤال عن مواقيت الأشياء وحقائقها أن يبتني عرشه في حقول الفكر. وإذ يجتاح القلقُ العقلَ على حين مباغتة، يصير كلُّ جواب عن مسألةٍ ما، ضاجًّا بالقلق أو أنَّه في أحسن الأحوال، سيبدو مشوبًا بالرّيب والتحيُّر. أمَّا فضل القلق على الفلسفة ففي أنَّها صارت معه حقلًا خصيبًا لاستنبات الأسئلة وعلامات الاستفهام.
لهذا غدا كلُّ سؤال تعلنه الفلسفة مثقلًا بحوامل الموجودات وعروضها. وسنجد كيف اكتظَّت بياناتها بألوان الظنون، وهي تُسلِّم أمرها لسلطان العقل الصارم. بسبب من ذاك الحال، غالبًا ما دارت فكرة الفيلسوف مدار الفراغ العجيب. هنالك حيث تتخطًّفه جواذب السؤال لتلقي به في عالم غريب من أشياء تظهر له كلَّ حين بآلاف الألوان. إذ كلَّما بَسَطَ يَدَه على شيء من أجل أن يتعرَّف إليه، انزلق من بين أصابعه ككائنٍ زئبقيٍّ، فلا يأتيه من بعد ذلك نفعٌ ولا ضرٌّ..
وهكذا يظهر أنَّ الفيلسوف المأخوذ في حَيْرته كما لو كان في دوَّامة لا مخرج لها. سؤالُه فيها حائرٌ وجوابُه حائرٌ. لهذا السبب وجدناه كيف نأى من أرض اليقين واستطاب الإقامة في دنيا الأسئلة الفانية. من أجل ذلك سيكتب على نفسه أن يتعرَّف إلى الأشياء كما هي في ذاتها؛ وأن يقتفي أثر الأحداث والظواهر قصد تحرِّي عِللِهَا وأسبابها والنتائج المترتِّبة عليها. وما ذاك إلَّا لأنَّه مفتونٌ بما هو فيه، ومأخوذٌ بالظنِّ أنَّ الاهتداء إلى الحقيقيِّ والعقلانيِّ إنَّما يمرُّ عبر الحواسِّ وما استدلَّ عليه الذهن.
كثيرون ممَّن عيّنوا مقصدًا للسؤال الفلسفيِّ اتَّفقوا على فضائله التي لا تُحدّ. قالوا إنَّ الفلسفة تستحقُّ أن تُدرَس ليس فقط من أجل أن نجد فيها أجوبة دقيقة على الأسئلة التي تطرحها، بل بسبب قيمة الأسئلة ذاتها. ثمَّ أضافوا إلى ما ذكروا أنَّ مهمَّة السؤال لمَّا اعتلى عرش الفلسفة أن يكشف للسائل ما ينبغي كشفه من استتار العالم واحتجابه. لذا كان الاستفهام الجداليُّ في الفلسفة فعلًا عقليًّا محمولًا على رغبة جامحة للاستعلام عن المحتجب.
على التوازي مع هذا النَّسق، يجد الكائن الإنسانيُّ نفسه تلقاء سؤاله عن ذاته، والاستفسار عن شرط وجوده ومعناه. والإنسان كما نقرِّر الفلسفة منذ أول عهدها، هو كائن سِمتُهُ الجدل، أو أنَّه الموجود الوحيد الذي له القدرة على إحراز فضيلة الإدراك والفهم بالمساءلة. إذ كلُّ “موجود” في العالم يصير سؤالًا موجَّهًا إليه بما هو موجودٌ واعٍ وعلى أنحاء شتّى:
– في نحو علم الوجود (الأنطولوجيا): السؤال كفعل وجوديّ.
– في نحو الميتافيزيقا: استكشاف للسؤال كمرآة للذات والَّلانهائيّ.
– في نحو الإلهيَّات: سؤال الله كفعلٍ خالق للعالم. إذ إنَّ فعل الخلق سؤال وجواب في أمر واحد.
– في نحو علاقة الإنسان بالموجود: تأمُّلٌ في الكيفيَّة التي تصوغ منها الموجودات أسئلتها وترسلها إلينا.
عقل الفلسفة وفتنة الفراغ العجيب
من المفارقات العجيبة أن تكتفي الفلسفة بنعماء السؤال من دون أن ترجو له جوابًا. وبسبب هذا الاكتفاء سيتحوَّل السؤال بجميع أطواره إلى ضربٍ من إدمان لا شفاء منه، ثمَّ إلى طقسٍ مديد يمارسه الفكر ويسكن إليه أمدًا طويلًا. عند ظهور النتائج سيكون للفلسفة من حصاد عملها صدعٌ تكوينيٌّ لا سبيل إلى ردمه. فالعقل المحض الذي أنتج السؤال المحض بات أسير الاستفهام المفتوح على الَّلايقين. الأمر الذي تأدَّى إلى ولادة عالم تاهَ ساكنوه بسيل من الاستفهامات من دون أن يفيدوا منه بإجابة مطمئنة. وعلى دربتها المسكونة بصيرورة الانتقال من المجهول إلى المعلوم، يظلُّ السائل في ميادين الفلسفة يسأل حتى يتبدَّد السؤال.. وحين يصل إلى تلك المنطقة من السديميَّة وامتناع الطلب، يجد نفسه كما لو كان على حافَّة الفراغ العجيب. ثمَّ إنَّه سيكون تلقاء أحد سبيلين: إمَّا التطيُّر والسقوط في لجَّة العدم، وإمَّا أن يغمره الأنس الأتمُّ ويعود الكون كلُّه على كثرتهِ وكدرهِ حضرة رحمانيَّة واحدة …
والفراغ العجيب الذي استولدته الفلسفة السائلة، هو حاصل خوضٍ مرير في صحراء المعنى. الخائضُ فيها محمولٌ على الظنِّ، أنَّ السؤال المُستَنْبَتَ من حجَّة العقلِ قد يكون كفيلًا بجعلنا ننحني لظهور الحقيقة. لكنْ الظانُّ إيَّاه غالبًا ما يغفل عن أمرٍ يؤيِّده العقل نفسه، وهو أنَّ السؤال الذي اُتُخِذَ سلاحًا أوحَدَ لنيل الحقيقة المدَّعاة، سوف يمسي مع الزمن داءً لا شفاء منه. كلَّما انتهى من سؤال ابتدأ بآخر. ثمَّ تتوالد الأسئلة إلى غير نهاية. حتى ليصير الخائضُ في الُّلجَّة كالظمآن المضطرِّ لماء البحر، كلَّما شرب امتلأ منه ازداد عطشًا. في هذه الآونة يمسكُ السائلَ المتعبَ حالٌ مُفارقٌ لا استشعار فيه للمكان ولا للزمان، حتى ليخال الذي هو ساكن فيه، كما لو كان في تيهٍ لا مُمْسِكَ له. أو لكأنَّه شيء محاطٌ بالَّلاشيء. يبدو كما لو أنَّه غريبٌ في دنياه. لا يجد ما يؤنسه في غربته سوى علامات استفهام وإشارات تعجُّب أو اندفاعة إلى هلعٍ لا قرار له. ثمَّ كيف له ألَّا يهلع وهو كمثل الواقف بقدمين مهزوزتين يوشك على السقوط من منحدر شاهق؟…
الممتحنُ في “الفراغ العجيب” يستشعر في نفسه ضدَّين يتنازعان بلا هوادة: ضدٌّ يصرُفه عن الامتلاء ليبقيه في بئرٍ دهريَّة بلا ماء، وضدٌّ يتطلَّع إلى الانعتاق ولا يجد إلى ذلك سبيلًا.. ولولا أن بقي للممتحن حظُّ من العقل والرجاء لمكث في جوف الظلمة أبدًا. فما على الداخل إليه حالئذٍ إلَّا أن يأخذ بناصية نفسه ويتخيَّر: إمَّا التلاشي في عتمة الفراغ، أو النموّ تحت شمس الحضور المنفتح على الأبديَّة. إلَّا أنَّه سيبقى محمولًا على التساؤل الأليم: وهل تأتي وَخَزَاتُ الشكِّ من عند غير العقل؟ ولولا أن أصرَّ العقلُ على كبريائه الأرضيِّ لَمَا مَكَثَ في كهفه دهرًا يكابدُ رمضاءَ الجهل. وما الألم المرتَّبُ على السؤال المكتظِّ بالشكِّ إلَّا جزاء ما اقترف السائلُ من غلواء الطلب. والذين يسألون – لما أسدلوا على أبصارهم حجاب الرؤية – خاب سؤالهم وما كان لهم من جواب. والسؤال من غير تبصُّر سؤالٌ فانٍ، وليس الفاني بقادر على طلب الاستفهام الذي يحيي ويدوم.
فإذا كان الجواب متضمَّنًا في كلِّ سؤال يُسأل، فكلُّ ما لا يتضمَّنُه السؤال استحال فهمه. فالعقلُ المحتجبُ بالأسئلة الفانية لا يستطيع الحصول على جواب حين يُسأل عن شيء خارج حياضه. وما ذاك إلَّا لأنَّ العقلَ المستغرقَ في الأعراضِ العارضِة لا يقوى على إبرام ميثاق مع الأصل. فما هو مستتر في الأصل، محفوظ بأصله ويتأبَّى على الإظهار. وما دام العقل مفصولًا عن أصله، نائيًا منه، كيف له أن يتعرَّف عليه أو يقرَّ له بالحضور؟.. وعليه، لا ينبغي للسؤال الساكن في العالم الفاني أن يطلب الإجابة عن عالمٍ لايفنى. والذي حالُه الفناء، لا يقدر على النفاذ إلى الذي شأنه الحياة والديمومة.
تستطيع الفلسفة برغبتها الموصوفة مجاوزة الفراغ، سوى أنَّها لا تلبث حتى تستعيد أسئلتها القديمة ضمن تشكيل يطابق المستحدث من مكابداتها. وفي هذه الحال لن نشهد أيَّ تبدُّل جوهريٍّ في رغائبها الكبرى. وما ذلك إلَّا لأنَّ لكون العقل المنتج للسؤال عقلٌ مشبَّع بفيزياء النظر ورياضيَّات الأحكام. سنرى أنَّ فيلسوف ما بعد الفراغ العجيب لم ينحُ بعد من جاذبيَّة الفراغ وسطوته. لذا لن يكون له حظُّ الخلاص من رَهَقٍ ثقيل الظلِّ تفترضه عليه نقلة العقل من طور غامضٍ إلى طور أشدَّ غموضًا… حتى أنَّه ليوشك على صراخ كتومٍ يضيق به الصدر.
حين يدعوك “الفراغ العجيب” إلى التهيُّؤ لتحصيل الدرجات القصوى من النشاط الواعي، فذاك لمجاوزة معاثر أسئلة واستفسارات كَابَدْتها ردحًا طويلًا من الوقت. فالإنسان الذي يسأل لا يلبث أن يضمُّه السؤال ويدور مداره ثمَّ ليجعله أصل الإشكال. والإنسان إيَّاه هو الذي يميل إلى جعل تساؤله الحائر، تساؤلًا موصولًا باللَّامرئيِّ، أملًا بشهود قبسٍ ما من المعرفة… ذلك يومئ إلى أنَّ حامل السؤال حاضرٌ في جوف كلِّ سؤالِ ولا يغادره البتَّة. حتى إذا سأل عن شيء، فإنَّما يسأل عن نفسه في ذلك الشيء.
وفي هذه الحال إمَّا أن يصبح كلُّ سؤال أدنى إلى صدىً شاردٍ في برِّيَّة، وإمَّا أن يغدوَ منفذًا للإدراك. فإنَّ من تيسَّر له الأخذ بسؤال الفهم ستحمله همّةٌ عالية ليكون شاهدًا على ما لا عهد له به. حالَذاك ينظر الشاهد الفاهم بحدقات البصيرة إلى محلِّ السرِّ: يسائله، ويستحكي صمته الدهريَّ، ثمَّ يمضي إلى ما هو مستترٍ داخل احتدامات الكثرة. وكلُّ هذا من أجل أن يضع الشاهدُ الفاهمُ تساؤلَه في المحلِّ الأنسب، أو في قلب الشيء الذي هو ناظرٌ إليه.
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عادل العلوي
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
أحمد الرّويعي
السيد محمد حسين الطهراني
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
الأخت.. فكرة أمٍّ ثانية
الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء
السُؤال في عين كونه جوابًا (3)
سورة الماعون
خلود ثورة الإمام الحسين (ع)
الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (1)
قضايا الحياة الكبرى، قضية المرأة نموذجًا
محاضرة حول (الشّخصيّة الموضوعيّة) في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
اسجدوا للّه شكراً
هل نملك إرادة حرة واقعًا؟