السيد محمد باقر الصدر ..
كيف تعالج المشكلة ؟
والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ :
أحدهما : أن يبدّل الإنسان غير الإنسان ، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة ، ومكاسب حياته المادّية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه ، مع إيمانه بأنّه لا قيم إلاّ قيم تلك المصالح المادّية ، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة . وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع من صميم طبيعته حبّ الذات ، وأُبدل بحبّ الجماعة ، فيولد الإنسان وهو لا يحبّ ذاته إلاّ باعتبار كونه جزءاً من المجتمع ، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه إلاّ بما أنّها تمثّل جانباً من السعادة العامّة ومصلحة المجموع ؛ فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنة ـ حينئذٍ ـ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلّباتها بطريقة ميكانيكية وأُسلوب آلي .
والسبيل الآخر الذي يمكن للعالّم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها هو : أن يطوّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة ، وبتطويره تتطوّر طبيعياً أهدافها ومقاييسها ، وتتحقّق المعجزة ـ حينئذٍ ـ من أيسر طريق .
والسبيل الأوّل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها ، ويَعِدون العالم بأنّهم سوف ينشئونها إنشاءً جديداً ، يجعلها تتحرّك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها . ولأجل أن يتمّ هذا العمل الجبّار يجب أن نوكل قيادة العالم إليهم ، كما يُوكل أمر المريض إلى الجرّاح ، ويُفوَّض إليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوج منها . ولا يعلم أحدٌ كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جرّاح . وإنّ استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي ، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة ، وسلب منها أخيراً كرامتها ، وامتصّ دماءها ؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون .
والفكرة في هذا الرأي القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حبّ الذات ؛ فإنّ الماركسية تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلاً طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية ؛ فإنّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصّة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية . فإذا حدثت ثورة في الأُسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي ، وحلّت الملكية الجماعية والاشتراكية محلّ الملكية الخاصّة ، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان ، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية ، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها ، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية ، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها .
والواقع : أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات ، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات) ، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب . وإلاّ فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها ؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي ، لَمَا أوجد هذه التناقضات ، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي . ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟!
فالحقيقة : أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات . فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار ؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأُخرى قد تختلف في الشكل والصورة ، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة .
أضف إلى ذلك : أنّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً ـ بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي ، كظاهرة الملكية الخاصّة ـ كما صنعت الماركسية ، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة ؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي ، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها ، فهناك ـ مثلاً ـ ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي . فإنّ النظام الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج ، غير أنّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها ؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة . فالنظام الاشتراكي يحتفظ ـ إذن ـ بظواهر فردية بارزة ، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي ، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار ، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة .
وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة (السبيل الشيوعي) الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلاً وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان .
وأمّا السبيل الثاني ـ الذي مرّ بنا ـ فهو الذي سلكه الإسلام ؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة . فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله ، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة ، ووضع للحياة مفهوماً جديداً ، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ، بل وضع لكلّ منهما حقوقه ، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً . فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة ، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية ؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي : النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحسّاب من شيء ، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط .
إنّ الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام ، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته ، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصّة في ذاتها ؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ـ ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي ، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة ، بل إنّ مردّ الفشل والوضع الفاجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام إلى مفاهيمها المادّية الخالصة ، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.
فلابدّ إذن من معين آخر ـ غير المفاهيم المادّية عن الكون ـ يستقي منه النظام الاجتماعي ، ولابدّ من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ، ويتبنّى القضية الإنسانية الكبرى ، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية . وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالَم ، واكتساحه لكلّ وعي سياسي آخر ، وغزوه لكلّ مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية ... يمكن أن يدخل العالَم في حياة جديدة مشرقة بالنور عامرة بالسعادة .
إنّ هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي في العالم ، وإنّ هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدّت نظامها الاجتماعي ـ المختلف عن كلّ ما عرضناه من أنظمة ـ من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون .
وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان إلى حياته ، فجعله يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال ، وأنّها إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء ، ونصب له مقياساً خُلُقياً جديداً في كلّ خطواته وأدواره ، وهو : رضا الله تعالى . فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز ، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو محرّم وغير مستساغ ، بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو : الرضا الإلهي . والمقياس الخُلُقي الذي توزن به جميع الأعمال إنّما هو : مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدّس . والإنسان المستقيم هو : الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف . والشخصية الإسلامية الكاملة هي : الشخصية التي سارت في شتّى أشواطها على هدي هذا الهدف ، وضوء هذا المقياس ، وضمن إطاره العامّ .
وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية وإنشاءها إنشاءً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية ، فحبّ الذات ـ أي : حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة ـ طبيعي في الإنسان ، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانيّة في تأريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حبّ الذات ، بل لو لم يكن حبّ الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأوّل ـ قبل كلّ تكوينة اجتماعية ـ إلى تحقيق حاجاته ، ودفع الأخطار عن ذاته ، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده ، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين ؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار ، ولَمَا كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع من طبيعة الإنسان . فأيّ علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة ، وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها ، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان .
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)