سبيل السير والسلوك
يقرر ملا صدرا بعد أن أقام فلسفته على ركن برهان الصدَّيقين، أن بلوغ كمال معرفة التوحيد لا مناص له من السير والسلوك المسدّد بالتقوى. ذلك أن من أهم الأركان الأساسية لإدراك الحقائق من وجهة نظر ملا صدرا هو تقوية العقل العملي وتكميل النفس عن طريق العبادات والرياضات، وترك المشتهيات، والإعراض عن المعاصي، وتطهير النفس، وتعزيز أسس المعرفة، والاستعداد الروحي لتلقي الأنوار القدسية (…) فالعقل – بحسب الناظر – ليس بمقدوره أن يرتقي إلى درجة معينة في المسائل المتعلقة بعلم الإلهيات وحقائق المبدأ والمعاد ما لم يتنوَّر بنور الشرع؛ لأن إدراك مسائل من هذا القبيل، فقط باستخدام القوة النظرية ليس ميسوراً، رغم كون صاحب هذه القوة يقع في أعلى مراتب الإدراك (…) ومن هنا كانت أمرية التقوى في القرآن الكريم شرطاً لتعلم الحقائق الإلهية «إتقوا الله يعلمكم الله» (…) ومن هذا المنطلق راح صدر المتألهين يستكشف ويختبر ليستنبط أساس المعارف والمباني المتعلقة بعلوم المبدأ والمعاد. وهو ما بيَّنه في كتبه ممّا حصّله من معارف وحقائق تلقّاها من مشكاة النبوة والولاية.
ولبيان الغاية العليا من مشروعه سيمضي صدر المتألهين إلى الأخذ بسبيل السير والسلوك وفقاً لمنظومة الأسفار العقلية. ومثل هذا السبيل لا يتباين ولا يفارق الصلة الوطيدة الجامعة بين المنازل الثلاثة للحكمة المتعالية: القرآن والبرهان والعرفان. وهو ما يستدل عليه من القاعدة التي تنتظم حركة السير والسلوك: فالسالك وجود، والمسلك وجود، والسلوك منه وجود، والمسلوك إليه وجود... وإذاً فعلى هذه يتحقق السالكون من حقيقة سلوكهم حين يدركونه بالمعاينة أنه تعالى، واجب الوجود دالٌ على ذاته بذاته..
وإذاً فإن برهان الصدِّيقين هو برهان ينتسب بولادته ومآله إلى علم الحضور. ربما لهذا السبب كان ابن سينا يقول قولته الشهيرة: «واعجزاه أن تكون الحركة هي السبيل إلى إثبات الحق الذي هو مبدأ كل شيء»… وعندما علّق ملاّ صدرا على برهان الصدِّيقين للشيخ الرئيس قال: «وهذا المسلك هو أقرب المسالك إلى منهج الصدِّيقين لأن هناك في الحكمة المتعالية يكون النظر إلى حقيقة الوجود وها هنا (أي عند ابن سينا) يكون النظر إلى مفهوم الوجود. ذلك يعني أن الفيلسوف هو الذي يطلب علم اليقين بينما مطلب الحكيم العارف، هو عين اليقين…
هرمنيوطيقا الوحي في أفهام العرفاء
عندما يسائل العارف الآيات لا يقع تساؤله ضمن الدائرة التي اعتادها أهل الجدل. من الفلاسفة وعلماء الكلام، وإنما ينطلق من اليقين المشوب بالحيرة في فهم الكلام الإلهي. وسؤال العارف من هذه المنطلق هو ضربٌ من الترجِّي لبلوغ كُنْهِ الآيات وغاية المتكلم. والترجِّي عند العارف داخل في صميم منظومته المعرفية ويؤسس لمنطق مفارق تتغاير مقدماته ونتائجه عما يتبِّعه العقل الاستدلالي في التعرف على معاني الكلمات وحقائق الموجودات. يدرك العرفاء ان معاني الكلام مرتبطة أصلاً بمقاصد المتكلم، لا بحدود ألفاظ كلامه، وهم يفرقون بين فهم الكلام وفق قراءتهم له، وبين الفهم عن المتكلم. ففي تأويله لكلامه تعالى ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾[1] يقول ابن عربي في الفتوحات المكية إن معنى الآية دالٌ على أن الله يفهِّم الناس معاني القرآن فيعلموا مقاصد المتكلم به. والفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكلام، هل قصد جميع الوجوه التي يتضمنها ذلك الكلام أو بعضها، لذا لك أن تفرق بين الفهم للكلام أو الفهم عن المتكلم وهو المطلوب، فالفهم عن المتكلم ما يعلمه إلا من نزل القرآن على قلبه وفهم الكلام للعامة، فكل من فهم من العارفين عن المتكلم فقد فهم الكلام، وما كل من فهم الكلام فهم عن المتكلم ما أراد به على التعيين إما كل الوجوه أو بعضها»[2].
حسب تأويلية ابن عربي، إن فهم معاني – كلام أي متكلم – ليس محصوراً في وجوه الدلالة اللغوية، التي اتفق عليه أهل ذلك اللسان، فدلالة الكلام مستوى واحد فقط من مستويات الحقيقة عنده، إنما الفهم الحقيقي لمعاني كلام المتكلم هو أن يفهم القارئ ما قصده المتكلم بذلك، فالمعنى ليس بالضرورة متضمن داخل جسد اللغة، فقد يكون المعني يسكن في قلب المتكلم، والقارئ العارف هو من يفهم عن المتكلم ولا يفهم الكلام فحسب.[3] وهكذا فإن التأويل في هذا المورد من الفهم، مرهون بمعرفة قصد المتكلم، وقصد المتكلم مرتبط بشرطية الفناء في صاحب الكلام، عبر التسليك الروحي والتعالي في منازل التقرُّب. وحينئذ يتجلى الله له، ويتولى تعليمه وتفهيمه دقائق التنزيل ورقائق التأويل.
ولا شك أن الفهم عن المتكلم هو أوسع وأدق وأصدق وأعمق من فهم الكلام، لا، التأويل الأتم الأكمل، هو ذاك الذي يفهم المخاطب مآلات الخطاب كله، ويفهم جميع ما تؤول إليه إشارات ومقاصد صاحب الكلام. ومن هنا جاء التنظير عند العرفاء لفكرة لا محدودية ولا نهائية التأويل، حيث يصبح كلام الله تعالى مفتوحاً على جميع التأويلات، لأن كلام الله هو علمه تعالى وعلم الله مطلق لا نهاية لتأويله، وجميع التأويلات صحيحة وشرعية في موضعها، و«علم التأويل – كما يقول أحد شراح الشيخ الأكبر – هو علم الباطن، وهو وجه خاص من وجوه الشريعة الذي لا يعلم إلا عن الكشف الإلهي والذي لا يحصل إلا بعد تحصيل الولاية، وهو أصل علم الشريعة وروحه، ولا مخالفة بينهما إلا عند أهل الحجاب[4].
أ- العلم من الله عن الله بالله
من أجل ذلك يأخذ الفهم التأويلي بهذا المنزلة مسلكاً معراجياً من داخل النص الإلهي نفسه. فالفهم هنا من الله وعن الله وبالله، وليس ثمة من رأي مستقل للمتلقي. والآية التي مرت معنا أشارت بوضوح إلى أن التقوى هي شرط التعلم، وهي إحدى أعظم السبل التي يستهدي بها العارف إلى فهم الكلمة الإلهية على حقيقتها. وبهذا المعنى يتاح للذين اتقوا أن يعلمهم الله المنهج الذي يجنِّبهم فتنة التفسير بالرأي، فيأمرهم بالصبر والدعاء كسبيل قويم لفهم كلامه. وهو ما يستدل عليه من قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [5]
وسؤال التأويل عند العرفاء مرتبط أصلاً بمعنى القرآن، ومعنى القرآن عندهم مرتبط بمعنى ودلالات كلام الله، وكلام الله يحيل مباشرة إلى تصور معنى الله، ومعنى الله عند الصوفية لا يمكن أن نعيه خارج عقيدة التجليات. فالقرآن دال عقيدة التجلي ليس فقط مصحفاً متلواً ومكتوباً بين أيدي الناس، إنما هو «حقيقة مجردة متعالية ترجع إلى الذات الإلهية، وتنزلها وتجلِّيها في عوالم الوجود يأخذ أشكالاً تتناسب مع تلك الرتب الوجودية، إلى أن يبلغ هذا الكتاب عالمنا المادي فيظهر على شكل ألفاظ ومصحف وكلمات»، وإذا كان القرآن هو كلام الله، فإن الوجود أيضًا هو كلام الله، باعتبار أن الكون كله خلق بالأمر الإلهي «كن»، فالكون هو تجلّ لكلمة «كن» الإلهية، فيكون الوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، ويصبح القرآن في تصور صوفية وحدة الوجود هو كلمات الله المرقومة التي توازي الوجود وترمز إليه، وكما أن كلام الله الوجودي المنظور لا يمكن حصره ونفاذه ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[6]. ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾[7]. فإن كلام الله المسطور في المصاحف لا محدود ولا نهائي في تأويله، وانطلاقاً أيضاً من مماثلة أخرى يجريها صوفية وحدة الوجود بين لا محدودية التأويل وبين لا محدودية علم الله، الثابتة نصاً وعقلاً في قوله تعالى﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾[8].
ب- التناهي واللاَّتناهي في الكلام الإلهي
بين لا تناهي كلام الوحي ومحدودية المتلقي، يذهب العرفاء إلى بيان أن الحقيقة الغيبية في إطلاقها غير متعقّلة ولا متوهمة، فإدراكها هو التحيّر فيها. والحيرة هنا، تأتي في مقام التعقّل والتدبُّر، لا تلك التي ارتكن فيها الإنسان إلى قبضة الفكر المحض. فثمة فرق عند الشيخ الأكبر بين حيرة المتدبِّر وحيرة الباحث عن معنى الكلمات في ظاهر الحرف والعبارة. فإن حيرة الأخير تقع في مرتبة ناقصة وعلامتها تعطيل الأفهام والحؤول دون تلقي القول الإلهي على الحقيقة[9]. أما حيرة المتدبِّر الذي حرّر قلبه وأطلقه من التعلقات والميول والرغبات الدنيوية، فحيرته عبارة عن تحول القلب وتبدله انسياقاً مع تنوع الحقيقة في صورها المختلفة، أي إدراك الوحدة في الكثرة، والتنزيه في التشبيه، والحقيقة في المجاز. وبالتالي إدراك الثبات في التنوع والتنوع في الثبات. وحده الذي يستطيع إدراك هذا التنوع، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[10]. وفي آية ثانية: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[11].
ومع أن للتأويل عند ابن عربي منزلة مؤسِّسة لمنظومته المعرفية، إلا أننا نجده في مواقف معينة يحذر من المركب التأويلي إلى الحد الذي يخال فيه الناظر ضرباً من التناقض. غير أنه سعى إلى حل هذا المشكل من منظور المفارقة التي يختزنها الكتاب الإلهي.
على سبيل المثال يعتقد ابن العربي أن مفارقة «هو ولا» تؤلف أساس الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن هذه الآية الكريمة ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾.[12] التي يقول فيها: إن مبنى الأمر الإلهي أبدًا على هو لا هو فإن لم تعرفه كذا فما عرفته وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا عين ما قلناه من أنه هو لا هو وهنا حارت عقول من لم يشاهد الحقائق على ما هي عليه… وجدت العالم مع الحق بهذه المثابة موضع حيرة هو لا هو ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فختم بما به بدا فياليت شعري من الوسط فإنه وسط بين نفي وهو قوله وما رميت وبين أثبت وهو قوله ولكن الله رمى وهو قوله ما انت إذ أنت لكن الله أنت… لأنك تنظر إليه من وجه فتقول هو حق وتنظر إليه من وجه فتقول هو خلق وهو في نفسه لا حق ولا غير حق… فإذا هم مظلمون حيارى….. ثم صدق الله هؤلاء الخواص في حيرتهم بقوله لا خص خلقه علماً ومعرفة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى نفى عين ما أثبت فما أثبت وما نفى فأين العامة من هذا الخطاب فالعالم بالله حيرة والعلم بالخلق حيرة[13].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– سورة البقرة – الآية 282.
[2]– ابن عربي، الفتوحات المكية، تصوير دار صادر بيروت عن طبعة بولاق، القاهرة، سنة 1293هـ ج3 ص 123.
[3]– حمو، فرعون، عقيدة التجليات عند شيخ الصوفية الأكبر – ضمن كتاب “المتن الأكبري” إشراف وتقديم: رزقي بن عومر عبد القادر بلغيت- دار نينوى – دمشق 2018- ص 299.
[4]– بالي أفندي، شرح فصوص الحكم، طبعه الطبعة النفيسة العثمانية سنة 1309هـ ص 56.
[5]– سورة طه، الآية 114.
[6]– سورة الكهف، الآية 109.
[7]– سورة لقمان، الآية 27
[8]– سورة طه، الآية 98.
[9]– محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكّية، ج4، ص 197.
[10]– سورة محمد- الآية 24.
[11]– سورة النساء- الآية 82.
[12]– سورة الأنفال، الآية 17.
[13]– ابن عربي- الفتوحات المكية – الجزء الرابع – ص 198.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
معنى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ..} وسبب النزول
معنى (قوت) في القرآن الكريم
شبهة افتراق الثقلين (1)
فصيلة الدّم قد تؤثّر على خطر الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة المبكرة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (3)
دور العبادة وأسرارها الكبرى
(غيوم خارج الأفق)، أمسية شعريّة لنادي صوت المجاز
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)