علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ حسين الخشن
عن الكاتب :
الشيخ حسين الخشن مواليد: ١٩٦٦م، أستاذ الدراسات العليا (البحث الخارج) في المعهد الشرعي في لبنان، وهو من أبرز تلامذة السيد محمد حسين فضل الله، وله العديد من الكتب المطبوعة والمقالات المنشورة.

المذهب الربوبي: مفهومه ودوافع اعتناقه (2)

ثانياً: الربوبيون بين الماضي والحاضر

 

لا يخفى أنّ الفكرة الأساسيّة التي يقوم عليه الفكر الربوبي وهي إنكار مبدأ النبوّة ليست جديدة في مضمونها، بل هي فكرة معروفة منذ زمن قديم، فقد نسب علماء الكلام المسلمون إلى البراهمة الهنود أنّهم أنكروا النبوات. الشهرستاني: «البراهمة: من الناس من يظن أنّهم سُمّوا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم (ع) وذلك خطأ، فإنّ هؤلاء هم المخصوصون بنفي النبوات أصلاً ورأساً، فكيف يقولون بإبراهيم (ع) والقوم الذين اعتقدوا نبوة إبراهيم(ع) من أهل الهند فهم الثنوية منهم القائلون بالنور والظلمة على رأس أصحاب الاثنين، وقد ذكرنا مذاهبهم. وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفى النبوات أصلاً وقرر استحالة ذلك في العقول». واحتجوا على ذلك بأنّ الرسول إمّا أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإنْ جاء بما يوافق العقول لم تكن إليه حاجة ولا فائدة، وإنْ جاء بما يخالف العقول وجب ردّ قوله، وسيأتي تفنيد هذه الحجة لاحقاً.

 

ويُنقل عن البراهمة آراء أخرى، ومنها أنّهم قوم نباتيون لا يأكلون من لحوم الحيوانات شيئاً.

 

هذا ولكن نسبة إنكار النبوات إلى البراهمة لا تخلو من تأمل وإشكال، بلحاظ ما نُقل عن النوبختي في كتابه «الآراء والديانات» من أنّ البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار، وزعموا أنّ رسولهم ملك أتاهم في صورة البشر. وقد رفع عبد الرحمان بدوي من وتيرة التشكيك هذه حيث إنه وبعد بحثٍ وتقصٍّ ومتابعة لكلمات وأقوال العلماء المسلمين حول معتقدات البراهمة رأى «أنّ الروايات التي نجدها لدى المؤلفين الإسلاميين عن البراهمة بحسبانهم منكري النبوّة إنما ترجع إلى كتاب «الزمرد» لابن الراوندي» جازماً بأنّ «ابن الراوندي حينما يَدَعُ البراهمة يطعنون في الأديان المنزلة إنما يخفي تحت هذا القناع عقيدته الخاصة». ومحتملاً أن سرّ اختياره لمدرسة هندية وهي مدرسة البراهمة لينسب إليها تلك الأقوال، هو أنّه «تَبِعَ سنّة قديمة تضع على لسان حكماء الهند أقوالاً مثل هاتيك».

 

والراوندي المذكور هو أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (205هــــ 245هــــ) وقد اتهم بالإلحاد والزندقة، وعدّه بعض الباحثين الغربيين من «أشهر ملاحدة القرن الثالث الهجري» وقد ألّف كتباً كثيرة في الإلحاد وذكروا أنّه نقضها بكتب أخرى وشكك البعض في إلحاده، واعتذر له السيد المرتضى في تأليف هذه الكتب بأنه إنما ألّفها معارضة للمعتزلة وتحدياً لهم، فقد كان في بادئ الأمر منهم، فأساؤوا عشرته وأهانوه فتركهم ونقض عقائدهم. على أنّ كل الكتب التي ألّفها في الإلحاد قد نقضها بنفسه، وكان يتبرأ منها تبرأً ظاهراً، وقد خطّأه السيد المرتضى «بتأليفها، سواء اعتقدها أو لم يعتقدها».

 

وقد نُسِب إلى أبي العلاء المعري تبني مذهب البراهمة ولذا عدّه بعض الربوبيين من أنصار فكرتهم، بالنظر إلى ما ورد في بعض الأشعار المنسوبة إليه. ويرى البعض أنّ الأقوال المنقولة عنه متهافتة وشعره يصلح لإثبات كل مذهب. والاقناع عن أكل لحوم الحيوانات هو رأي جرى المعري على العمل به، وأخذ به جمع من الناس ممن يسمون أنفسهم بالنباتيين في زماننا.

 

وكيف كان وبغض النظر عن صحة النسبة المذكورة إلى البراهمة أو عدمها، فقد أورد علماء الكلام بعض الحجج المنسوبة إليهم وناقشوها، وأُلِّفت بعض الرسائل والكتب الخاصة في تفنيد مذهبهم ونقد آرائهم وأفكارهم.

 

هذا فيما يتصل بالبلدان الشرقية، وأمّا بلاد الغرب فيبدو أنّها المنبت الأساس للفكر الربوبي المعروف في العصور المتأخرة، وثمة أسماء عديدة من فلاسفة عصر التنوير تبنت الاعتقاد بالربوبية، منهم الشاعر والفيلسوف الفرنسي فولتير توفي (1778م)، ومن العلماء المعاصرين يبرز أمامنا اسم أنطوني جيرارد نيوتن فلو (1923م - 2010م) وهو الشخص الذي كان من المنظرين ولعقود طويلة للإلحاد، ثم في أخريات حياته تحوّل إلى الاعتقاد بالربوبية، ونُسب هذا الاعتقاد أيضاً إلى بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.

 

هذا عن ماضي الربوبيين، أما اليوم فإنّ الجماعة آخذون بالانتشار، مستعينين بما يروجونه من سهولة فكرتهم وبساطتها واعتضادها بالعقل وتقديرها للعلم، ومستغلّين الضعف الذي ينتاب الفكر الديني على أكثر من صعيد، حيث يسود التشدد والتعصب الدينيين وتنتشر الخرافة والاعتقادات البالية، ناهيك عن احتراب الجماعات الدينية وتقاتلها، وشهرها للسيف في وجه كل من لا يتفق معها في الرأي وارتكابها الجرائم باسم الدين. ويبدو من بعض المؤشرات والدلائل أنّ الفكر الربوبي آخذ بالتبلور كمذهب له تشكيلاته وأطره التنظيمية، فثمّة اتحادٌ عالمي للربوبيين، ولديهم مركز في العاصمة الأمريكيّة واشنطن. وثمة من يقول ويروّج بأن الربوبية هي من أكثر المذاهب انتشاراً في أوروبا.

 

ثالثاً: الدوافع نحو الربوبية

 

إنّ اعتناق الإنسان لفكرة معينة لا يأتي اعتباطاً ودون سبب، بل يكون لذلك دوافع ومنطلقات معينة إمّا فطرية وجدانية، أو نفسية، أو عقلية، أو اجتماعية أو لغير ذلك من الأسباب والدوافع، وعليه فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الذي يدفع الإنسان نحو تبني المذهب الربوبي؟

 

من الطبيعي أنّ تبنّي الربوبيين لفكرة الإيمان بالله تعالى لا ينفكُّ عن المنطلقات العامة التي تدفع الإنسان إلى الاعتقاد بالخالق والإيمان به، وهي منطلقات تمليها الفطرة البشريّة، ويقود إليها البرهان العقلي، ويقود إليها التأمل في هذا الكون العظيم في صنعه ونظامه والمبدع في آيات جماله وجلاله، وقد يكون هناك دوافع أخرى لدى بعض الناس.

 

وأمّا إنكارهم لوجود رسلٍ بين الله تعالى وبين خلقه، فهو أمر يصعب جداً ادعاء كونه مما تمليه الفطرة والوجدان أو يقود إليه العقل والبرهان، ولذا فهو يحتاج إلى سؤال المنطلقات، فهل هي منطلقات فكريّة بحتة أم أنّ ثمة دواعٍ ودوافع أخرى؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد