علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد رضا اللواتي
عن الكاتب :
كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية، صدر له "المعرفة والنفس الألوهية في الفلسفة"، "برهان الصديقيين"، وله رواية بعنوان "البعد الضائع في عالم صوفي"، استدراكاً على الرواية العالمية (عالم صوفي)، يستعرض فيه تاريخ الفلسفة الإسلامية وأشهر رموزها وأهم إنجازاتها ومسائلها.

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا (11)


محمد رضا اللواتي

لعل القارئ قد لاحظ أن قاعدة: "واجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع جهاته" والتي استندنا عليها في التأملات الفائتة، تقتضي – هذه القاعدة - أن تكون صفات الله إطلاقية وفي تمام الفاعلية إذ ليست له جهة "إمكان" ولا حالة منتظرة(1)، وعليه، فلم تكن صفته "الخالقية" مُعطلة في "وقت ما"، بل هي دائمة، ونتيجة ذلك هي أنه لم يأت على العالم "وقت" لم يكن فيه، وإلا فمعنى ذلك أن "الخالقية" لم تكن فيه فكانت، وهذا غير ممكن، لأنه "واجب الخالقية وليس ممكن الخالقية، فهو قادر من الأزل، وعالم من الأزل، وفياض منذ الأزل، فالعالم ليس منفكًّا عنه أبدًا(2)"، فهل بذلك نكون قد رسونا إلى "قدم العالم" التي يقول بها مجموعة من الفلاسفة؟
ولكن قد يقول قائل: الخالقية صفة الفعل وليست صفة الذات، أي أننا عندما نرى العالم نقر بأن له خالقًا، وقبل وجود العالم فالذات الإلهية لا تكون متصفة بالخالقية، فأين المشكلة في ذلك؟
المشكلة تكمن في أن فعل "الخلق" و "الإيجاد" متاح له أزلًا، إذ فعله غير مشروط بشرط، ولا أن ذاته تعرض عليها "حوادث" فيقرر غير ما كان قرر أولًّا، هذه التصورات لا تتعلق بمقام وجوب الوجود بتاتًا. ليس صحيحًا أن نتصور أنه شاء أن يخلق العالم لاحقًا، إذ ما معنى "لاحقًا" هنا؟!
على ضوء ذلك، فلقد تبنى جماعة من الفلاسفة قدم العالم، وفقًا للقواعد العقلية المارة، في حين يقف في مقابلهم تمامًا "المتكلمون" الذين أصروا على "حدوث العالم"، أي أن العالم سبقه "زمان" لم يكن، ثم أوجده الله فيه.
الفلاسفة الذين اعتنقوا فكرة "قدم العالم"، وهم يقصدون بذلك أن العالم لم يسبقه "زمان" لم يكن فيه، فهو منذ الأزل موجود وبنحو دائم، وجهوا مجموعة من الأسئلة المحرجة للغاية للمدرسة الكلامية، لا يبدو أنها تمتلك عنها إجابات حاسمة، وأسئلتهم تلك هي:
لو فرضنا أن العالم لم يصدر عن القديم ثم صدر، لكان ذلك معناه أن "مرجح" إيجاده:
أ‌)    لم يكن فحدث: وحينذئذ نسأل: كيف حدث؟ من أحدثه؟ وكيف تواردت على واجب الوجود حالة؟ كيف تغير حاله من حال إلى حال؟ من فقد وجود إلى كسب وجود، وهو "واجب الوجود"؟ القواعد العقلية الرصينة تمنع وجود جهة "إمكان" فيه.
ب‌)    فإن قلتم: أن مرجح إيجاده كان منذ الأزل، فالسؤال الذي يواجهكم حينذئذ هو: فلماذا إذن لم يوجد العالم لوجود المرجح؟ هل لعجز في القدرة؟ أم لانتظار سبب؟ وكلاهما غير ممكنين في مقام وجوب الوجود.
فإذن: "ثبت قدم العالم لا مُحالة(3)".
ج) هذا، ثم إن قولكم بأن الله خلق العالم في وقت ما، فيه إثبات لوجود زمان "موهوم" بين الله وبين العالم، وقد شاء الله أن يوجد العالم في نقطة معينة منه! وهذا القول في الواقع تكريس للمأزق بشكل آخر، ذلك لأنه يؤدي إلى القول بوجود زمان غير مخلوق في الأزل بين الخالق وبين المخلوق! وهذا مستحيل لأن الزمان ظاهرة تحدث بسبب الحركة، والحركة تتعلق بالمتحركات، فطالما لا متحرك في الأزل فلا زمان في الأزل.
د) وإن قلتم – أيها المتكلمون – بأننا لا نلتزم بأن الزمان متعلق بالحركة والمتحركات، فسوف نسأل عندها: وفي أي زمان خلق الله الزمان؟ وهذا سؤال لا جواب له، لأننا كلما حاولنا أن نجيب عنه، عاد مجددًا وتعلق بالإجابة التي قدمناها!

قال الكاشاني: "إن جماعة توهموا أن بين الله وبين بين أول العالم عدما موهومًا أزليًّا سيالًا(4)"، ثم أورد عليهم نقوده، وكلها دقيقة ونافذة.
استمات "الإمام الغزالي" في الدفاع عن حدوث العالم فقال ردًّا على نقطة الزمان المارة بأنه ليس المقصود من كلامنا بأن الله خلق العالم في زمان، ليس المقصود به وجود زمان قبلي بين الخالق وبين العالم، وإنما المقصود به أن خلق العالم أحدث خلق الزمان كذلك(5). إلا أن هذه المعالجة- إن غضضنا النظر عن الاضطراب الداخلي فيها- لا تجيب عن بقية تساؤلات الفلاسفة المذكورة قبل قليل.   
البحوث في هذه المسألة تُعد "من المعضلات الفلسفية العويصة التي شغلت أذهان الكثير من العلماء طوال التاريخ(6)". وإذا كانت المعضلة من زاوية فلسفية تكمن في كيفية القول بنشوء "عالم حادث" عن "كائن قديم"، إلا أنها من زاوية الخطاب المجيد تكمن في إصراره على إطلاق "مخلوق" على كل شيء سوى الله، وبلا استثناء، قال: "الله خالق كل شيء".
فإذا كان العالم مخلوق، فمعنى ذلك أنه ليس بقديم، فهو حادث جزمًا، وإلا لتعطلت صفة "الخالقية" من جهة، وأُغلق باب "إثبات الصانع" كما يقول علماء الكلام، ولم يتسق البرهان مع النص الديني المجيد.
ابتكر الرئيس "إبن سينا" حلًّا فلسفيًّا مذهلًا لهذه المعضلة، فقام بتقسم الحدوث إلى قسمين:
حدوث زماني، ومعناه وجود الشيء في زمن كان قد سبقه زمن لم يكن الشيء فيه موجودًا، مثل وجود البشر، فقد سبقهم زمن ما كانوا فيه.

وحدوث من نوع آخر، أطلق عليه "بالحدوث ذاتي"، ومعناه أن الرُتبة الوجودية للشيء وإن كانت قديمة زمانًا إلا أنها تقتضي المعلولية، وهذا كاف لإثبات فقرها وحاجتها للخالق. ولو أردنا توضيح المسألة بمثال فالنتأمل حركة القفل وحركة المفتاح وحركة اليد. هذه الحركات وقعت كلها في زمن واحد، إذ لم تتقدم حركة القفل عن حركة المفتاح، ولم تتقدم حركة المفتاح عن حركة اليد. كلها وقعت في ظرف زمني واحد، ومع هذا فهناك تقدم لحركة اليد على حركة المفتاح، وتقدم لحركة المفتاح على حركة القفل، وهذا التقدم ليس تقدمًا زمانيًّا، بل تقدمًا سببيًّا، وهو تقدم حقيقي جدًّا. ومعنى هذا أن حركة القفل معلولة لحركة المفتاح وحركة المفتاح معلولة لحركة اليد، هكذا هو الحال مع العالم في ارتباطه بالخالق، فالعالم رغم قدمه، وعدم حدوثه زمانًا، إلا أنه حادث ذاتي، فهو معلول(7).
"ابن سينا" بابتكاره هذا يريد أن يقول للمتكلمين: أنتم تصرون على إثبات الحدوث للعالم، لكي تثبتوا حاجته للخالق، أليس كذلك؟ حسنًا، سأوضح لكم بأن العالم وإن كان قديمًا من ناحية الزمان، فسوف يظل محتاجًا للخالق، لأن قدمه الزماني لن يغير شيئًا من طبيعة ذاته المفتقرة إلى علتها وسبب وجودها. وهذا الاحتياج لون من ألوان الحدوث فليست كل أنواع الحدوث تكون زمانية دائمًا، كما أن حركة القفل وحركة المفتاح كانتا قد وقعتا في زمن نفسه، ومع هذا فلقد كانتا في حاجة لكي تتحققا إلى حركة اليد.
ولكن هذا الحل في جعل الحدوث بجوار الأزلية على طاولة واحدة – كما يراه البعض – لم تتقبله الروح الكلامية بتاتًا، وعده جماعة تناقضًا صريحًا(8)، ذلك لأن الظاهرة الأزلية وإن كانت في حاجة دائمة لسببها، إلا أنها -وعلى احتياجها- غنية عن "الحدوث" الزماني.

فلو فرضنا أن شعاع الشمس محتاج في وجوده إلى الشمس ومتصل بها دائمًا، فهو موجود متى ما تكون الشمس موجودة بلا فاصل زمني، فلو كانت الشمس أزلية لكان شعاعها أزليًّا كذلك فما كان حادثًا وإن كان محتاجًا! وهذا الاستغناء عن الحدوث معناه الاستغناء عن "الخالق" و عن "الصانع" و عن "المحدث"، رغم أن الاحتياج قائم ولكن إلى "السبب" و "العلة" وإلى "الغني" بالذات.
وبعبارة أخرى: العالم – بناء على القول بقدمه – من حيث هو لا يملك وجوده من ذاته فهو محتاج للعلة ومفتقر إلى السبب ومتعلق به تعلق الاحتياج. ولكن من حيث هو دائم الوجود فهو غير مسبوق بعدم زماني، فالخالقية في حقه غير فاعلة، وصلة الله به ليست صلة الخالق بالمخلوق، ولا صلة المحدث بالحادث، ولا صلة الصانع بالمصنوع، وإنما صلته به فحسب صلة الغني بالفقير وصلة المستقل بالمتعلق، وهذا الأمر معناه أن صفة الخالقية غدت في "مهب الريح"، في حين أن صريح الخطاب المجيد يأبى ذلك، ويقول: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء" ويقول: ""قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار".

فهل من حَل لهذه المعضلة؟
يُجمع الدارسون "للحكمة المتعالية" أن هذه الأزمة قد اندحرت باكشاف "الحركة الجوهرية". فقبل ثلاثة قرون، اكتشف "صدر الدين" أن العالم "وجود سيال لا قرار له"، تجتاحه الحركة من قرنه حتى أخمصه، دون أن تكون الحركة "عارضة عليه" بل هويته الوجودية، وعلى ضوء ذلك قدم رؤية جديدة حول الاتصال بين الفضاء والزمان والحركة في عالم الطبيعة، ليأتي بعده "آنشتاين" فيطرحها مجددا في القرن العشرين(9).
ونعتزم شرح هذه المسألة للقارئ في الحلقة القادمة، ليبدو له جليًّا كيف تزول المعضلة الفلسفية المارة الذكر، وتعود صفة الخالقية تتألق بنحو ديمومي مستمر "كل يوم هو في شأن"، دون أن يضطرنا هذا الاكشتاف للتنكر لأيّ من القواعد العقلية الرصينة والتي منها تلك التي تقول: "إذا وجدت العلة التامة فإن وجود المعلول ضروري وواجب(10)".
.............................
المصادر:
1)    الديناني، حسين الابراهيمي: القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الاسلامية ج1ص432
2)    مطهري، مرتضى: بحوث موسعة في شرح المنظومة. ج4ص25. ترجمة: عبدالجبار الرفاعي.
3)    سعاة، رضا: مشكلة الصراع بين الفلسفة والدين. ص29
4)    الفيض الكاشاني: محسن: أصول المعارف. ص120
5)    مطهري، مرتضى: بحوث موسعة في شرح المنظومة. ج3ص133. ترجمة: عبدالجبار الرفاعي.
6)    حسن، علي الحاج: الحكمة المتعالية عند صدر المتألهين الشيرازي. ص225
7)    المصباح، محمد تقي: تعليقات على نهاية الحكمة للطباطبائي. ص345.
8)    الصادقي: محمد: حوار بين الإلهيين والماديين. ص56
9)      دهباشي، مهدي: اتصال أبعاد الطبيعة المادية في فكر ملا صدرا وآنشتاين وما يترتب عليها من النتائج. ضمن: الملا صدرا والفلسفة العالمية المعاصرة. ص266.
10)    الطباطبائي، محمد حسين: بداية الحكمة ص89

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد