علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (3)

4ـ اعتماد فلسفة الخطاب الديني في ظلّ مفهوم الخاتميّة، تعليقٌ وتقويم

 

الاستناد إلى فلسفة الخطاب الديني في الرسالة الخاتمة الخالدة، وهي فلسفة عقلائيّة، بأن نقول بأنّ النبيّ يخاطب الإنسانيّة إلى يوم القيامة، كما يخاطب أهل عصره. وهذا من مستلزمات افتراضه مُرْسَلاً إلى العالمين، وكون رسالته خاتمة وخالدة. وعليه يُفترض ـ عقلائيّاً ـ أن تكون نصوصُه التي أطلقها خطاباً للأجيال كلّها؛ لأنّه أُرسل للجميع. فاعتبار نصٍّ من نصوصه خاصّاً بفضائه الزمني، وحكماً غير تبليغيّ، هو على خلاف المسار العام لخطّته ورسالته ومشروعه. فلا بُدَّ من فرض ذلك حالةً استثنائية هي التي تحتاج إلى مبرِّر، فإذا لم يتوفَّر لدينا مبرّرٌ لها كان مقتضى الحال الطبيعيّة هو التبليغيّة لعموم الأجيال، ممّا يُنتج العموم الزمكاني.

 

إلاّ أنّ هذا الدليل ـ بغضّ النظر عن كونه يدمج بين مسألة التبليغيّة والتأبيديّة ـ لا يصلح مرجعاً قانونيّاً لنا هنا؛ وذلك أن الأفكار الأصليّة التي اتّسق منها هذا الدليل صحيحةٌ. لكنْ بعد فرض أنّ النبيّ كان ملزماً بخطاباتٍ مرحليّة لأهل زمانه؛ من حيث إنّ هذا الأمر تقتضيه أيضاً طبائع الأشياء، كيف نعرف أنّ نصّاً نبويّاً مشكوك التبليغيّة هو بالفعل تبليغيٌّ؟! فنحن أمام وظيفتين ومسؤوليّتين نبويّتين في الحقيقة، لا مسؤوليّة واحدة:

 

أـ مسؤولية مخاطبة الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة، بمقتضى عموميّة رسالته وخاتميّتها وخلودها.

 

ب ـ ومسؤولية مخاطبة أهل زمكانه، انطلاقاً من أنّه غير قادر ـ عقلانيّاً ومنطقيّاً ـ على تجاهل الظروف الزمكانيّة المحيطة به أيضاً. الأمر الذي يفرض عليه نصوصاً خاصّة بتلك المرحلة؛ لإدارة وضعٍ آنيّ معيّن أو وضعٍ محكوم لظروف ذلك الزمان.

 

فهاتان معاً مهمّتان مترقَّبتان للنبيّ، وتفرضهما القراءة العقلائية العقلانيّة لطبائع الأشياء. ومعه كيف نعرف أنّ هذا النصّ المشكوك صدر من قِبَل مهمّته الأولى أو الثانية؟

 

ولعلّ الاستدلال هنا ينطلق من تصوُّر أنّ عدم الذهاب خلف أصالة التبليغ يساوق بطلان الخلود الثابت للشريعة؛ لأنّ بعض الأحكام لن يمكن إثبات البُعْد التبليغي فيه. وهذا خطأٌ منهجي؛ لأنّ هناك مقداراً واضحاً في بُعْده الخالد في ما جاء به النصّ الديني الإسلامي عموماً، والسؤال: مهما كان هذا البُعْد قليلاً من حيث الكمّ هل هناك دليلٌ على أنّ الشريعة الخالدة هي في حقّ الأجيال اللاحقة أكثر من ذلك؟

 

إنّ الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب هو مصادرةٌ؛ لأنّه يفرض أنّ واقع الفقه اليوم هو الشريعة الخالدة، ويريد تخريجه بمثل: أصالة التبليغ، مع أنّ البحث أسبق رتبةً بكثير من خلود هذه الأحكام الفقهية كلّها. فنحن نريد مرجعيةً قانونيّة تثبت خلودها، لا أنّنا نريد بخلودها المفترَض خَلْقَ مرجعيّة قانونية.

 

وعليه، فهذا الدليل أيضاً غير مقنع.

 

5ـ أدلّة حجّية السنّة ودورها في التوصيف الوظيفي، تأمّلاتٌ نقديّة

 

الاستناد إلى نصوص حجّية السنّة نفسها، ولا سيَّما ما كان من نوع قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾، ودليل التأسّي، ودليل لزوم طاعة النبيّ مطلقاً، وغير ذلك. فهذه النصوص تفيد بإطلاقها أنّ كلّ ما صدر من النبيّ هو واسطةُ بلوغِ الشريعة لنا والدين. وغيرُه يحتاج إلى دليلٍ.

 

والجواب: إنّ أدلّة حجّية السنّة التي تُسعفنا هنا ـ بعد حذف ما هو بالغ الضعف منها، كما توصّلنا إليه في كتابنا «حجّية السنّة» ـ تقع على ثلاثة أنواع:

 

النوع الأوّل: النصوص القرآنيّة وغيرها الدالّة على طاعة النبيّ مطلقاً، والائتمار لأمره، والانتهاء عمّا نهى عنه.

 

وهذا النوع قلنا في محلّه بأنّ بعض نصوصه دالٌّ على حجّية السنّة النبويّة في مجال الطاعة، وهو لا يفيد حجّية السنّة في كلّ ما يقوله النبيّ؛ لأنّ موضوعه الطاعة، وهي لا تكون إلاّ في مجال الأمر والنهي ونحوهما. ولهذا التزمنا هناك بأنّ إطلاقات الأمر بالطاعة تُثبت مبدأ حجّية السنّة في مجال الطاعة.

 

إلاّ أنّ هذا النوع من الأدلّة لا يُثبت تبليغيّة ما يصدر عن النبيّ؛ لأنّ النصّ أمرنا بطاعته، وطاعتُه لا تستبطن اعتبار ما يقوله تبليغاً عمّا أُوحي إليه. تماماً كأمرنا بطاعة وليّ الأمر، فإنّ الطاعة لا تعني أنّ كلّ ما يصدر عن وليّ الأمر فهو تبليغٌ لأمرٍ إلهيّ، بل قد يكون حكماً حكوميّاً أو ولائيّاً أو زمنيّاً صدر لمصلحةٍ شخَّصها النبيّ، لنقوم بفعلها، لا لكون ما أمر به مندرجاً ضمن ما أُوحي إليه بوصفه جزءاً من الدين. فلو أمر النبيُّ المسلمين بالخروج للحرب غرّة شهر ربيع الأوّل مثلاً فإنّ أدلّة الأمر بإطاعته مطلقةٌ تشمل هذه الحال، لكنّ هذا لا يعني أنّ مضمون أمره هذا هو جزءٌ من الدين الذي يقوم بتبليغه، وإنّما نكتشف أنّه جزءٌ من الدين من خلال ثبوت الإطلاق في أمره لجميع الأزمنة والأمكنة، ثم القول بعدم إمكان هذا الإطلاق في أوامره غير التبليغيّة مثلاً. وهذا رجوعٌ إلى دليل الإطلاق الذي تكلَّمنا عنه سابقاً.

 

والحاصل: إنّ الأمر بإطاعة شخصٍ لا يستبطن بالضرورة كون ما يأمر به جزءاً من الدين يقوم بتبليغه لنا، بل هو أعمّ. وعصمة النبيّ تثبت كون المأمور به حقّاً، وهذا أعمّ من كونه جزءاً من الدين. تماماً كحالة مطابقة أمر وليّ الأمر للواقع، فإنّه يكون حقّاً، لكنّ مضمون أمره لا ننسبه إلى الله تعالى بوصفه جزءاً من الدين، وإنْ وجبت طاعته.

 

النوع الثاني: النصوص القرآنيّة وغيرها التي تعتبر أنّ كلّ ما صدر من النبيّ هو وحيٌ من الله تعالى. فكلّ ما يقوله هو وحيُ الله له، فهو يبلِّغ للناس ما أُوحي إليه. وهذا يعني أنّ كلّ ما يصدر عن النبيّ بمقتضى هذه النصوص هو تبليغٌ.

 

وعُمْدة هذه النصوص ـ كما حقَّقناه في (حجّية السنّة) ـ هو آية: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾. وقد قلنا هناك «بأنّ سورة النجم قد وقعت في سياق مخاطبة المشركين الذين يكذِّبون النبي في دعواه النبوّة والقرآن، بقرينة «صاحبكم» و«ضلّ»، كما أنّ تكملة الآيات تشير إلى جبرئيل الذي ارتبط اسمه بنزول الوحي القرآني، لا مطلق ما حصل عليه النبيّ من معلوماتٍ من عند الله تعالى. وهاتان القرينتان تصلحان معاً مقيِّداً لإطلاق «هو» في الآية، ولا أقلّ من أنّهما تمنعاننا عن الأخذ بالإطلاق فيها. وقد ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى ذلك، آخذاً بعين الاعتبار القرينة الأولى. بل إنّ الآيات ـ نظراً لمكّيتها ـ تدور حول الإشكاليّة التي كانت قائمةً في تلك المرحلة، وهي ليست أفعال النبيّ وحجّيتها، بل صدقيّة النبوّة والقرآن...، وبعبارةٍ أخرى: إنّنا نشكّ في «هو»، هل هي راجعةٌ إلى المقدَّر في الآية السابقة عليها، أو أنّها راجعةٌ إلى القرآن؛ لهذه القرائن؟ ومعه نأخذ بالقَدْر المتيقَّن، وهو الثاني؛ انطلاقاً من وجود ما يمنع من التمسُّك بالإطلاق، وإنْ لم يصلح مقيّداً اصطلاحاً...» (حيدر حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 74 ـ 75).

 

وعليه، فالنوع الثاني من الأدلّة لا يفيد أصالة التبليغ أيضاً، بل يلزم لو استندنا إلى هذا النوع من الأدلّة أن نلتزم بأنّ كلّ ما صدر عن النبيّ هو أحكامٌ تبليغيّة لا غير؛ بشهادة النصّ القرآني المتقدِّم. وكثيرون لا يلتزمون بهذا، بل هو مفروض العدم في بحثنا، كما قلنا مطلع الكلام.

 

النوع الثالث: ما دلّ من النصوص القرآنية وغيرها على لزوم التأسّي برسول الله، وأنّه قدوةٌ وأسوة. وهذا يعني أنّها تريد جعله طريقاً لمراد الله تعالى في كلّ ما يصدر عنه، فتكون شخصيّته الرسوليّة المرآتية هي الأصل.

 

ولكنْ يمكن أن يناقش بما حقَّقناه في مباحث حجّية السنّة، من أنّ جعل النبيّ قدوةً وأسوة لا يعني حجّية تمام ما يصدر منه، بل يعني اتّخاذ مساره العام في حياته قدوةً لنا؛ لأنّ كلمة (أسوة) لا إطلاق فيها، لا بمعنى أنّها تصدق بالتأسّي به في موردٍ واحد، كما ذكره مثل المحقّق الحلّي (انظر: نجم الدين الحلّي، معارج الأصول: 119)؛ حيث ناقشناه هناك، بل بمعنى صدق عنوان الأسوة، بجعل مسار حياته العام منهاجاً لنا، ولو لم نأخذ كلّ مورد من هذا النوع؛ فهذا هو الاستخدام العرفي المتيقَّن لكلمة أسوة، وغيره يحتاج إلى دليلٍ.

 

يُضاف إلى ذلك أنّ هذه الآية يتيقَّن منها حجّية الفعل النبويّ. أمّا حجّية القول النبويّ مطلقاً، وكذا التقرير، فيحتاجان إلى قرينةٍ، وعمدة بحثنا هنا في النصوص القوليّة. وبهذا يظهر أنّ دليل حجّية السنّة لا يؤسِّس أصالة التبليغ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد