لا يقتصر الأمر عند مثل هذه القضايا، بل إن حتى قولنا: “الله موجود” والتي عدّت من القضايا التحليلية فإن برتراند راسل اعترض على هذا الحكم، الذي وجد فيه خلطًا بين المدلول اللغوي، والمدلول المنطقي.. فمنطقيًّا أن دالة (موجود) هي عين دالّة الموضوع في القضية “الله”، ولو سلمنا بصحة كونها ضرورة منطقية، فهي كذلك تمثل ضرورة أنطولوجية فكيف نسمها بالسمتين في آن واحد… وهو أمرٌ يستدعي التناقض المنطقي؟
وأعتقد أن هذا التناقض المحكي عنه في القضية الأخيرة يسهل حله بالالتفات إلى مسألتين:
المسألة الأولى: أن الأمور العامة في مباحث الفلسفة العليا هي مما لا يخضع بسبب وضوحه وأوليته المفهومية لأي تمايز يستوجب ذكر حد لإيضاحه، وبالتالي فإن كل ما يحمل عليه هو من باب الشرح الاسمي…
المسألة الثانية: لقد التفت الملا صدرا إلى مثل هذا الإشكال فتحدث عن أن مثل هذه القضايا يتم النظر إليها عبر حيثيتين: فتارة نلحظها بحيثية الحمل الشايع، وأخرى بحيثية الحمل الذاتي… وبالتالي فتعدد الصفة لضرورة الحمل هو من باب تعدد الحيثية، وليس من باب الجمع بين المتناقضات…
ثم إن علينا الالتفات إلى أن النقاش الجاري لدحض القضية الدينية إنما يود دحض الضرورة فيها، ثم دحض الاتساق، ثم إثبات التناقض وهذا إنما يريد الوصول إلى القول بأن هذه القضايا ليست ذات معنى لأنها لا تغير في العالم الخارج عن الذهن أي شيء، وملاك صحة القضية كونها تحدث تغييرًا في موقفنا من الخارج حتى نقول بصدقها أو كذبها….
فالأصل في التحقق من القضية إنما يعود للخارج - وهذه النتيجة كما هو ظاهر تنطلق من موقف فلسفي سابق على المعالجة المنطقية للقضية… وهذا الموقف إما صادر من التجربة والملاحظة وحدها، والوضعية تعتبر أن الأحكام العلمية يجب أن تتضافر فيها الملاحظة والتجربة، بالإضافة إلى رؤية فلسفية تنشئ القاعدة والقانون العلمي.
وإما أنها تعتمد قبلية فلسفية عقلية وهو عين ما تقول به القضايا الميتافيزقية وهذا ما التفت إليه “آير” والذي غير موقفه الوضعاني وعاد ميتافيزيقيًّا بعد ما استفاد من نقودات برتراند راسل التي رتب عليها أن حتى مفاهيم الضرورة، والاتساق، والتناقض هي قضايا محورها مبدأ عدم التناقض واستحالته وقضية التناقض مستحيل “هي قضية تركيبية، مع أنها ليست تجريبية، وبالتالي فهي ميتافيزيقية شأنها في ذلك شأن مفاهيم الضرورة والاتساق…”.
وبذلك فإن أحكام الوضعية على القضايا الميتافيزيقية هو الذي ينطوي على التناقض وعدم الاتساق…
بعد هذا فإن الذي نحتاج فيه إلى نقاش مستفيض هو أن الاشتغال على القضية الدينية، وإن اعتمدنا فيه علمًا من خارج الدين كالمنطق، فإن هذا العلم المنهجي إنما يقدم لنا صورة التعامل مع القضية… أما مادة القضية فنحن ملزمون بالعودة فيها إلى نفس الدين كما يقدمها الدين نفسه، وعليه فحينما نقول: الله كامل الخير، والإرادة، والقدرة، والحرية، وغير ذلك… فعلينا التمييز بين الله في مرتبة الذات، وهي مرتبة لا يحكى عنها.. وبين الله في مرتبة الأفعال وهي مرتبة إنما ننتزع أحكامها من القابل (أي من العالم)…. وعليه فكل هذه الضرورات والأحكام والقيود إنما هي تنشأ من القابل (العالم) وليس منشؤها الذات حتى نفترض تناقضًا بينها وبين قولنا إن الله مطلق وكلّي… ونحن نحيل هذا الخلل المنهجي الذي تمارسه التأويلية العلمانية إلى روح الوصاية المستقرة في نسقيتها المعرفية التي تعتبر أن نتاج المعرفة المتولدة من خارج الدين؛ هي الحاكمة على المعطيات الداخلية للدين…
روح الوصاية هذه هي التي أنتجت أحكامًا حول أشياء لا يتعرف الدين إليها حتى ولو أسمتها العلمانية بأنها دينية فمقتضى المعرفة الدينية أن ندخل مادة الدين نفسها ولو بمنهج وآليات بحثية خارج دينية.. وهذا ما لم يفعله أصحاب التأويلية العلمانية الذين أسقطوا كل النقاشات والإشكاليات الحاصلة في الإطار المعرفي الغربي من مثل إطلاقية مفهوم الحرية… على مبحث الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى.
من جهة ثانية فإن دراسة الدين كظاهرة تفرض علينا أن نفرّق بين الشيء (الدين) بنفسه، والشيء (الدين) كما يتبدّى لنا، فلا يصح أن نتناول الدين وكأننا نقبض باسم العلمانية على تمام الحقيقة وكمالها… فالأحكام إنما تنبع من فهم الدين كما يتبدّى لنا لا كما هو بنفسه.. وهذا الذي يتبدّى لنا محكوم بتغايرات منشؤها قوانين وقبليات حاكمة على أفهامنا. لذا، فإن الحكم السلبي على أنظمة القضايا الدينية إنما ينعكس طبيعة رؤيتنا للدين ولا يعني بالضرورة أن الدين أمرٌ سلبي…
ثم إن التناقضات وعدم صحة وصف القضية الدينية بالصدق والكذب وبالتالي الحكم على أنها قضية غير صالحة لا معرفيًّا ولا منطقيًّا ولا عمليًّا.. إنما هو حكمٌ يرتكز على طبيعة المعايير التي استندت إليها العلمانية التأويلية، والتي استقتها من الفلسفة التحليلية، والمنطق الوضعي..ثم أسقطتها كأحكام نهائية في معالجة الدين، في الوقت الذي تعتبره – أي الدين – ظاهرة عدائية للعلمانية ..وهذا ما جعل العامل النفسي محرّكًا لجملة من الاستنادات والمرجعيات والأحكام الرافضة لصلاحية الدين سواء على مستوى المعرفة العملية، أو المعرفة العلمية.
وهذا هو عين الأيديولوجيا النظرية التي تمارسها العلمانية التأويلية بمدارسها المتعددة… وإطلاق صفة المعرفية على رؤية ما، لا يخرجها من ضيق أفقها الدوغمائي، وأحادية أحكامها التفسيرية والتأويلية للظواهر والأشياء…
المورد الثاني، ذهبت العلمانية التي تطلق على نفسها اسم المناضلة “إلى أن للمعرفة العملية مكونين أساسيين، المكون العلمي (التطبيقي والنظري)، والمكون (المعياري)”[1].
واعتبرت أن المكون المعياري وهو أخلاقي بامتياز حاكم في مجال المعرفة العملية وصفة كونه أخلاقيًّا لا يعني عدم التناسب المنطقي بينه وبين المعرفة العلمية التي تتخذ من التفسير والتنبؤ والوصف أغراضًا أساسية لها، فكون قضايا المعرفة العلمية ذات مدلول تجريبي لا يفصلها عن العلاقة المنطقية مع القضايا الأخلاقية – المعيارية في المعرفة العملية.. وذلك لوجود “سمة مشتركة بين القضايا العلمية، والقضايا الأخلاقية… هذه السمة المشتركة هي سمة اللاضرورة”[2].
وهذا ما سيسمح بإتمام التناسب بين القضايا العلمية والعملية بحسب النظرة العلمانية، كما وأنه يظهر بحسب دعواهم الفارق مع الدين الذي يريد أن يبني معياره الأخلاقي ونظامه القيمي المحكوم باللاضرورة أصلًا على قضايا ميتافيزيقية ضرورية، والتناقض في الدين هو في كلامه عن سببية تولد علاقة بين شيئين لا مسانخة بينهما، هما الضرورة واللاضرورة المنطقية واستحالة مثل هذه العلاقة تنبع من كون الإرث المنطقي يفضي في حال كانت المقدمات ضرورية إلى تاليات ضرورية فإذا كان المبحث الإلوهي الذي نعبّر عنه بقضايا ضرورية، وهو يمثل المقدمات المولدة للتالي من القضايا الأخلاقية، فينبغي أن يكون حسب الإرث المنطقي التالي ضروريًّا أيضًا..
وحيث إننا نعلم كون القضايا الأخلاقية في حركتها السلوكية لا يصح الحكم عليها بالضرورة المنطقية بسبب طبيعتها المتغيرة فنستنتج أن كل كلام عن علاقة تولد أخلاقي من بحث ألوهي هو كلام محكوم بالتناقض المنطقي… إلا أن نثبت كون قضايا المبحث الألوهي هي غير ضرورية بالمعنى المنطقي/القاسي المستخدم عند الوضعية المنطقية.
وقبل أن نتفحص هذا التقرير العلماني، من الضروري أن نسأل ما هو المقصود بالمعيار، والمعيار الأخير في مثل هذه المباحث؟
قد يقال إن المعيار هو المعطى الذي تقدمه التجربة في حقولها العلمية الطبيعية والنفسية والتاريخية والاجتماعية، وقد يقال إنه فعالية الناتج وهذه كلها معايير لكنها تشكل معايير تبني أو معايير مفاضلة، أما البحث عن المعيار الأخير، فهو بحث عن الغاية التي تكون لها الأهمية الاجتماعية القصوى التي يفترض أن نقيم على أساسها كل الغايات الأخرى، بحيث تكون تلك الغايات مجرد وسائل لتحقيقها.. وبالتالي فيما أن المعرفة الاجتماعية والسياسية والتاريخية هي وسائل لتحقيق تلك الغاية الكامنة والمطلقة فتكون المعرفة العلمية من المكونات الأساسية للمعرفة العملية..[3].
وهنا ابتدأ الافتراق بين اتجاه علماني وضع المعرفة العلمية كمكون أوحد للمعرفة العملية، واتجاه آخر اعتبر أن إعادة المعيار الأخلاقي للمعرفة العلمية الطبيعية هو تجريد لها عن خصوصياتها. لذا لا يمكن أن نعتبر المعرفة العلمية واحدًا من مكونات المعرفة العلمية ليس إلا…. وقد وقع أصحاب هذا الاتجاه بالتشظي المهول بين ما هو “كائن”، وما ينبغي أن “يكون” على المستوى المعرفي؛ إذ بتحليلهم هذا قد وصلوا إلى وجود تناقض منطقي أيضًا بين النحوين من المعرفة وذلك هروبًا من الاتجاه العلماني الأول، الذي كانت نتيجتة إعدام الإنسان في أعمق وجوده النفسي والوجداني وتحويله إلى مجرد شيء من الأشياء التراكمية في عالم الطبيعة المتصرّمة.. أو مجرد آن من الآنات المسحوقة تحت وطأة سرعة حركة الزمن العدمية..
وما هذا الهروب إلا للحفاظ على إنسانية الإنسان كمركز للوجود… وهم بذلك عادوا لتأكيد جملة من أطياف الإطلاق والتجرد سواءً منها المتعلقة بالمعرفة التجريدية للمعيار الأخلاقي، أو ثوابت المعرفة الفلسفية للمعرفة العلمية والتشبث بمجموعة من الثوابت والضرورات التي سوغوها بعبارة واحدة مفادها أن الضرورة تبقى ضرورة حتى يثبت العكس وكل هذه المفاهيم التي تحملها عبارات الثابت والضرورة والتجرد إنما تذكرنا بأصالة روح الميتافيزيقا في التفكير وفي إنتاج المصطلح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، مصدر سابق، الصفحة 125.
[2] المصدر تفسه، الصفحة 126.
[3] انظر عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، مصدر سابق، الصفحتان 119- 120.
الشيخ حسن المصطفوي
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
الشيخ شفيق جرادي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
معنى (مهل) في القرآن الكريم
سرّ السعادة الزوجية
(قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (5)
الدين والعلمنة (في نظام المعرفة والقيم) (2)
إستراتيجية الكوفة في خلافة علي(ع) (2)
زينب صفر وحديث حول الأطفال الموهوبين
إستراتيجية الكوفة في خلافة علي(ع) (1)
الدين والعلمنة (في نظام المعرفة والقيم) (1)
وهي تمرّ مرّ السّحاب!