محمود حيدر
ثمّة مطلقان يواجهان هيغل: الله والكون. وفهمهما عنده لا يكون إلا وفق مبدأ التضاد. وبالتالي فإن الوصول إلى معرفتهما لا يكون حسب هيغل ألا وفق ديالكتيك التناقض. إلا أن هذا الجمع غير المتكافئ سيجعله في مَعْثَرة كبرى لها تداعياتها المزعزعة لمنظومته الميتافيزيقية برمتها. كان عليه أن يواجه استحالة تواجد المحدود والمطلق بصيغة الاتحاد الحلولي، إلا انه لم يفلح. ذاك أن فجوة مستحيلة كانت تنتظره وهو يتصدى لمقولة الوجود. كان يقول: "الوجود هو ذات الوجود لا أنه وجود شيء معيّن، فهذا الشيء المعيّن إن أخذناه بنظر الاعتبار لوجدناه عدماً بذاته لا عدم وجود. وهذه الفكرة هي في الحقيقة مركز جاذبيّة نظام هيغل الفلسفي. إلا أنها ستشكل الفجوة الكبرى التي ستخترق بنية هذا النظام. فلقد بدت مساعي هيغل على خلاف ما توصل إليه مارتن هايدغر في مباحثه الوجودية خصوصاً سؤاله الأثير عن السبب الذي أفضى الى وجود الوجودات بدلاً من العدم؟.. الإجابة كانت بديهية من طرف هايدغر: إن الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يكون أو يوجد. لكأنما يرد على هيغل من دون أن يسمّيه؛ ثم يضيف متعجِّباً: كيف يكون هناك وجود محدّد وغير محدّد في آن واحد. ومن جهتنا نضيف: كيف لهيغل أن يرتضي لنفسه السؤال عن شيء ليس موجوداً؟.
تجري الهيغلية في اتجاهين متباينين: فلسفة تاريخ تَتَغَيَّأ التعرُّف إلى ماهيات الظواهر، وفلسفة فوق تاريخية ترمي إلى معرفة المطلق. ولأن التباين بين الاتجاهين هو حصيلة منطقية لديالكتيك التناقض فقد ظَهَرَا في وضعية شديدة الالتباس. ولأنه كان شغوفاً بميتافيزيقا المطلق، وبشغف موازٍ بفلسفة التاريخ، راح هيغل يسعى إلى التوليف بينهما، مع ما سيلحق بهما جرّاء هذا التوليف من أضرار فادحة.
كتابه "فينومينولوجيا الروح" (1807) حَوَى هذين الشَّغَفَينْ المتناقضين معاً. ربما لم يكن هيغل يدرك ما قد يترتب على رعايته للنقائض من معاثر، إلا أن الذين اتبَّعوه على غير هدى، سيوسِّعون من "فجوة التناقض" في نظامه الفلسفي. لقد اتخذوا من قوله أن "التاريخ هو مجرد صيرورة للعقل المطلق" سبيلاً إلى توسيع تلك الفجوة. فالعقل الذي ابتنوه –تبعاً للمعلِّم- ليس ذاك الذي يتجلى في الفرد، بل الذي يطوي الفردية بين جناحية ويُذيبُها في الروح اللامتناهي للجماعة الحضارية. ذلك أن الفرد الهيغلي ليس إلا لحظات مارّة في التاريخ؛ ولذا لا يعوَّل عليه ما دام منفصلاً عن الكلي.
مع هذا النحو من التنظير يبتدئ الالتباس الهيغلي حول موقعية الفرد في التاريخ. فهل هذه الفكرة، محايثة للتاريخ فعلاً وهي بالتالي غايته التي يتحقق فيها حضور الإنسان، أم أنها العقل المطلق الذي يكون الإنسان سطوته مجرد حامل أو حارس؟... إن ذلك على وجه الدقة ما يعبر عنه هيغل نفسه بما يسميه تيه التاريخ وضلاله؟
يجمع هيغل ويفرِّق من دون أن يهتز له إحساس بانقلاب الفكرة على نفسها. فلا شيء في منظومته أغرب من الفصل بين الفكرة المطلقة وتجلِّيها في التاريخ. والأشد غرابة اعتقاده بواحدية المطلق والمحدود في التاريخ من غير أي انفصال. ولكن كيف له إذن أن يقترف مثل هذه المفارقة الغريبة؟
ربما تناهى إلى هيغل مثل هذا السؤال، ليجيب عليه بمستخرج مثير للشبهة حين يتحدث عن مكر العقل وخديعته. فلقد ألقى باللاّئمة على القدر المحتوم لمسار التاريخ البشري. العقل الماكر –كما تبيِّن المنحوته الهيغلية- هو الذي يقود التاريخ بمعزل عن إدراك الإنسان.
إنه العقل نفسه الذي يظهر على شكل روح مطلق يسري في الزمن ويستعمل الرجال العظام ليؤدّوا وظائفهم من دون أن يتمكنوا من السيطرة عليه.
من أي مصدر أتى هذا العقل ليمارس مكراً "كلي الجبروت" على الإنسان وتاريخه؟
لا شك أن هيغل سيلتمس الجواب لماَّ كتب "جوهر المسيحية". انعقدت قناعته حينئذٍ على أن الرعاية الإلهية محيطة بالفكر والكينونة من كل الجهات. إلا أنه على الرغم من إقراره بهذه الحقيقة المتعالية وتدبيراتها يعود ليهبط إلى "دَنْيوَة" هذا الإقرار. حجّتُه في هذا، أن الاعتناء الإلهي بالعالم بات سارياً فيه ولم يعد ثمة ضرورة للنظر إليه كتدبير مستقل بذاته. زد على ذلك اعتقاده أن لا فجوة بين المحدود والمطلق ينبغي سدُّها عبر جدل منطقي يعتمد على السببية. ذلك لأن وجود المطلق ثابت في جدليات الفكر الإنساني الذي يكشف عن العلاقة الحقيقية بين المحدود والمطلق. عند هذه النقطة بالذات ينعطف هيغل- وبتأثير من فلاسفة الحداثة الذين سبقوه- نحو "علمنة" الحضور الإلهي ليحصره بالفكرة المطلقة المتجلية بالتاريخ الواقعي.
لقد رمى هيغل من كتابه "فينومينولوجيا الروح" إلى التمهيد للمعرفة المطلقة. وسيذهب فيه إلى أن وضعية الإنسان تبدو مختلفة تمام الاختلاف عما هي عليه من منظور فلسفة التاريخ الكلاسيكية. فليس الإنسان - برأيه - هو الذي يؤِّول الوجود، بل إن الوجود هو الذي يعبر عن ذاته عن طريق الإنسان. بهذا الفهم لن يكون الإنسان هو المطلق أو الغاية الأسمى، وإنما ملتقى الطرق. فالإنسان في النطاق المتقلب للعقل المتناهي(الدنيوي)، هو مجرد كائن متلقٍ وهو يعمل كواسطة ومن خلالها فقط يكون ثمة عقل أو روح مطلق.
لكي يفارق التشاؤم الذي تثيره فكرته حيال إنسان يتلقى الأقدار من دون أن يكون بوسعه ردُّها أو تبديلها، ابتكر هيغل فرضيته الملتبسة حول "مكر العقل وخديعته". لقد عنى بالخديعة والمكر، الواسطة التي يعتمدها العقل المطلق، وبمعزل عن إرادة الانسان، من أجل تمرير غاياته أنّى كانت النتائج المترتبة عليها غير أخلاقية. ومع كون هيغل لا يقصد تبرير الخدعة كمعصية أخلاقية، إلا أنه يتعامل معها بوصفها أساساً لفلسفة التاريخ، وتجليِّاً للعقلانية التي تتجذر في حياة الأمم وتاريخ الحضارات البشرية. وعلى رغم من أنّ المخادعة مرفوضة عمومًا من الزاوية الأخلاقوية moraliste، فقد أعطى هيغل صورة باهرة لخديعة العقل بوصفها قدراً محتوماً يحكم تطورات العالم البشري وتحولاته.
لنا هنا أن نسأل عن الكيفية التي سوَّغت لهيغل أن يصِل إلى هذا المفهوم الغريب ليجعله أساساً أصيلاً في فلسفته للتاريخ؟
اللاَّفت لنا أن صاحب "فينومينولوجيا الروح" لا يضيره على ما يبدو أن تصير الأهواء- وبسبب من الخديعة المدَّعاة- حاكمة على التاريخ الإنساني كله. فهي- كما هو يرى- التي تحدد فعل الناس، بمن فيهم أولئك الرجال الاستثنائيين الذين تتطابق خصوصيتهم الذاتية مع المضمون الموضوعي لروح الزمن. وهكذا تبدو خديعة العقل- بعيداً من إعرابها العميق عن هُوَام توتاليتاري- متساوقة مع مفهوم التجلِّي التاريخي للعقلانية المتجذرة في الروح الأوروبية. وهي العقلانية الأداتية نفسها التي ورثها هيغل عن أسلافه ليمضي في "الأسطرة الفلسفية" لحضارة الغرب.
لم يكن أمام هيغل وهو ينظر إلى الحداثة كيف تتداعى أواصرها إلا أن يجد في الدولة المقتدرة تجسيداً خاصاً لفينومينولوجيا الروح. أراد أن يستعيد ألق التنوير عن طريق إرادة الاقتدار التي يحل فيها كل فرد في جسد الجماعة الحضارية. سوف نرى كيف تظهر ماكيافلية هيغل على نحو صريح في تأليه الدولة بوصفها تمثيلاً لـ "فينومينولوجيا الروح". على هذا الأساس، تعتبر الدولة أداة ضرورية لتحقيق التوافق والانسجام بين مصالح متناقضة، والدفاع عن المتحد التاريخي. ولئن تراءى قريباً مما طرحه فيلسوف التاريخ الإيطالي جامباتيستافيكو بصدد العناية الإلهية للتاريخ البشري، إلا أنه سينتهي إلى حصر الإقرار بهذه العناية في الدولة التي هي عنده تعبير عن اللامتناهي، ولها حياة مستمرة بذاتها ولا يمكن اختصارها في مجموعة من المواطنين وجدوا في فترة معيّنة من الزمن.
ربما كان هيغل على دراية من أن الذي يعيش الخديعة ويعاينها هو الأقدر على معرفة السرّ المحفوظ بمكر العقل المطلق وخديعته. لهذا السبب سينحو في السنين الأخيرات من عمره إلى الانخراط في قلب الحدث الأوروبي وضوضائه، ويمضي إلى الحد الأقصى من التحيُّز للأمة الجرمانية من أجل أن يفقه الروح المطلق وتجلياته.
فلو كان من نعت لميتافيزيقا هيغل السياسية وهو يستظهر تعالي روح الغرب، لصحّ نعته بفيلسوف الامبريالية الممتدة. تلك التي تغتذي من العقل الخادع للتاريخ ذرائعيتها وعوامل ديمومتها. ومع أن ثمة من وجد لهيغل مبرراً لتحيُّزه العرقي عن طريق إنشائه ميتافيزيقا محكمة الاتقان، فعليه أن يقرأه بعناية كرة أخرى ليرى كيف استحالت فلسفته كهفاً أيديولوجياً للمطلق الغربي.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة