علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (3)

ميتافيزيقا الاستفهام

 

نقصد بكلامنا على “السؤال المؤسِّس”. ذات الذي يؤسَّسُ منه وعليه فهم الوجود كوجود بالذات، والتعرُّف على الموجود بما هو موجود. ما يعني أن حقيقة التأسيس في هذا السؤال مبنيَّة على تلازم وطيد بين الأنطولوجيِّ (علم الوجود) والفينومينولوجيِّ (علم ظواهر الوجود). أمَّا جلاء هذه الحقيقة فلا يتأتَّى من التشطير بين المرتبتين، وإنَّما من التجانس والانسجام بينهما، حيث يكون السؤال مطابقًا لكلِّ مرتبة وجوديَّة بقَدَرِها.

 

وما كنَّا لنتطلَّع إلى سؤال يؤسِّس ويفتح على بدءٍ جديد، إلا لإخفاق الميتافيزيقا في الإفلات من عالم الممكنات. فالأسئلة الناشئة من هذا العالم والمشدودةُ إليه هي أسئلة تتبدَّد تبعًا لتبدِّد موضوعاتها. أمَّا السؤال المؤسِّس فسمْتُه الأصالة والامتداد ومجاوزة الممكنات العارضة. ذلك رغم الاعتناء بها من جهة كونها ممرًّا ضروريًّا الى متاخمة المطلق. هو إذًا سؤال جوهريٌّ أصيل ولا يتبدَّد لأنَّه موصول بالَّلامتناهي. لأنَّه بالمطلق يكتسب السؤال المؤسِّس القدرة على التأسيس للمابعد. حيث لا يحد من تجدُّده وديمومته تعاقب الزمن الفيزيائيِّ مهما تنوَّعت موضوعاته وتكثَّرت أحداثه.

 

والسؤال المؤسِّس يرقب كلَّ سؤال يأتي من بعده. يعاينُه ويعتني به ويسدِّدُه. والأثر المترتِّب على المعاينة والاعتناء والتسديد لا يقتصر على نتائج المراقبة والفحص لجهة صوابها أو خطأِها، وإنَّما في معرفة صواب وخطأ السؤال نفسه. أي أنَّ المؤسِّس يعاين حصاد عمله في ما هو يعتني بكلِّ سؤال فرعيٍّ ويختبر جدواه. فلو جاءت النتيجة، على سبيل المثال، باطلة، ذلك يعني أن السؤال نفسه يحمل في داخله علَّة بطلانه. إنَّها طريقة عمل السؤال المؤسِّس التي تتوسَّل حكم الواقع لا حكم القيمة.

 

تبعًا لهذه الطريقة لا أحكامُه متعلِّقة بخيريَّة مقاصد الفكرة أو حسن طويَّتها، وإنَّما بالظرف الزمانيِّ والمكانيِّ التي ولدت فيه. وهو ما تشير إليه القاعدة التالية: إنَّ حقَّانيَّة كلِّ استفهام تعود إلى التناسب بين لحظة صدوره والَّلحظة التي يستجاب له فيها. على سبيل المثال، لو أخذنا بفكرة ما لنصنع منها حدثًا تاريخيًّا، فإنَّ سريانها في الواقع من أجل أن تحقِّق غايتها لا يتوقَّف على مشروعيَّتها الأخلاقيَّة فحسب، وإنَّما أيضًا على تناسبها مع أوان ظهورها، أي على توفُّر الشروط الزمانيَّة والمكانيَّة المناسبة لماهيَّتها وأصلها. فالفكرة التي تظهر في غير أوانها لا تبطل فقط لأنَّ الظروف لم تكن ناضجة لولادتها الطبيعيَّة، وإنَّما لخلل في ذات الفكرة نفسها. فالسؤال المؤسِّس بصير بظروف الزمان والمكان، يستدلُّ ويدلُّ، يستهدي ويهدي، يدبِّر الفكرة ويرعاها بعقل صارم، ولا يهمُّه حُسن مظهرها وقوَّة جاذبيَّتها.

 

والفكرة التي تستثير دهشة سائلها وحيرتِه، هي وليدة ظرف زمانيٍّ ومكانيٍّ محدَّد. لهذا السبب تروح تُفرغ كلَّ طاقتها ضمن هذين الظرفين ولا تتعدَّاهما. فإنَّما هي محكومة بوعي تاريخيٍّ معيَّن تستجيب له وتنتهي بانتهائه. وعليه، فإنَّ للأفكار بَدءًا وختامًا، ومبتدأ وخبرًا. وهي ككلِّ العوالم تولد وتعيش ثمَّ تشيخ وتؤول إلى الانتهاء. ولأنَّها متعلِّقة بزمان حدوثها وجغرافيَّته كان لكلِّ فكرة مكان تولد فيه وتنمو حتى تؤدّي الغاية من ولادتها.

 

والسؤال المؤسِّس محيط بمبتدأ الأفكار وخواتيمها. ومتبصِّرٌ في مسار زمن الكائن الإنسانيِّ ومآلاته. من أجل ذلك، كان له أن يحظى بمكانة أصيلة في علم الإلهيَّات وفي فلسفة التاريخ. وهذه المكانة متأتّية من توفُّره على تكوين ذاتيٍّ يمكِّنه من متاخمة الوجود بحاضريَّتيه المطلقة والنسبيَّة. ولذا فهو سؤال أصيل التناسب بين لحظة صدور الفكرة وزمن تحقُّقها في واقع محدَّد. على حين أنَّ تحويل الفكرة إلى حدث هو أمرٌ غير مرهون فحسب برغبة السائل والميقات الذي يحدِّده لتلقّي الجواب وإنَّما يعود إلى ما تقرِّره روح الزمن التي تحدِّد الوقت الأنسب لمثل هذا التحويل. فلكي يكتمل السؤال المؤسِّس وينجز ذاته سيكون على سائله أن يبذل جهدًا مضنيًا للعثور على ما يؤسِّس لآفاق الفكر وما يوقظ التاريخ من كسلِهِ ووهنه، وكذلك ما يحمل على التساؤل عمَّا يحتجب أو يتعذَّر فهمه.

 

العثور على استفهام يؤسِّس للآفاق فعل مبدع. فهو إمَّا أن يكون استئنافًا ليقظة بعد إخفاق، وإمَّا أنَّه بدءٌ مستحدث غير مسبوق بنظير. وفي كلا الحالين يحتاج الأمر إلى استراتيجيَّة مسدَّدة بجميل الصبر. فلا شيء يقوى على الزمن وما يكتظُّ به من أسئلة قهريَّة سواه. ولو شئنا أن نجعل الصبر منهجًا لأقمناه في فضاء يتعدَّى زمان الصابر ومسكنه. فبذلك يستطيع من اتَّخذ سيريَّة الصبر دُربةً له أن يتلقَّى الجواب من دون أن يستيئس، أو أن ينال منه ضيق الصدر. والصبر مقولة زمانيَّة لا يستطيع السؤال المؤسِّس أن يحظى بأهليَّة التأسيس إلَّا بتدبُّرها. ذلك بأنَّ جلاء كلِّ غامض أو مجهول، سواء في عالم المعقولات المجرَّدة أم في عالم الممكنات الحسّيَّة، يلزمه عزم دؤوب على احتواء الزمن.

 

وعليه، فإنَّ شرط إنجاز السؤال المؤسِّس نفسه، هو في تمكُّنه من السيطرة على زمن الاستفهام عن الكينونة وما فيها. أمَّا لو تعجَّل السائل تحصيل الجواب على ما سأل بقي سؤاله ناقصًا. ففي هذه الحال لا يعود يتسنَّى للسائل أن يعقد ميثاقًا مع المجيب ليأتيه بالإجابة. والإجابة المأمولة تمكث هنالك في مكان ما من المقبل، فمتى آنت مدَّتها أقبلت نحو طالبها كأنَّما تجيء إليه من هيكل الكمال الأبديّ. السؤال الذي كمُلَت عناصره وصار أهلًا للتأسيس جوابُه كامن فيه من قبل أن يظهر إلى العلن. ولأنَّ العلاقة بين السؤال والجواب هي علاقة إيجاد وتبادل، فإنَّ مقوِّمات السؤال المتشكِّلة من ضرورات الَّلحظة ومن وعي السائل بها، هي ما تجعل كلَّ سؤال فرعيٍّ على عهد وثيق بالسؤال المؤسِّس. ولهذه العمليَّة التبادليَّة لها زمانها الوجوديُّ الخاصُّ؛ حيث يتعرَّف السائل على ما يسأل عنه بواسطة السؤال نفسه. أي بالسؤال الذي ينضج ويكتمل قوامه بصبر المتدبِّر على المطلوب.

 

كان الفيلسوف الألمانيُّ فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756- 1841) (وهو أحد أهمِّ فلاسفة عصر المثاليَّة الألمانيَّة) يتحدَّث عن المبدأ الذي يؤسِّس ويؤسَّس منه وعليه. وقد قارب موضوعه الشائك على نحو فارق فيه معظم فلاسفة الحداثة من ديكارت مرورًا بكانط وصولًا إلى هيغل ومن تبعهم[1].

 

تبتدئ الفلسفة عند بادر بالسؤال عن الذي يؤسِّس بنية الكينونة والتفكير. ويقصد بذلك المبدأ الأساسيّ الذي يُحدث الكينونة ويؤيّدها ويرعاها. هذا المبدأ يجيء إثر النسيان الذي اقترفته الميتافيزيقا الأولى بحقِّ الوجود ثمَّ سرى بالوراثة إلى أزمنة الحداثة. وهو يذكّر بهذا المبدأ الذي يخلق ويؤسِّس ويدعم في الوقت نفسه. هو عنده أكثر من مجرَّد سبب أوَّل، أو محرّك أول كما وصفه أرسطو مثلًا. فعندما يكون الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد مؤسِّسًا فبديهيٌّ أن يكون هو الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد. فالمحدِث والمؤسّس الأول لا يمكن أن يُحدث ويؤسّس غيره من قبل أن يُحدث ويؤسّس نفسه أولًا. ومن خلال كونه مؤسِّسًا لذاته فقط، يمكن لذاتيّ التأسيس أن يؤسّس.

 

لقد رأى أنَّه لا يمكن لسببيَّة أُولى لا تكون مؤسَّسة بذاتها أن تكون سببيَّة أُولى. وأيُّ تفكير لا يكون تفكيرًا نابعًا من ذاته وواعيًا لذاته وللغير، لا يمكن أن يكون مؤسِّسًا ومُحدِثا للتفكير والوعي. فالسببيَّة الأولى سببيَّة أولى لأنَّ الإحداث يعني التأسيس بالذات، والتفكير بالذات والوعي بالذات. وإنَّ هذا الإحداث للذَّات وإنشاء الذات لا يمكن أن يحدث بأيِّ شكل في العالم المتناهي، وإنَّما في حياة الحقيقة الإلهيَّة الَّلامشروطة والأزليَّة والتي لا بداية لها[2].

 

فالمبدأ المؤسِّس بحقٍّ هو الذي يولِّد المعرفة وكلَّ ما يتعلَّقبها. ذلك بأنَّ المعرفة المطلقة والخالقيَّة المطلقة تتماهيان في المبدأ. أي مطابقة روح السؤال مع روح الاستجابة. وبذلك يكون المبدأ المؤسِّس للسؤال المؤسِّس مبدأ حقانيًّا، يتاخم الأبديَّة ويرعاها بقدر ما يفيض على الزمان الطبيعيِّ ويرعى أحقابه المتفاوتة في ضعفها وشدَّتها. لذلك فإنَّ من السمات الجوهريَّة للمبدأ المؤسِّس هو التنبيه إلى أن تماهي الذات والموضوع في العقل الواعي لذاته يفضي إلى إدراكهما معًا بحيث يدرك عندما يُحدِث. وعندما لا يكون وعي الذات تماهيًا أزليًّا بين الذات والموضوع لا يكون تماهياً حقيقياً؛ لأن التماهي بين ما يُحدِث وبين ما يُحدَث، والتماهي بين ذات وموضوع الوعي الذاتيِّ الذي لا ينشأ إلَّا في الزمن، ليس تماهيًا، بل هو تعاقب وإلغاء للفوارق. وهذه المعرفة الَّلاأوليَّة أو الثانويَّة هي معرفة ذاتيَّة لكلِّ عقلٍ متناهٍ.

 

والعقل المتناهي لا يؤسِّس ولا يحدِث نفسه، ولا يُعرف إلَّا بكونه معروفًا من الروح المطلق الذي أحدثه. أمَّا النتيجة التي يتوصَّل إليها فون بادر فهي التنظير لنظريَّة معرفة تقوم على الوصل بين الموجود والواجد، وعلى رعاية المبدأ المؤسِّس للموجودات بحيث لا يغادرها قيد أنملة: وبناء على هذه النتيجة يصبح كلُّ تفكير ذاتيٍّ للموجود المحدود مفكَّر فيه، ويعرِف بمعرفته أنَّه مفكَّر فيه في الوقت نفسه.  بذلك يكون بادر أول من أماط الِّلثام عن الخلل العرفيِّ في ذاتيَّة الكوجيتو الديكارتيِّ، على أساس أن “الأنا أفكر” (الكوجيتو) هي دائمًا في الوقت نفسه «أنا مفكّرٌ فيّ إذا أنا أفكٍّر (cogitor ergo cogito)[3].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – Franz von Baader، Schelling، Paderborn 7115; Emmanuel Tourpe, L’Audace théosophique de Baader: premiers pas dans la philosophie religieuse de Franz von Baader (5671- 5485), Paris 7115.

[2] – See. Franz von Baader، Über das Verhältnis des Wissens zum Glauben، in SW I، p 185; Vorlesungen über spekulative Dogmatik (abbr. VD)، in: SW، Vol. VIII، 115; Erläuterungen zu sämtlichen Schriften von Louis Claude de Saint-Martin (abbr. E)، in SW، Vol. XII، p. 714، 178-171 and others.

[3] – IPID, P. 179.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد