علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (1)

مدخلٌ في توضيح المفهوم

 

من الواضح أنّ النبيّ أو الإمام تصدر منهما أقوالٌ وأفعال ومسلكيّات. وأوّل شيءٍ يواجهنا في ما يصدر منهم هو مدى علاقة ما يصدر منهم بالدين نفسه. فهل كلّ ما يصدر منهم نابعٌ أو حاكٍ عن الدين أو أنّ القضية تتَّخذ شكلاً آخر؟

 

يرى العلماء المسلمون أنّ هناك بعض الأمور التي قد تصدر عن النبيّ ـ مثلاً ـ ولا تكون نابعةً من الدين، أو حاكيةً عنه بالضرورة، فلو قال النبيّ: أنا عطشان فإنّ عطشه ليس أمراً دينيّاً، وإنّما هو إخبارٌ شخصيّ عن حالةٍ ماديّة وشعوريّة تعرض جسده ونفسه. ولا يظهر اختلافٌ كبير إزاء وجود كلماتٍ أو أفعال من النبيّ لا تتّصل بالدين ومضمونه الأصليّ، ولا تمثِّل بالنسبة إلينا أمراً دينيّاً جاءت به السماء، وإنْ كان حقّاً وصائباً.

 

إلاّ أنّ الموضوع الإشكاليّ يكمن في الجانب المرجعيّ من شخصيّة المعصوم، وأعني بذلك أنّه ما هو الأصل في الذي يصدر عنه؟ هل هو البُعْد التبليغيّ للدين، بحيث نستطيع الأخذ به ونسبته إلى الدين، أو هو البُعْد غير التبليغيّ، بحيث ننسبه إلى النبيّ دون أن تحكي هذه النسبة عن أمرٍ دينيّ؟

 

وجوهر الموضوع يكمن في أنّه هل كلّ كلامٍ يصدر عن النبيّ هو دينٌ إلهيّ أرسلته السماء، أو أنّه قد يصدر عنه ما هو وإنْ كان حقّاً، لكنّه لا ينبع من السمة الرسوليّة التي تجعل ما يقول منتسباً إلى جوهر الرسالة التي أتى بها؟ ومن ثمّ فهل كلُّ قولٍ نبويّ أضع يدي عليه يمكنني أن أنسبه إلى المنظومة الدينيّة الأصليّة الثابتة، أو أنّه مع احتمال صدور هذا القول من شخص النبيّ بما هو إنسانٌ أو حاكم أو مجاهد أو غير ذلك ـ لا بما هو حاكٍ عن الله ومخبرٌ عن الدين السماوي ـ فلا يمكنني التسرُّع في نسبته إلى الدين نفسه بوصفه المكلَّف به في حياتي؟

 

ولكي أعيد صياغة القضيّة بشكلٍ آخر نفترض في النبيّ شخصيّتين:

 

الشخصية الأولى: ونسمّيها الشخصية الرسولية أو المرآتية. وهي الشخصيّة التي لا تمثِّل سوى الحاكي والناقل لما أرسل النبيّ لإخباره، وهو الدين نفسه والرسالة نفسها. وفي هذه الشخصية يكون كلّ ما يصدر عن النبيّ طريقاً لمعرفة ما هو الدين، وما تتضمّّنه الرسالة التي جاء بها.

 

الشخصية الثانية: ونسمّيها الشخصيّة الذاتية أو المحمَّدية. وهي الشخصيّة التي تمثِّل النبيّ بوصفه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، لا بوصفه ناقلاً للرسالة. فما يصدر منه ولو كان حقّاً، لكنّه ليس إخباراً عن الرسالة، ولو كان خادماً لها ومنسجماً مع قضاياها.

 

وهذا الفرق يمكن تمثيله بشخصٍ أُرسل إلى آخر ليوصل إليه رسالةً شفويّة مثلاً. إنّ الرسول وهو يقوم بنقل نصّ الرسالة يعبِّر عن الشخصيّة المرآتية التي يمرّ بها المستمع، وصولاً إلى جوهر الموضوع الذي بعثه المُرْسِل صاحب الرسالة ومكوِّنها وصانعها. أمّا عندما ينتهي من نقل الرسالة، ويجلس للمسامرة مع المُرْسَل إليه، ويتحدّثان بأخبار البلاد والعباد، فإنّ ما يقوله هذا الرسول لا يكون من ضمن رسالته التي بُعِث بها، حتّى لو كان المُرْسِل راضياً بما قاله الرسول خارج نقل الرسالة.

 

والسؤال الجوهريّ هنا: هل نعتبر أنّ كلّ ما يقوله الرسول هو رسالة من المُرْسِل إلى أن يثبت العكس؛ أو نعتبر أنّ كلّ ما يقوله يمثِّل فيه نفسه ـ ولو كان صحيحاً ومَرْضيّاً من المُرْسِل ـ، لكنّه ليس مسطوراً في النصوص الأصليّة للرسالة؛ أو لا هذا ولا ذاك؟

 

هذا التساؤل قد نجده في الأدبيّات الدينيّة بصيغةٍ أخرى، وهي: هل الأصل في المعصوم أنّه مبلِّغٌ للدين الإلهي؛ أو أن الأصل فيه عدم ذلك؛ أو أنّه لا يوجد أصلٌ مرجعيّ في المقام أبداً؟

 

وسؤالنا الجوهريّ هنا أو الإشكاليّة العُمْدة لا معنى لهما إلاّ بعد الاعتراف بوجود هذين الجانبين في المعصوم، كما هو محلّ قبول الكثيرين. أمّا لو أصرّ شخصٌ على نفي وجود إحدى الشخصيّتين مطلقاً فمن الطبيعيّ أنّه لا معنى عنده لهذا التساؤل الذي نشتغل عليه هنا. ولهذا، سوف نعتبر أصل معقوليّة الشخصيّتين في النبيّ أو الإمام مصادرةً مفروضة مسبقاً، ونعمل في الجواب عن التساؤل الرئيس، منطلقين من مفروغيّة معقوليّة وإمكان هذه المصادرة.

 

أطروحة أصالة التبليغ في الشخصيّة النبويّة

 

والذي يبدو ـ في مجال الجواب عن هذا التساؤل ـ أنّ التيار السائد في الفكر الإسلامي ـ وعند الإماميّة بشكلٍ أكبر ـ أنّ الأصل في ما يصدر عن النبيّ والإمام هو التبليغ حتّى يثبت العكس. فلو أمر النبيُّ الجيشَ الإسلاميّ بعدم قطع الأشجار، أو أمرهم باسترقاق النساء، فإنّ الأصل أنّ هذا الحكم قد تلقّاه من الله بوصفه جزءاً من الرسالة الإسلاميّة؛ الأمر الذي يعني أنّ بإمكان الفقيه المسلم أن يفتي بحرمة قطع الشجر في الحرب، ناسباً ذلك إلى جوهر الشريعة بوصفه حكماً إلهيّاً.

 

وهذا الأصل يناقض أصالة عدم التبليغ؛ إذ لو قبلناها سيعني ذلك أنّ الأصل في هذه الأوامر النبويّة الموجّهة للجيش الإسلاميّ أنّها تدبيراتٌ صدرت من النبيّ لإدارة وضع الجماعة المسلمة، وأنّ هذه التدبيرات كانت صائبةً ومسدَّدة ومؤيّدة من الله، لكنْ لا بوصفها جزءاً من الدين الذي أرسل به النبيّ، بل جزءٌ من الأداء النبويّ الحقّ في خدمة الدين الذي أرسل به. فالنهج النبويّ يمثِّل درساً لنا، لا الناتج الزمني عن هذا النهج في الفترة الزمنيّة التي مورس فيها سابقاً.

 

لا شَكَّ في أنّه لو قال النبيّ: إنّ الله يأمركم بكذا وكذا، أو جاء نصٌّ يقول: إنّ الله يأمر بأداء الأمانة، أو يقول: شرَّع الله كذا وكذا... فهنا من الواضح أنّ الشخصيّة المرآتية هي الحاكمة، وعنصر الإخبار والتبليغ هو المهيمن.

 

وكذا لو قال النبيّ: بدا لي ـ وأنا أفكِّر بالأمس ـ أن نفعل كذا وكذا، فما رأيكم؟ فإنّه من الواضح أنّه ليس ناقلاً لرسالةٍ، وإنّما هو إنشاءٌ نبويّ. وهذا الإنشاء إذا لم يتعقّبه إمضاءٌ إلهيّ ينسب مضمونه إلى الله، بوصف ذلك جزءاً من الدين، فلن نتمكَّن من نسبته إلى الدين، وإلاّ أمكن ذلك. نعم، قد يجب على المعاصرين للنبيّ طاعته في ما أنشأ بنفسه، لكنْ هي طاعةٌ له بوصفه حاكماً، لا بوصفه مبلِّغاً، والمفروض أنّنا قبلنا بالمصادرة التي تميِّز بين الشخصيّة الرسوليّة التبليغيّة وغيرها.

 

أمّا لو لم يقُمْ شاهدٌ على أحد الطرفين، فما هو الأصل؟ وما الذي يجب علينا اتّباعه هنا اجتهاديّاً؟

 

هنا طرح المشهورُ أصالة التبليغ، أو فلنقُلْ: مارسوها في وعيهم المستكنّ داخل العمليّات الاجتهاديّة؛ إذ من النادر أن نجد حولها بحثاً مركَّزاً بعنوانها في أصول الفقه.

 

التمييز بين أصالة التبليغ وأصالة التأبيد

 

وقبل طرح أو مناقشة قضيّة أصالة التبليغ وأدلّتها لا بُدَّ أن نميّز بين مفهوم التبليغ ومفهوم التأبيد؛ وذلك:

 

 قد يكون الحكم تبليغيّاً، إذن فهو منسوبٌ إلى الله تعالى. ولكنّ ذلك يحتاج إلى بحثٍ في أنّه هل كلّ ما يشرِّعه الله في الإسلام أبديّ أو أنّه قد يشرِّع حكماً أبديّاً وقد يشرِّع حكماً مرحليّاً خاصّاً بظروف عصر النصّ؟

 

هذه هي أصالة التأبيد في التشريع الإلهي. فإذا قلنا بأنّ الأصل في كلّ ما يشرّعه الله أنّه أبديٌّ إلاّ ما خرج بالدليل، كالأحكام المنسوخة، فإنّ أيّ حكم يبلِّغناه النبيّ ينبغي التعامل معه فوراً بوصفه أبديّاً. وإذا رفض شخصٌ هذا الأصل أمكنه القول بأنّ ما جاء في القرآن، أو نقله النبيُّ صراحةً عن الله، ليس من الضروري أن يكون أبديّاً، ومن ثمّ فإثبات الطبيعة الأبديّة له يحتاج إلى دليلٍ.

 

وعليه، فنحن نبحث هنا في أصالة التبليغ وعدمها في الشخصيّة النبويّة. أمّا أصالة التأبيد في الأحكام الإلهيّة فهي بحثٌ آخر، الأمر الذي يلزم بحثه في محلّه مجدّداً. ومن ثمّ فإثبات أصالة التبليغيّة في الأحكام النبويّة لا يساوق ـ منطقيّاً ـ إثبات أصالة التأبيد، تَبَعاً لذلك، إلاّ بفرض البرهنة على الأصالة الثانية بعد الأولى.

 

2ـ قد يكون الحكم نبويّاً غير تبليغيّ، بعد فرض عدم لحوق الإمضاء بعد تشريعه، إمضاءً يُلحقه بواقع الدين، ولكنّ نبويّة الحكم بذاتها لا تعني زمنيّته بالبداهة؛ وذلك أنّ هنا بحثاً في أنّ الأحكامَ السلطانيّة والولائيّة للنبيّ أو الإمام هل هي ـ بحسب طبيعتها ـ أبديّةٌ بافتراض ولايته على الأمّة إلى يوم القيامة، فيلزم طاعتُها، سواء صنَّفناها من أصل الدين أم لا، أو أنّها غير أبدية؟ وهذا يعني ضرورة استئناف بحثٍ آخر في موضوع أبديّة أو زمنيّة الأحكام الولائيّة التدبيريّة؛ إذ قد انتصر بعضُهم لأبديّتها. وقد تعرّضنا لهذا الموضوع في مناسبةٍ أخرى، وأثبتنا أصالة الزمنيّة والتأقيت في الأحكام التدبيريّة (انظر: الأحكام التدبيريّة في السنّة الشريفة بين الزمنيّة والتأبيد، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العددان 38 ـ 39: 5 ـ 10).

 

وهذا كلّه يعني أنّ من الضروري تحديد مركز الكلام في الشخصيّة المرجعيّة للنبيّ أو الإمام؛ حتّى لا تتداخل الموضوعات وتلتبس الأمور.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد