علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (4)

ج- مفارقات التأويل

 

مدار المفارقة في فهم الكلام الإلهي، لدى العرفاء يقوم على التلقِّي من المتكلم نفسه. أي من الله لا من فكر المتلقي مهما بلغ من السعة والذكاء. وهم في هذا يتبعون صراط الإنصات والتدبُّر والصبر على الفهم وهذا ما يوحي به قوله تعالى (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[30]. فالقصد الإلهي من الآية هو تعليم الناس وهدايتهم إلى أن فهم كلماته على حقيقة الصراط لا يأتي إلا بالصبر والدعاء.

 

ولا يقبل العارف حصر ظواهر القرآن بهذه المعاني التي تتبادر إلى أذهان بعض الأشخاص من ظاهر الكلام. وفي المقابل ثمة من يرى أن «الظاهر» هو معنى محدد لا يجوز نسبة غيره إلى القرآن، والعرفاء يرون أن هذا الموقف التفسيري غير صحيح، فإن في دائرة الظاهر وجوهاً ومعاني عدة، ولا ينبغي أن نسد باب استفادتها من القرآن سواء كان هذا المستفيد عارفاً أو غير عارف. وعليه فإن من حق العارف أن يفهم من القرآن معنى ويبني استفادته وفهمه على مبادئ وجودية ومعنائية، حتى لو كان هذا المعنى لا ينسجم مع منهج الأدباء وأهل اللغة في التفسير ونسبة المعاني إلى الألفاظ. لذا يؤمن العارف بأنه إذا حصرنا معاني الكلمات وظواهر القرآن بناسوت الوجود والفكر العرفي المحدود، فلن يبقى ثمة مجال لهيرمينوطيقا مقبولة.

 

فعنده أن هذه الطريقة تحصر العلاقة بين المعنى وبين المستوى الحسي والناسوتي للوجود؛ ولكن ثمة مستويات أخرى تتجلى وتظهر «فيها المعاني بطريقة مختلفة. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الهيرمينوطيقا العرفانية أو التأويل العرفاني يقدم على أنه تفسير ظاهري واستظهار بعض المعاني التي عجز الآخرون عن استظهارها وفهمها من القرآن. وإذا أردنا نقد الفكر الهيرمينوطيقي العرفاني وعرض تأويلات العرفاء على محك النقد، لا يصح لنا أن نبدأ من المرحلة الأخيرة أي مرحلة استفادة المعنى من الألفاظ؛ بل لا بد من البدء من المباني الوجودية التي يبني عليها منهجه ورؤيته التفسيرية. واعتماد الخيار الأول أي البدء من المرحلة الأخيرة والاعتماد على اللغة لنقد تأويلات العرفاء فيه من الخلل المنهجي ما لا يخفى[31].

 

يعني تأويل الشيء أو الكلمة كما اتفق أكثر العلماء والعرفاء وإعادته إلى «أصله الأول، وهو الرجوع وفي تأويل الكتاب الإلهي يدل على صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني، وقيل من الإيالة وهي السياسة كأن المؤول للكلم ساس الكلام ووضع المعنى في موضعه[32]، أما المدارس الإسلامية على اختلاف مشاربها، من فقهاء ومتكلمين أشاعرة ومعتزلة وغيرهم، يتفقون على حصر حدود التأويل بحدين اثنين الحد الأول مواضعه اللسان، وما تعنيه الكلمة في مجال التداول اللغوي، والثاني حد العقل وما يؤشر عليه من فهومات ومصاديق، خاصة عند التيار الاعتزالي، والفوراق الكبر.

 

من حيث المنطلقات المنهجية بين أهل التصوف والعرفان وبين أهل اللسان والبيان من الفقهاء ورجال الدين عمومًا، أن الألفاظ هي فقط السبيل الوحيد لفهم مقاصد المتكلم عند أهل البيان، بينما الأمر على العكس من ذلك تماماً عند أهل التصوف والعرفان، فإن فهم مراد المتكلم عندهم هو السبيل لفهم كلامه، يعبر عن ذلك الإمام أبو حامد الغزالي حين يقول: والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلاً والألفاظ تبعاً وأمر الضعيف بالعكس اذ يطلب الحقائق من الألفاظ[33]. وإذا كانت اللغو عند الفلاسفة واللغويين هي “كل نظام علامات يمكن استعماله وسيلة اتصال”[34]، فإنها عند الصوفية صارت تجربة وليست مجرد وسيلة إبلاغ فقط[35]. مع أنه قد ثبت في النصوص أن القرآن الكريم له وجه ظاهري وآخر باطني، فقد جاء في الحديث أن رسول الله عليه السلام قال: “أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع”[36]، وعلق الإمام الشاطبي في موافقاته على هذا الحديث فقال: فُسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو الفهم عن الله لمراده، لأن الله تعالى قال «فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً»[37]، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام، وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه»[38]، فيكون الظاهر لأهل البيان، والباطن لأهل العرفان[39].

 

د- المفارقة الإلهية

 

يستعمل الشيخ الأكبر مصطلحي (التنزيه) و(التشبيه) بمعنى (الإطلاق) و(التقييد)، فالله منزه من حيث ذاته، فهو يتعالى عن كل وصف، وكل تقييد، فهو، بهذا الاعتبار، غني عن العالمين، يحيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يدركه علم، فلا يصدق عليه بهذا المعنى غير وصف الإطلاق، وفي الإطلاق تنزيه، لكن الله من جهة أخرى مبهم، من حيث تعينات ذاته في صور الوجود، فهو السميع البصير مثلاً، لا بمعنى أن له سمعاً وبصراً يشبهان سمع المخلوقات وبصرهم، وإنما بمعنى أنه متجل في صورة كل من يسمع ويبصر، أو أنه جوهر كل ما يسمع ويبصر.

 

ولا شك في أن تفسيره للتنزيه والتشبيه يخرجهما عن معناهما الأصلي، ولكنه تفسير لا غنىً عنه في تكوين فلسفته العامة في طبيعة الوجود. والتنزيه والتنبيه، بهذا المعنى، متضايفان متكاملان، لا يقوم أحدهما من دون الآخر، فهما وجهان لحقيقة وجودية واحدة[40].

 

ومن خصائص هذا التجلي الإلهي الخاص «أنه تعالى لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة لشخص مرتين»، تنبيها على الاتساع الإلهي، والجد اللامتناهي. إن ابن عربي، بثباته هذا المفهوم الجامع، يكون قد تجاوز مفهوم الحلول، واستبدل به مفهوماً أشمل وأوسع، وأبعد عن الاشكال، وأرسخ من حيث الأصل في الاستعمال القرآني، فهو من الآية: (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)[41].

 

من خلال هذا المفهوم افتتح ابن عربي نافذة غير مسبوقة لتأسيس نظرية معرفة تعين على فهم مفصل من أعقد مفاصل الربط الوجودي بين الوحدة والكثرة وكيفية نشوء الكثرة من الوحدة، وظهور العالم عن الله. فعن طريق التجلي الأقدس ظهرت الأسماء الباطنة في الذات الإلهية، وعن طريق التجلي المقدس ظهر العالم بمراتبه المختلفة، ولا وجود لأي فارق زمني بين تلك المراتب المختلفة، والمستويات الوجودية المتعددة، فالوجود، في حقيقته، واحد، وإن تعدد في الذهن، أو العقل،أاو التصور، ويشبه ابن عربي ذلك تقريباً للفهم بلمح البرق، فيقول: «حقق يا أخي نظرك في سرعة البرقإاذا برق، فإن برق البرق إذا برق كان سبباً لانصباغ الهواء به، وانصباغ الهواء به سبب لظهور أعيان المحسوسات به، وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها، والزمان في ذلك واحد، مع تعقلك تقدم كل سبب على مسببه، فزمان إضاءة البرق عين زمان انصباغ الهواء به، عين زمان ظهور المحسوسات به، عين زمان إدراك الأبصار ما ظهر منها، فسبحان من ضرب الأمثال، ونصب الأشكال، ليقول القائل: ثم وما ثم، أو ما ثم وثم، فوعزّة من له العزّة والجلال والكبرياء ما ثم إلا الله الواجب الوجود، الواحد بذاته، الكثير بأسمائه وأحكامه، القادر على المحال، فكيف الإمكان والممكن وهما من حكمه؟ فوالله ما هو إلا الله، فمنه وإليه يرجع الأمر كله». فالوجود حقيقة واحدة تتقسم في الذهن. أما ترتيب مراتب الوجود على التدريج؛ الذي أسهب ابن عربي في شرحه، وبيانه، فما هو إلا تدريج عقلي، وترتيب ذهني بحت[42].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[30]– سورة طه – الآية 114.

[31]– ربيع، مسعود حاجي- التأويل عند ابن عربي- الهيرمينوطيقا- مصدر سبق ذكره.

[32]– جلال الدين السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت، ج2، 1973م، ص 173.

[33]– أبو حامد الغزالي مشكاة الأنوار، تحقيق أبو العلا عفيفي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964، ص 65.

[34]– André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, puf, edition 1962, pp 553-554.

[35]– حمو، فرعون- عقيدة التجليات عند شيخ الصوية الأكبر ابن عربي – بحث ضمن كتاب “المتن الأكبري- أشراف وتقديم: رزقي بن عومر وعبد القادر بلغيت- دار نينوى- دمشق 2018- ص 304.

[36]– الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره ج1 ص16، ورواه ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام ج1/ 288، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة، ج1 ص 241، ورواه الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه الجامع الصغير وقال إنه حديث حسن ص 2727،

[37]– سورة النساء، الآية 78.

[38]– أبو اسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، 1991م، ص 208.

[39]– حمو، فرعون – مصدر سبق ذكره – ص 305

[40]– بن الطيب، محمد – عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عربي – دراسة ضمن كتاب جماعي بعنوان: |الإيمان في الفلسفة والتصوف الإسلاميين – المصدر نفسه – ص 262.

[41]– سورة الأعراف، الآية 143.

[42]– بن الطيب، محمد – المصدر نفسه – ص 263.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد