تمهيد:
تشتغل هذه الدراسة على تظهير حقيقة شديدة البداهة في حقل العلاقة بين الأمر الديني والشأن الفلسفي في منظومة ملَّا صدرا. الداعي إلى ذلك يعود أولاً، إلى الجدل المستأنف في الفلسفة المعاصرة حول ثنائيات الغيب والحضور، والعقل والنقل، والاستدلال والكشف، ناهيك عن العلم والدين.. وثانياً إلى ضرورة إجراء تسييل معاصر للمنجز المعرفي الكبير الذي برع صدر المتألهين الشيرازي في بلورة قواعده ومبانيه، في مقدمها توحيد القول المتشظِّي في مباحث الوجود ولمُّ شملها وتجاوز ثنائياتها[1].
وإذا كانت غاية الحكمة المتعالية، تشكيل منظومة إدراكية لحقيقة أصالة الوجود، فإن تلك الحقيقة تبين الحكمة نفسها، لا يمكن أن تُنال عند الساعي لإدراكها إلا بالآيات والتجليات. ولما لم يكن للعقل القيَّاس من سبيل إلى إدراك ذات الله، كان النهي عن التفكير في بها: كقوله تعالى: «ويحذركم الله نفسه». ولهذا لا نجد فيما يشتمل عليه القرآن من معرفة الذات في الأغلب، إلاّ على تقديسات محضة وتنزيهات صرفة كقوله تعالى: لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ[2] ولقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ[3] وكما يبيّن ملَّا صدرا أن لا نزاع بين العقلاء لجهة عدم إمكان إدراك ذات الحق الأولى بالكُنْهْ أي (بالذات)، لأنه تعالى لغاية إحاطته وسلطته على الأشياء لا يمكن إدراكه، لأن إدراك الشيء بكُنْهِهِ فرعٌ على الإحاطة به. والله تعالى لا يصير محاطاً[4].
تمهيدات كهذه سوف تحمل صاحب الحكمة المتعالية على قول فلسفي قوامه إخراج المباني العقلية والقواعد النظرية من كونها فلسفة صرفة واستدلالاً نظرياً بحتاً، إلى فضاء أكثر سعة ورحابة، وذلك بوساطة الكتاب الإلهي وتأييد الذوق والكشف والشهود. وسيرسم هذا الاعتقاد سبيله إلى مقام التحقق عبر مجمل مصنّفات وحواشي الحكمة المتعالية. وهو ما ألفيناه أيضاً في سيْريَّات التوفيق بين القواعد العقلية والحقائق الواردة في الكتاب والسنَّة[5].
وما من ريب، أن قاعدة التوفيق هذه، ذات منزلة محورية في إبداعات صاحب الحكمة المتعالية. وهي تظهر في طائفة واسعة من أركانها النظرية والعملية، من أصالة الوجود واعتبارية الماهية، إلى البرهان على المعاد الجسماني. وما كانت هذه القاعدة التوفيقية بين العقل والشريعة لتكون، لولا حاضرية القرآن في تسديد الجهود التنظيرية المفارقة عند ملَّا صدرا. فالحكمة عنده صنو الشريعة. وما بينهما عروة وثقى وعلاقة مِنِّية توالدية، لا انفصام لها. فإذا كانت الحكمة النظرية، أو الفلسفة بما هي علم رؤية الأشياء كما هي في الواقع، فالشريعة هي العلم الهادي إلى واجبية إدراك الوجود وفق ما جاءت به الحكمة القرآنية البالغة.
سيكون لنا بدءاً من هذا المحل، أن نشير إلى الميثاق المبرم بين الكلام الإلهي والحكمة المتعالية. وهنا بالذات يمكن جلاء المفارقة التي أجراها ملا صدرا في عالم الميتافيزيقا. على الأخص، لمَّا دفع بمشروعه إلى التموضع في المنطقة التوسطية بين حكمة الطبيعة وحكمة الوحي. غير أن هذه المنطقة التوسطية لا تعني – كما قد يُظن – التباين أو الفصل بين الحكمتَين، بل التكامل بينهما على نشأة التعالي والانسجام. من ذلك جاء الصدرائية بفلسفة متعالية يراد منها، رفع التعقُّل بالوجود والارتقاء بفهمِهِ إلى فضاء معرفي تنتفي فيه الانفصالات الموهومة بين الواقع والغيب، وبالتالي بين الشريعة الوحيانية والحكمة الفلسفية الباحثة عن معرفة الموجود بما هو موجود.
وكما هو معلوم من ملَّا صدرا، فإن الحكمة هي العلم بحقائق الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر، ونظم الوجود نظماً محكماً ومتقناً، وأنه تعالى فاعل بالعناية، وأن النظام الكياني طبقٌ للنظام الربّاني. من أجل ذلك، فحين يُناشَد الله تعالى بالحكيم، أو بالدعاء المأثور عن النبيّ "يا ذا الحكمة البالغة"، فإنما يُراد بذلك الإشارة إلى تطابق نظام الخلق مع نظام الحق. وهو ما نجده في القرآن الكريم بما هو كشف الحق تعالى عن نظام الخلق بالكلام الموحى به إلى النبيّ.
ولَسَوف يتبيَّن لنا وفقاً لما ذُكر، أن هندسة إدراك الحقائق في الحكمة المتعالية تنبسط على نصاب مفارق للمدارس الفلسفية السابقة عليها ووكذلك المعاصرة لها كالمشائية والفهلوية والهندية والإشراقية. فلئن كانت المعرفة على ما اتفق عليها الفلاسفة – وفلاسفة المشائية على الخصوص- هي الصور والأحكام الحاصلة في العقل نتيجة تأملات فكرية ونظرية في القضايا، فإنها بحسب الإشتغال الصدرائي تبقى مشوبة بالفقر ما لم تُسدّد بالإلهام والحدس، وإشراقات القلب الذي هو مستودع المعارف الأعظم. وعلى أي حال، فإن هذه الهندسة لدى ملاّ صدرا ستسفر عن نهاجية ركَّبت بإتقان، وتقوم على تجاوز تعقيدات الجدل الفلسفي والكلامي حول العلاقة بين الله والعالم.
والآن، نأتي لنسأل ونسائل الحقل الذي أنشأته الصدرائية وجمعت فيه على نحو ودود بين الفلسفة والدين.
حاضرية الكلام الإلهي وقيوميته
ظهرت حركة القرآن سيَّالة في متن الحكمة المتعالية، حتى فاضت بها. ولأنها كما شاء واضعها، أن تؤلف نظيراً فلسفياً للكلام الإلهي، فقد كانت أدنى إلى وعاء يُفاض عليه، ثم ليتولى هذا الوعاء بدوره الإفاضة على ما دونه. وكلما كانت قابلية الإفاضة أقوى، اتسع لها الوعاء، ليبدأ طورٌ آخر من الفهم، يشق سيره عبر تلقي المزيد مما تلقيه عليه الحكمة الإلهية البالغة.
لقد دلَّ هذا على أن الخريطة المعرفية للحكمة المتعالية بلغت تمامها بفعل تلك الفيوضات، وبسبب من قيومية الحكمة البالغة عليها نظامها الفلسفي ومبانيها المعرفية. إذ بناء على هذه القيومية ستصبح المرجعية القرآنية عاملاً مكوناً وتأسيسياً لمجمل المسارات الهادية للمشروع الصدرائي. ولما كانت آليات عمل الفلسفة تنطلق من الأدنى إلى الأعلى لفهم العالم، كموجود بما هو موجود، انبرت اشتغالات ملاّ صدرا إلى البناء على نهاجية معاكسة مؤداها الأخذ بالمتعالي، عبر إنجاز فهم الوجود بما هو وجود، من الأعلى إلى الأدنى. وذلك ما يظهر المائز العميق في سيْريّات ومناهج كل من العلم الحصولي والعلم الحضوري لجهة الإختلاف الجوهري في المقدمات والنتائج. ولنا في هذا الصدد تمثيل:
مع ذلك يبقى التنبُّه ضرورياً إلى أن إثبات الوجود في العلم الحضوري هو إثبات شخصي (فردي) من جانب المثبِت. وبالنسبة إليه هو حقيقي وإدراكي وحسّي وشعوري، لكن لا يقدر مثبته لنفسه أن يثبتَه لغيره. لأن ما تمّ له عن طريق الكشف لا يستطيع أن ينقله إلى الغير عن طريق البيان باللسان، وبالتالي لا يستطيع الغير أن يتلقّاه بالإدراك الحقيقي والحسي والشعوري إلاّ إذا شَهِدَهُ بالمعاينة.
وبوصف كونها علماً جامعاً للعلم بالماهيات وحقائقها وعلماً حضورياً في الآن عينه كان لنا أن نرى إلى نمو الحكمة المتعالية في إطار حركة مثلثة الأبعاد: تبدأ من الألوهة، ثم إلى الطبيعة، ثم عودة إلى الألوهية.
وليست أسفار العقل الأربعة سوى تأصيل لهذه الأبعاد على مبدأ الظهور والسير من الوحدة إلى الكثرة، ثم الرجوع والسير المعاكس من الكثرة إلى الوحدة.
مع هذه الجدلية يصير كل شيء في الوجود أصيل وحقيقي.
نفس الجدلية في حركة الوحدة والكثرة هي ثمرة ما ذهب إليه صدر المتألهين، عندما رأى أن للسلاك من العرفاء والأولياء أسفاراً أربعة:
أوّلها من الخلق إلى الحق
وثانيها بالحق في الحق
وثالثها يقابل الأوّل وهو السفر من الحق إلى الخلق بالحق
ورابعها يقابل الثاني لأنه سفرٌ بالحق في الخلق[6].
أما الأطوار التطبيقية لهذه الأسفار فهي تجري، حسب صدر المتألهين، مجرى السير والسلوك المؤيد بالآيات وعلى مبدأ لا إفراط ولا تفريط بل أمرٌ بين الأمرين. وكان ذلك يتطلب بالنسبة إليه إنجاز أربع مراتب سلوكية وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– محمد بن ابراهيم القوامي، المعروف بصدر المتألهين الشيرازي والملقب بـ «ملا صدرا»، ولد في مدينة شيراز جنوب إيران عام 979هـ – 1571م. وكان والده صاحب نفوذ على المستويين الاجتماعي والسياسي. وحاكماً على إحدى مقاطعات البلاد. هو حكيم وفيلسوف وعارف وفقيه فضلاً عن إلمامه بالرياضيات والمنطق. من أشهر مؤلفاته كتاب «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة».
[2]– سورة البقرة، الآية 255.
[3]– سورة الصافات، الآية 180.
[4]– تعليقة السبزاواري - على كتاب صدر الدين الشيرازي- المظاهر الإلهية – تحقيق جلال الدين الآشتياني- مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي- قم- إيران 1419 هـ. ص 62.
[5]– ملا هادي السبزواري- تعليقات على الشواهد الربوبية- مقدمة سيد جلال الدين الآشتياني- دار إحياء التراث العربي- ط2- 1981- (ص 11)
[6]– ملا صدرا - الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة - المجلد الأول – مقدمة سيد محمد خامنئي- تحقيق د. غلام رضا أعواني- طهران- المكتبة الوطنية- (ص 18)
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد صنقور
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)
الأطفال يبدأون التفكير منطقيًّا أبكر مما كان يعتقد
وقوع المجاز في القرآن (2)
سيكولوجية الكفر
المسلّمي يدشّن كتابه الجديد: (آداب المجالس الحسينيّة)
زكي السالم: (معارض الكتاب بين فشخرة الزّائرين ونفخرة المؤلّفين)
لا تجعل في قلبك غلّاً
قانون معرفة الفضائل الكلي