6ـ نفي الاجتهاد النبويّ وتأصيل الوَحْييّة، نقدٌ مبنائي
الاستناد إلى جميع الأدلّة التي تنفي اجتهاد النبيّ مطلقاً، وهذا معناه أنّ النبيّ في كلّ ما يقول ويعمل يصدُر عن وَحْيٍ إلهيّ، لا عن اجتهادٍ بشريّ. وقد استعرضنا في محلّه بالتفصيل أدلّة منع الاجتهاد النبويّ، وذكرنا أكثر من خمسة عشر دليلاً عقليّاً وقرآنياً و... على منع الاجتهاد النبويّ. وكلُّها تصبّ في صالح إثبات أنّه ما من شيءٍ يصدر عن النبيّ إلاّ وهو عبر وحيٍ أو اتصال مباشر بالله تعالى ورسله المقرَّبين. وهذا ما يُثبت أصالة الوحي والتبليغيّة.
والجواب: إنّ جميع الأدلّة التي سيقَتْ لمنع مطلق الاجتهاد النبويّ قد ناقشناها بالتفصيل في محلِّه، بل إنّنا قلنا بأنّ أدلّة تجويز الاجتهاد النبويّ وإنْ كان أغلبها ضعيفاً، لكنّ بعضها مفيدٌ ونافع. ولهذا خرجنا هناك بقاعدةٍ تقول: إنّ كلّ ما لم نفهم منه جانب الإخبار النبويّ عن الوحي الإلهي أو الدين فهو خاضعٌ لقانون الاجتهاد النبويّ، حتّى لو قلنا بعصمة هذا الاجتهاد؛ فإنّ العصمة شيءٌ وكون ما يقوله هو تبليغ عن الله تعالى لدينه حَصْراً شيءٌ آخر، على ما بيَّناه أيضاً (انظر: حيدر حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 369 ـ 501). ومعنى ذلك أن نرجع في غير ما ثبت أنّه تبليغٌ إلى مقتضى طبيعة الأشياء من كون النبيّ بشراً يفكِّر ويجيل النظر، وأنّه في ما يقول ويفعل يمارس تطبيقه الزمني للدين. ومهما فرضناه معصوماً في ذلك، إلاّ أنّه في نهاية المطاف لا يحكي ـ بالضرورة ـ عن جزءٍ من أجزاء المنظومة الدينيّة الموحاة إليه.
7ـ مرجعيّة التلقّي الإسلاميّ الأوّل، تفكيك الظاهرة وتحليلها
السيرة المتشرِّعية والارتكاز الإسلاميّ العام؛ حيث يظهر من سيرة المسلمين منذ العصر النبويّ وإلى يومنا هذا أنّهم يتعاملون مع نصوص النبيّ على أنّ الأصل فيها أنّها تبليغٌ من الله، وينسبونها إلى شريعة الإسلام في كلّ ما يقوله أو يفعله. وهذا خيرُ دليلٍ على أنّ التلقّي الإسلامي الأوّل كان على أصالة التبليغيّة. وعلى هذا سار الأئمّة والعلماء فيما بعد، كما يظهر منهم، ومن بينهم أئمّة أهل البيت النبويّ أنفسهم.
هذا الدليل قد يُعَدّ ـ عند بعضٍ ـ من أقوى الأدلّة في موضوعنا. وعلينا أن نتوقّف عنده قليلاً، لنتوجّه إليه ببعض الأسئلة الأوّلية في البداية:
1ـ ما هو الدليل على أنّ مسلمي القرن الهجري الأوّل كان لديهم هذا التلقّي؟ وما هي حدوده؟
2ـ هل يمكن أن ينشأ هذا التلقّي من طبعٍ إنسانيّ غالب، لا من أصلٍ ديني مقرّر؟
3ـ هل يُحْتَمل أنّهم لم يجدوا فرقاً بين زمنهم وزمن النبيّ، حتّى يؤثر ذلك في شعورهم بوقف تنفيذ الحكم النبويّ أو لا؟
4ـ هل أنّهم كانوا يُجْرون أصالة التبليغ، أو كانوا على يقينٍ بأنّ هذا الموقف أو ذلك هو جزءٌ من الدين، ومن ثمّ لم يقعوا في مرحلتهم الزمنيّة في شكٍّ؟
هذه هي الأسئلة الأربعة الأساسيّة التي يلزم أن نجيب عنها هنا بالتدريج:
أمّا السؤال الأوّل فالذي يبدو من بعض النصوص أنّهم كانوا يتعاملون مع النبي بتمييزٍ بين ما جاء به من الله وبين ما كان من عنده، كما في حادثة معركة الأحزاب. بل إنّ الحوادث والنصوص التي يصنِّفها الكثير من الشيعة طَعْناً في بعض الصحابة في تعاطيهم مع النبيّ قد يمكن فهم بعضها لا في سياق الطعن، وإنّما في سياق وجود تمييز عند الصحابة في شخصيّة النبيّ بين ما يأتيه من الله تعالى وما يكون من نفسه. فأصل هذه الفكرة توحي به بعض النصوص التاريخيّة التي أشَرْنا إلى قسمٍ منها في مباحث اجتهاد النبيّ أيضاً. وهذا هنا أشبهُ شيءٍ بحال المكلَّفين اليوم، من حيث إنّ ما يقوله المرجع في الشأن الفقهي يرَوْنه جزءاً من الدين، كما في مثل ما يأتي في رسالته العمليّة. بينما الذي يقوله في مجال التشخيص أو غيره لا يعتبرونه جزءاً من الدين، حتّى لو اتّبعوه فيه. فهذا الوعي لا يوجد ما ينفي كونه كان موجوداً في العصر النبويّ، بل الشواهد لصالحه.
لكنّ ظهور النبيّ، وتغييره عادات كبيرة، وخلقه نَمَطاً جديداً من العيش، دفع المسلمين إلى تمثُّل شخصيّته، والأخذ بكلّ ما يقول، باعتبار ذلك أصلاً ومرجعاً. ولهذا وجدناهم يحتجّون على بعضهم بعد وفاته بكلامه وأفعاله. وهذا يؤكِّد أنّهم كانوا يعتبرون ما يصدر عنه مرجعاً يحتجّون به. وعليه يمكننا الجزم بأنّ الأجيال الأولى تلقَّتْ التجربة النبويّة بوصفها مرجعاً من حيث المبدأ، لكن ليس مرجعاً تبليغيّاً بالضرورة.
وأمّا السؤال الثاني فإذا أثبتنا أنّ هذا التلقّي العام (المستدلّ به في أصل هذا الدليل) الذي كان محيطاً بالنبيّ وبُعَيْده قد كان تطبيقاً لتوجيهٍ إلهيّ في هذا الصدد ثبت المطلوب، وإلاّ فإنّ نفس سكوت القرآن والسنّة عن التنبيه على خطورة هذا التلقّي كاشفٌ عن صحّته، حتّى لو نبع هذا التلقّي من طبعٍ إنسانيّ غالب؛ فإنّ أمراً بهذا الحجم من الخطورة كان يُفْتَرض النهي عنه، مع أنّنا قد نجد مؤيِّدات له. ولمّا لم نَجِدْ نهياً دلّ ذلك على أنّ الدين يرضى بهذا التلقّي.
لكنْ قد يُقال بأنّ النصوص التي تحدَّثت عن الأنبياء تصبّ كلّها في صالح خلق القرآن لوعيٍ آخر مختلف حولهم، يفرض التمييز بين أدائهم الشخصي وتبليغهم، ولو كان تمييزاً من حيث المبدأ؛ فنصوص: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾، و﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، وغيرها، تركِّز في الوعي الإسلاميّ أنّ النبيّ يتصرَّف في غير ما يعلن ويوحي بأنّه تبليغٌ إلهيّ بوصفه إنساناً له طريقته في العمل، التي قد يلفت الله نظره إلى وجود طريقةٍ أفضل منها، وهو لم يكن ملتفتاً، وخاصّة في الموضوعات الخارجيّة والتشخيص الميداني، الذي قد ناقش بعض المسلمين في وجود دليلٍ حاسم على العصمة والعلم فيه.
وأمّا السؤال الثالث فلا يمكننا أن نستبعد فرضيّة أنّ المسلمين لم يشعروا بفرقٍ بين عصرهم وعصر النبيّ حتّى يوقفوا مضمون التوجيهات النبويّة بحجّة أنّها غير تبليغيّة، ولا سيَّما في تلك الفترة التي لم تشهد تحوُّلات كبرى في أنماط العيش. ومعنى ذلك أنّ مسلمي الصدر الأوّل والقرن الهجريّ الأوّل عندما تلقّوا النصوص النبويّة لم يكن يعنيهم كونها جزءاً من الدين أو لا، بقدر ما كان يعنيهم كونها ملزمةً لهم أو لا؟ (وخاصّة بالنسبة إلى الشيعة الذين يمكن أن يكونوا اعتمدوا في ذلك على حالةٍ من إقرار الأئمّة ببقاء تلك الأوامر النبويّة فاعلةً؛ لبقاء موضوعها وظروفها، مما يمنحها قابليّة الاستمرار، مع المحافظة على ولائيّتها وعدم تبليغيّتها؛ لأنّ الولائيّة في مرحلة الاستمرار جاءت من موقع حاكميّة الإمام نفسه).
والفرق بين الحالتين أنّه في الحالة الأولى هم يأخذون ما صدر عن النبيّ بوصفه جزءاً من الدين، ويقومون بتطبيقه أو تلقّيه على هذا الأساس في أزمنتهم اللاحقة. أمّا في الحالة الثانية فهم لا يهتمّون لكون الصادر عن النبيّ هو جزءٌ من الدين أو لا، بل يعتبرون أنّ الظروف واحدة، ومن ثم فتشخيص النبيّ وموقفه يظلّ هو المتعيِّن أو الأرجح بالنسبة إليهم، نظراً لما يتمتَّع به النبيّ من صفاتٍ، ولكون تشخيصه وما صدر عنه بشريّاً في هذه الظروف أو تلك لم يَرِدْ فيه ردعٌ إلهيّ، ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون الأداء النبويّ مرجعاً لهم يترجَّح على تشخيصهم المظنون بعد وحدة الظروف. ويشهد لذلك أنّنا رأيناهم ـ كما عند مدرسة أهل الرأي والمصلحة ـ يتَّجهون نحو تغيير بعض ما صدر عن النبيّ عندما يجدون الظروف قد تحوَّلت، ولا ينتقد عليهم أحدٌ ـ في تلك الفترة ـ بأنّ ذلك تغييرٌ لشرع الله تعالى، عدا في مواضع محدودةٍ جدّاً.
الفكرة التي أريد التركيز عليها تكمن في تحليل طبيعة تلقّيهم للتجربة النبويّة القريبة جدّاً من زمنهم، والمتّحدة غالباً مع ظروف حياتهم. إنهم هنا لا ينظرون بالضرورة إلى اعتبارها بكلّ أجزائها جزءاً من الدين، ولا يفكِّرون في هذا؛ لأنّهم غير مضطرّين إليه، بل يهمّهم اعتبار ما أفرزته هو الموقف السليم في التعامل مع الأمور في ظروفهم المشابهة للظرف النبويّ. وسلامة هذا الموقف عندهم لا تنبع بالضرورة من دينيّته ووحييّته، بل قد تنبع من رجحان التشخيص النبويّ وهيبته ونفوذه الروحي بعد النجاح الذي حقَّقه، ووحدة ظروفه الموضوعيّة مع ظروفهم.
وهذا أمرٌ يحصل في مختلف الحركات الدينيّة والتغييريّة الكبرى، فإنّ الأجيال اللاحقة للجيل المؤسِّس تشعر بصواب الاعتماد على تجربة جيل التأسيس، لا بوصفها جزءاً من النظريّة ـ الأصل (الثابت)، بل بوصفها تجربةً ناجحة، هي الأرجح ما لم تتغيَّر الظروف. فعندما تتغيَّر الظروف قد يغيِّرون، الأمر الذي يحتمل أنّ الصيغة السابقة له كانت جزءاً من المشروع، كما يحتمل أنها لم تكن جزءاً منه، وإنّما هي إفرازٌ طبيعيّ زمني له على مستوى التطبيق. نعم، بعد مرور جيلين أو ثلاثة تبدأ فكرة المرجعيّة بالتبلور.
وأمّا السؤال الرابع فلا نملك أيّ معطىً يتّصف بالقطعيّة والحسم يؤكِّد لنا أنّهم لو شكّوا في أنّ هذا النصّ أو ذلك جزءٌ من الدين أو لا فإنّهم يرجعون إلى أصالة التبليغيّة عندهم في ظرف الشكّ، إنْ لم نقُلْ بأنّ بعضهم كان أكثر ميلاً لعدم هذه الأصالة.
وعليه، فالسيرة الإسلاميّة لا تشكِّل معطىً حاسماً هنا، في غير كون سنّة النبي حجّةً ومرجعاً في الجملة، ومن حيث المبدأ. وأمّا أنّهم في العقود الأولى كانوا يرَوْن كلّ ما يقوله النبيّ تبليغاً لوحيٍ إلهيّ، فهذا غير ثابت، ولا سيَّما بعد نصوص القرآن الواضحة في الكشف عن مواقف نبويّة تدخَّل القرآن في توجيه حركتها نحو الأفضل؛ فإنّ من شأن هذا الرسم القرآنيّ لشخصيّة النبي وعامّة الأنبياء ـ أو على الأقلّ يحتمل فيه ـ أن يحفر في الوعي الإسلاميّ الأوّل صورةً أخرى غير ما نحن فيه.
نتيجة البحث
وحصيلة الكلام في أدلّة أصالة التبليغ أنّه لم يقُمْ دليلٌ قاطع على أصالة التبليغ في النصوص النبويّة، فضلاً عن نصوص الصحابة وأهل البيت النبويّ. وهذا يعني أنّ الاجتهاد الشرعي عندما يمارس فهمه للنصوص غير القرآنيّة فعليه أن يضع معايير تبليغيّة النصّ الصادر؛ فإذا أمكنه التأكّد، من قرائن اللفظ والمقام والسياقات ومناسبات الحكم والموضوع، ومن قرائن الداخل والخارج، أنّ النصّ أراد تبليغ حكمٍ إلهيّ صار بالإمكان نسبة هذا الحكم إلى الله تعالى بوصفه جزءاً من دينه الذي بلّغه النبيّ؛ وإلاّ فاللازم التوقُّف في نسبته إلى الدين، حتّى لو كان واجبَ الطاعة بملاكٍ آخر.
وهذا هو المستند الرئيس لأطروحتنا في إعادة فهم التجربة النبويّة بأفعالها وأقوالها ومواقفها. وهو فهمٌ نزعم أنّه نتيجةٌ طبيعيّة لمنطق الأشياء. فالمسلمون ملزمون بالتعامل مع النبيّ، لكنْ ما يصدر من النبيّ تارةً يكون بياناً لما هو الدين الذي جاء به؛ وأخرى يكون وضعاً طبيعيّاً للأداء النبويّ خارج إطار الديانة المبلَّغة، لكنّه منسجمٌ مع روحها وأهدافها من حيث المبدأ. نعم، هذه التجربة التي تقع خارج الإطار يمكن أن نستلهم خطوطها العامّة ومساراتها ومؤشّراتها وآليّات العمل بها، بوصف ذلك كلّه مُلْهِمَات لنا يُقتدى بها بوصفها نهجاً، لا مفردات، انطلاقاً من الأمر الإلهيّ لنا بأخذ التجربة النبويّة أسوةً.
وبذلك نحصل في ما أتانا به النبيّ على أمرين:
1ـ الرسالة التي بُعث بها. وهذا هو الجانب التبليغيّ والرسوليّ.
2ـ أداؤه البشريّ وتجربته الإنسانيّة خارج إطار التبليغ، في ممارسة حياته، وفي إدارته لواقع الدين في الحياة.
أمّا الجانب الأوّل فنأخذه بحرفيّته، بعيداً عن قضيّة التاريخيّة.
وأمّا الجانب الثاني فنأخذه بوصفه قدوةً، لا بوصف ما أفرزه عبارةً عن أحكام شرعيّة؛ فالقدوة في النهج والمسار والكلّيات، لا في مصاديق هذا النهج.
هذا جانبٌ من فهمنا للشخصيّة التي يتحلّى بها المعصوم، وكيفيّة استنطاقها، نطرحه ـ باختصارٍ ـ للتداول. والعلم عند الله سبحانه.
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد صنقور
محمود حيدر
حيدر حب الله
الشيخ شفيق جرادي
السيد عادل العلوي
الشيخ مرتضى الباشا
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
الرضا (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ مناقشة في الإطلاق (2)
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (3)
الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (4)
توقيع ثلاث روايات لثلاث كاتبات في الدّمّام
حديث حول أسرار النّجاح في العلاقة الزّوجيّة
رحيل النّبوّة: بسملة رزايا فاطمة
(قلوب عمياء في وسط صمتهم) جديد الكاتبة ولاء الشيخ أحمد
إدارة سلوكيّات الأطفال، محاضرة للمدرّب آل عبّاس في برّ سنابس
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (2)