النجاة من الفراغ العجيب كحادث وجدانيّ
لن يكون للناجي من القلق من سبيل، إلَّا من بعد سؤالٍ يسأله بشغف وله صفة التأسيس. ثمَّ لن يتسنَّى له مثل هذا السؤال إلَّا من بعد حادث وجدانيٍّ يطيح بما استحكم به من أسئلة لم تأتِه إلَّا باغتمام الصدر وتيهِ العقل. فإذا قُدِّر للسائل الواعي أن يعبر الحادث الوجدانيَّ بأمان، فسوف يُقدَّر له أن ينعطف نحو سفرٍ مستحدث ينقله من العَرَضيِّ إلى الجوهريِّ، أو من الاستفهام عن الفاني إلى السؤال عن الحيِّ والدائم. ولو كان لنا من توصيف مناسب للانعطافة الوجدانيَّة المشار إليها، لوجدناها في الَّلحظة التي يستتبُّ فيها رخاء الوجدان بمنأى من سطوة المفاهيم.
نستطيع أن نرى إلى هذه الانعطافة باعتبارها مفتتحًا لوعي مُفارِق ترتسم معالمُه ضمن طور عقلانيٍّ متحرِّر من مفاهيم العقل الأدنى وأحكامه. حتى أنَّ من فلاسفة الَّلاهوت وصف هذا الوعي المُفارِق بـ “السرِّ الرهيب” mysterium tremendum [رودولف أوتو- فكرة القدسي- ص 209] لكنَّ هذا السرَّ الكامن في قاع الوعي لا يلبث في لحظة ما، أن يظهر على نحوٍ غير متوقَّع، ثمَّ ليُحدِث انعطافة تتبدَّل معها معاني الأشياء، حتى تغدو الأسئلة والاستفهامات في شأنها على منقلب جديد. لكنَّ “السرَّ الرهيب” الذي توصف به هذه الانعطافة هو في الآن عينه، حادثٌ واقعيٌّ، ويمكن استشعاره والإحساس به، تارة على شكل لمحٍ باطنيٍّ يجتاح الصدر أنساً وبهجة، وطورًا على صورة إعصار روحي يأتي على حين بُغتةٍ ليقوِّض مجمل البناءات النفسيَّة والمعنويَّة والمعرفيَّة التي قام عليها الوعي على امتداد الأحقاب المنصرمة.
بعد الفراغ العجيب بقليل يتهيَّأ للخارج منه أنَّ يدًا قدسيَّة تمتدُّ نحوه وتُشعِرُه بشيء من الأمان وَسَعةِ النظر. إذا تنبَّه المتهيِّءُ إلى هذا “التأتِّي الَّلطفانيِّ” النازل عليه من الامتلاء المحض، فسوف يسائل نفسه عن الكيفيَّة التي ينبغي له أن يستقبله بها. والتأتِّي بهذه الصورة غالبًا ما يتدفَّق من دون حسبان على الناجين من أغلال الفراغ العجيب. ولذلك فهو تدفُّق مفاجئ يثير مشاعر متضادَّة تراوح بين الدهشة والحبور والتهيُّب. وعلى الرغم من الفجأة التي غمرته برهبتها، لا يجد الناجي غرابة في ما حلَّ فيه. فالتأتِّي الَّلطفانيُّ الصادر من اليد القدسيَّة ينبسط أمام المتلقّي على أكثر من صورة. حينًا على هيئة عقلٍ هادٍ يفيض على الكلّ، وحينًا كأمرٍ قدسيٍّ يعتني به ويمدُّه بالسرور العجيب، وثالثًا على صورة روح كليِّ العطاء ينفق من غير مِنَّة. لكنَّ اليد القدسيَّة فوق كلِّ الذي قيل، ليست إلَّا ما هي عليه في ذاتها. ذلك بأنَّها أشدُّ بعدًا من كلِّ كائن، وفي الآن عينه هي أقربُ إلى كلِّ كائن من كلِّ كائن. من أجل هذا، لا يقدر المرء على إدراكها إلَّا إذا غادر كهف أنانيَّته، وانْسَرَحَ في الَّلامتناهي. أمَّا كيف له أن يفعل ذلك.. فدون ذلك بابٌ عالٍ سيكون على المتوجِّه شطر المحضر القدسيِّ دفعه من دون كلل، والإيقان بأنَّ ثمَّة بعد الفتح مُعطىً يملأ الفراغ العجيب أمرًا عجبًا..
يوشك صاحبُ الحظِّ الذي جاوز الفراغ أن يتعرَّض إلى جذبٍ غير عاديٍّ، هو أقرب إلى إحساس خاطف بلذَّة الدفَقِ المعنويّ. معه يتبدَّد كلُّ سؤالٍ مميت، لينبعث من بعدهِ التساؤل المحيي. والمتعرِّض للجذب من بعد المجاوزة هو في سفر معرفيٍّ لم يألفه من قبل. حتى لكأنَّ سَفَرهُ هذا، عزوفٌ شغوفٌ عن الكثرة المملوءة بالغيظ. أو أنَّه هجرة تروم الوصول إلى ما يتعدَّى شوائب الماهيَّات الفانية وعيوبها، أو أنَّه ذاك الاستشعار الباطنيُّ الذي جعله الحكماء فكرًا هاديًا يقود إلى الأصل، ويحيل كلَّ ما في الكون إلى جناب الحضرة القدسيَّة.
الجذبُ الذي يغمرُ الناجي من الفراغ العجيب، سرٌّ مكتظٌّ بالرَّهبة. وهو نظير الشيء الذي يوجدُ بتمامه خارج دائرة المعهودِ، وهو المأمون منه، والمأنوس به، وهو الذي يملأ المشاعر دهشة وانذهالًا. أمَّا حين يكشف الجاذبُ عن هوّيَّته، لا يعود للسؤال عن السرِّ آنئذٍ من نفع. فلا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة ومطالب قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام. فمن أدرك سرَّ الاندهاش العجيب إدراك عيشٍ ومعاينة، لا يعبأ إن كان قد تعقَّل السرَّ بالحجَّة والاستدلال. فقد وصله الدليل بالمعاينة والاختبار لا بالخبر المشوب بالنقص. فإن من عاش السرَّ لا يَعُود يهمُّه التعرُّف على صفاته وآثاره. فإنَّه بلغ ما بلغ من التعرُّف، وبات يعرف ما لا يطيق معرفته أكثر أهل الندرة. عند هذا الطور الشاقِّ في مجاوزة الفراغ العجيب، ينبري السائل نحو استفهامات ترتقي بالسؤال وتقيمه في حقلٍ ميتافيزيقيٍّ مُفارِق. الخاصِّيَّة الأصليَّة لهذا الحقل أنَّه يتطلَّع بسؤاله إلى المابعد بحيث تتعيَّن استفهاماته عن مبتدأ الوجود ونوع السؤال الذي يناسبه.
السُّؤال عن المبدأ كسؤال مؤسِّس
داخل الحقل المعرفيِّ الميتافيزيقيِّ المشار إليه، لا يُنظر إلى السؤال باعتباره تطلُّعًا لعلمٍ يقي من جهل. إنَّما هو فعلٌ وجوديٌّ يختزن حضورًا باطنيًّا لمبدأ الوجود ومعناه. حين يسأل العقل الواعي عن مبدأ الوجود فلا يفعل ذلك من فراغ، بل من أثر لهذا المبدأ سبق أن رَسَخَ في فطرته الأولى. وهذا هو الداعي الذي يجعل من الاستفهام عن مبدأ الموجودات فعل “تذكُّر” لما هو موجود في عالم المُثُل كما في نظريَّة المعرفة الأفلاطونيَّة. وهو الداعي نفسه الذي يجعل الاستفهام فعل تكشُّف وتجلٍّ لدى العرفاء. فالسؤال الطالع من وعيٍ فائق لا حاجة له إلى دليل من خارجٍ يسوِّغ طلوعه، ذلك بأنَّه سؤال يستنطق العلم المودَع في قلب السائل فيجاب. على هذا صحَّ أن نتصوَّر السؤال في مطارح “علم المبدأ” بوصف كونه حضورًا لحقيقة هذا العلم وأثره المبين في نفس السائل. ما يعني أنَّ السؤال عن المبدأ وعلم “البَدء الأول”، هو سؤال مؤسِّسٌ ويؤسَّس عليه؛ وما ذلك إلَّا لأنَّه موصول بالفطرة، ويعرب عن شوق داخليٍّ للإمساك بالطرف الأقصى لمعاني الأشياء والغاية من وجودها.
نقصد بكلامنا على “السؤال المؤسِّس”، ذاك الذي يؤسَّسُ منه وعليه فهم الوجود كوجود بالذات، والتعرُّف على الموجود بما هو موجود. ما يعني أنَّ حقيقة التأسيس في هذا السؤال مبنيَّة على تلازم وطيد بين الأنطولوجيِّ (علم الوجود) والفينومينولوجيِّ (علم ظواهر الوجود). وجلاء هذه الحقيقة لا يتأتَّى من التشطير بين المرتبتين، وإنَّما من التجانس والانسجام بينهما، حيث يكون السؤال مطابقًا لكلِّ مرتبة وجوديَّة بقَدَرِها.
وما كنَّا لنتطلَّع إلى سؤال يؤسِّس ويفتح على بدءٍ جديد، إلَّا لإخفاق الميتافيزيقا في الإفلات من الأسئلة الجارية مجرى عالم الممكنات. فالأسئلة الناشئةُ من هذا العالم والمشدودةُ إليه هي أسئلة تتغيَّر وتتبدَّد تبعًا لتغيُّر وتبدُّد موضوعاتها. أمَّا السؤال المؤسِّس فسمْتُه الأصالة والامتداد ومجاوزة الممكنات العارضة. ذلك رغم الاعتناء بها من جهة كونها ممرًّا ضروريًّا إلى متاخمة المطلق. هو إذًا سؤال جوهريٌّ أصيلٌ ولا يتبدَّد لأنَّه موصول بالَّلامتناهي. لأنَّه بالمطلق يكتسب السؤال المؤسِّس القدرة على التأسيس للمابعد. حيث لا يحدُّ من تجدُّده وديمومته تعاقب الزمن الفيزيائيِّ مهما تنوَّعت موضوعاته وتكثَّرت أحداثه.
والسؤال المؤسِّس يرقب كلَّ سؤال يأتي من بعده. يعاينُه ويعتني به ويسدِّدُه. والأثر المترتِّب على المعاينة والاعتناء والتسديد لا يقتصر على نتائج المراقبة والفحص لجهة صوابها أو خطأِها، وإنَّما في معرفة صواب وخطأ السؤال نفسه. أي أنَّ المؤسِّس يعاين حصاد عمله في ما هو يعتني بكلِّ سؤال فرعيٍّ ويختبر جدواه. فلو جاءت النتيجة، باطلة، دلَّ هذا على أنَّ السؤال نفسه يحمل في داخله علَّة بطلانه.
إنَّها طريقة عمل السؤال المؤسِّس التي تتوسَّل حكم الواقع لا حكم القيمة. تبعًا لهذه الطريقة لا أحكامُه متعلِّقة بخيريَّة مقاصد الفكرة أو حسن طويَّتها، وإنَّما بالظرف الزمانيِّ والمكانيِّ التي ولدت فيه. وهو ما تشير إليه القاعدة التالية: إنَّ حقَّانيَّة كلِّ استفهام تعود إلى التناسب بين لحظة صدوره والَّلحظة التي يستجاب له فيها. على سبيل المثال، لو أخذنا بفكرة ما لنصنع منها حدثًا تاريخيًّا، فإنَّ سَرَيانها في الواقع من أجل أن تحقِّق غايتها لا يتوقَّف على مشروعيَّتها الأخلاقيَّة فحسب، وإنَّما أيضًا على تناسبها مع أوان ظهورها، أي على توفُّر الشروط الزمانيَّة والمكانيَّة المناسبة لماهيَّتها وأصلها. فالفكرة التي تظهر في غير أوانها لا تبطل فقط لأنَّ الظروف لم تكن ناضجة لولادتها الطبيعيَّة، وإنَّما أيضًا لخلل في ذات الفكرة نفسها.
فالسؤال المؤسِّس بصيرٌ بظروف الزمان والمكان، يستدلُّ ويدلُّ، يستهدي ويهدي، يدبِّر الفكرة ويرعاها بعقل صارم، ولا يهمُّه حُسن مظهرها وقوَّة جاذبيَّتها. والفكرة التي تستثير دهشة سائلها وحيرتِه، هي وليدة ظرف زمانيٍّ ومكانيٍّ محدَّد. لهذا السبب تروح تُفرغ كلَّ طاقتها ضمن هذين الظرفين ولا تتعدَّاهما. فإنَّما هي محكومة بوعي تاريخيٍّ معيَّن تستجيب له وتنتهي بانتهائه. وعليه، فإنَّ للأفكار بَدءًا وختامًا، ومبتدأ وخبرًا. وهي ككلِّ العوالم تولد وتعيش ثمَّ تشيخ وتؤول إلى الانتهاء. ولأنَّها متعلِّقة بزمان حدوثها وجغرافيَّته كان لكلِّ فكرة مكان تولد فيه وتنمو حتى تؤدّي الغاية من ولادتها.
والسؤال المؤسِّس محيطٌ بمبتدأ الأفكار وخواتيمها، ومتبصِّرٌ في مسار زمن الكائن الإنسانيِّ ومآلاته. من أجل ذلك، كان له أن يحظى بمكانة أصيلة في علم الإلهيَّات وفي فلسفة التاريخ. وهذه المكانة متأتّية من توفُّره على تكوينٍ ذاتيٍّ يمكِّنه من متاخمة الوجود بحاضريَّتيه المطلقة والنسبيَّة. ولذا فهو سؤال أصيل التناسب بين لحظة صدور الفكرة وزمن تحقُّقها في واقع محدَّد. على حين أنَّ تحويل الفكرة إلى حدث هو أمرٌ غير مرهون فحسب برغبة السائل والميقات الذي يحدِّده لتلقّي الجواب وإنَّما يعود إلى ما تقرِّره روح الزمن التي تحدِّد الوقت الأنسب لمثل هذا التحويل. فلكي يكتمل السؤال المؤسِّس وينجز ذاته سيكون على سائله أن يبذل جهدًا مضنيًا للعثور على ما يؤسِّس لآفاق الفكر وما يوقظ التاريخ من كسلِهِ ووهنه، وكذلك ما يحمل على التساؤل عمَّا يحتجب أو يتعذَّر فهمه.
وهكذا فإنَّ العثور على استفهام يؤسِّس للآفاق هو فعل إبداع. ولأنَّه كذلك فهو إمَّا أن يكون استئنافًا ليقظة بعد إخفاق، وإمَّا أنَّه بدءٌ مستحدث غير مسبوق بنظير. وفي كلا الحالين يحتاج الأمر إلى استراتيجيَّة مسدَّدة بجميل الصبر. فلا شيء يقوى على الزمن وما يكتظُّ به من أسئلة قهريَّة سواه. ولو شئنا أن نجعل الصبر منهجًا لأقمناه في فضاء يتعدَّى زمان الصابر ومسكنه. فبذلك يستطيع من اتَّخذ سيريَّة الصبر دُربةً له أن يتلقَّى الجواب من دون أن يستيئس، أو أن ينال منه ضيق الصدر. والصبر مقولة زمانيَّة لا يستطيع السؤال المؤسِّس أن يحظى بأهليَّة التأسيس إلَّا بتدبُّرها. ذلك بأنَّ جلاء كلِّ غامض أو مجهول، سواء في عالم المعقولات المجرَّدة أم في عالم الممكنات الحسّيَّة، يلزمه عزم دؤوب على احتواء الزمن.
وعليه، فإنَّ شرط إنجاز السؤال المؤسِّس نفسه، هو في تمكُّنه من السيطرة على زمن الاستفهام عن الكينونة وما فيها. أمَّا لو تعجَّل السائل تحصيل الجواب على ما سأل بقي سؤاله ناقصًا. ففي هذه الحال لا يعود يتسنَّى للسائل أن يعقد ميثاقًا مع المجيب ليأتيه بالإجابة. والإجابة المأمولة تمكث هنالك في مكان ما من المقبل، فمتى آنت مدَّتها أقبلت نحو طالبها كأنَّما تجيء إليه من هيكل الكمال الأبديّ. السؤال الذي كمُلَت عناصره وصار أهلًا للتأسيس جوابُه كامن فيه من قبل أن يظهر إلى العلن. ولأنَّ العلاقة بين السؤال والجواب هي علاقة إيجاد وتبادل، فإنَّ مقوِّمات السؤال المتشكِّلة من ضرورات الَّلحظة ومن وعي السائل بها، هي ما تجعل كلَّ سؤال فرعيٍّ على عهد وثيق بالسؤال المؤسِّس. ولهذه العمليَّة التبادليَّة لها زمانها الوجوديُّ الخاصُّ؛ حيث يتعرَّف السائل على ما يسأل عنه بوساطة السؤال نفسه. أي بالسؤال الذي ينضج ويكتمل قوامه بصبر المتدبِّر على المطلوب.
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
أحمد الرّويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
سر من أسرار زینب الحوراء عليها السلام
السُؤال في عين كونه جوابًا (4)
سورة الزلزلة
حرق الخيام قبل مقتل الحسين (ع) وبعده
الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (2)
المنبر الحسيني بين العَبرة والعِبرة
(أين هو؟) أولى قصص الأطفال للكاتبة سكينة آل قويسم
(شهيّة الوجع المفتوحة) باكورة إصدارات الكاتبة بدريّة آل حمدان
الأخت.. فكرة أمٍّ ثانية
الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء