السيد موسى الصدر
قلتم بأن الدين هو إيديولوجية، وبما أنّ لكل إيديولوجية منطقًا خاصًا تُفَسّر به التاريخ والحوادث، فبعضهم يضع التفصيل المادي للتاريخ، وبعضهم يعتبر الدين والقومية محرِّكين للشعوب. فما هو المنطق الإسلامي الذي تُفَسّر به الحوادث التاريخية؟
هنا عليّ أن أوضح نقطة أساسية، وهي أنّ كلمة إيديولوجية، بطبيعة الحال كلمة حديثة، ونحن عندما نقول نحاول أن نستعين بهذه الكلمة، التي أصبحت واضحة لدى الشباب، نستعين بها لإلقاء الضوء على الفكر الإسلامي، ولوضع العقيدة والثقافة الإسلاميتين في موضعهما الطبيعي في التفكير، كما نعمل في قضية الاقتصاد.
نحن عندما نقول الاقتصاد الإسلامي علينا أن نعرف أنّ في الإسلام لا نجد لا في القرآن ولا في كتب السنّة، لا في سيرة الأئمة ولا في سيرة مَن بعدهم من العلماء، لا نجد فصلًا باسم الاقتصاد. في كتب العلوم الإسلامية لا نجد علمًا باسم علم الاقتصاد. ولكن إذا درسنا الأحكام الإسلامية في العلاقات المالية بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبينهم وبين غير المسلمين وبينهم وبين الحكومة، إذا درسنا أسلوب الإسلام في الإنتاج وفي الاستهلاك، نكتشف مذهبًا اقتصاديًا، ونتأكد من أنّ الأحكام الإسلامية لم تأتِ صدفةً ولا عفوًا، بل جاءت مركّزة على قواعد اقتصادية معيّنة، وهذا يسمونه بالمصطلح المذهب الاقتصادي ولا يسمونه علم الاقتصاد، المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد؛ وإلّا علم الاقتصاد، علم حديث تَشكَّل مؤخرًا ووُضِعت الأسس له مؤخرًا، وأُعطيَ العناية الكافية مؤخرًا، ووُضِع في دروس جامعية وغير جامعية مؤخرًا.
فإذًا، عندما نقول الاقتصاد الإسلامي نقصد المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولا نقصد علم الاقتصاد، يعني الإنسان الباحث عندما يقرأ الأحكام الاقتصادية، مثلًا: الميراث، كيفية توزيع المال على الوَرَثة، كيفية الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة، كيفية [توزيع] الغنائم والأرباح، كيفية الإقطاع، الإقطاع بالمعنى الإيجابي يعني اقتطاع الأراضي، كيفية ملكية الأراضي: أراضٍ ملك خاص، الأراضي المفتوحة عنوةً ملك المسلمين جميعًا، أراضٍ ملك الدولة أو ما يسمى بالأنفال... وعندما ندرس [في] كيفية الإنتاج أن الإنسان عندما يريد أن يستفيد ويربح هل يحقّ له أن يربح متى شاء وكيفما شاء وبالقدر الذي يشاء أو لا؟ بطبيعة الحال، الإسلام يقول لا، متى شاء أبدًا، كيفما شاء أبدًا وبالقدر الذي يشاء أبدًا، يعني كله في حدود معينة؛ عندما يقرأ الإنسان هذه الأحكام، من هنا وهناك، يكتشف مذهبًا اقتصاديًا في الإسلام.
والأمر في الإيديولوجية مُشابه لما نقوله في الاقتصاد. لم يرِد في الإسلام فصلًا باسم فصل الإيديولوجية، بل لم يرِد فصل في الإسلام باسم فصل العقيدة، لأنّ الإسلام دين واحد؛ بنى رسول الله الأمة بالطريقة المعروفة في مكة، أول الأحكام كان يقول: قولوا لا إله إلّا الله تُفلحوا.
طبعًا، قولوا لا يعني الفظوا فحسب، يعني التزموا. ولا إله إلاّ الله، لا يعني فقط أنه لا يوجد أصنام، بل لا يوجد آلهة أرضية بكل معنى الكلمة، كما لا بدّ من البحث فيه يومًا. بعد ذلك تدريجيًا نفي الآلهة الأخرى والإيمان بالله الواحد وأحكام ثانية، بشكل لا يمكننا أن نقول إنّه فصّل الإسلام فصولًا وأبوابًا، وجعل فصلًا خاصًا باسم الإيديولوجية، بل من خلال الأحكام الإسلامية الباحث يكتشف إيديولوجية إسلامية، هذا مفهوم حديثنا أساسًا. وهكذا سنجد المنطق الذي يفسّر الإسلام به التاريخ كما نقول، وهذا شأن بقية المدارس الفكرية.
من باب المثل، من أشهر وأهم المدارس الفكرية المعاصرة المدرسة الماركسية كما نعرف. نحن نعرف أن الماركسية فكرة مستنَدة إلى ماركس. ماركس ماذا كان وماذا يقول؟
فكرة اقتصادية أولًا تبنّاها ماركس كعالم، لا كقائد، لا كزعيم. أولًا، عالم يدرس الاقتصاد يعني يكتشف التطورات الاجتماعية وارتباطها بالتطورات الاقتصادية، ثم كناظر متفرج على شرفة التاريخ؛ هذا بيِّن في مؤلفات ماركس الأولية، وهذا هو بحدّ ذاته بحث أرجو أن أحد الشباب يتعهده ويبحث فيه. في المراحل الأولى ماركس كان متفرجًا على شرفة التاريخ، يقول إنّ التطورات الاجتماعية النابعة عن التطورات الاقتصادية تتغير وتتحول وتبشّر بالمستقبل المعيّن.
ما هو دور ماركس؟ لا شيء، الاستنباط.
ما هو دور الناس؟ لا شيء، الاستنباط والتفرج.
الرأسمالية في رأي ماركس تنمّي في أعماقها وأحشائها بذور الانفجار، وتنفجر وحدها من دون تحرك؛ هذا واضح في مؤلفات ماركس. ماركس، فيما بعد ولأسباب خاصة، كمنافسة بينه وبين برودن وعلاقاتهما التفصيلية الواضحة، تحوّل ماركس من عالم اجتماعي-عالم اقتصادي إلى زعيم سياسي. يعني حاول أن يساهم في تفجير الرأسمالية بالدعوة إلى الثورة وبالشعار اتّحِدوا. ماركس، هذا في المرحلة الأولى كعالم، وفي المرحلة الثانية كزعيم.
دوره في الاقتصاد، اقتصاد معيّن ذلك الذي نسمّيه بالشيوعية، هذا دور. بعد ذلك، حاول أن يركّز هذه المدرسة الاقتصادية على أسس فلسفية ففتش عن فلسفة هنا وهناك، واعتمد المدرسة الفكرية الفلسفية المشهورة بالمادية materialisme. Materialisme ليست من أفكار ماركس ولا من اختصاصاته، إنما كعالم اقتصادي-اجتماعي اعتمد المادية كفلسفة تلائم اقتصاده المادي.
[المادية] materialism قديمة قديمة جدًا، من أيام اليونان، ولها تطورات طويلة: المادية الفلسفية، المادية الخيالية، ومؤخرًا المادية العلمية، ليست لماركس وإنما اعتمدها ماركس من هناك لملاءمتها لاقتصاده، لماذا الملاءمة؟ لأن ماركس فكّر أنّ رجال الدين في أوروبا هم الذين يحمون الاقطاع، وهم الذين يحمون الرأسمالية في أوروبا، وإذا أراد أن يمشي في اقتصاده سيصطدم معهم، فقلع جذورهم من الأساس. قال: الله غير موجود، تخلصنا منكم جميعًا، ارتحنا. هذا أسلوب، لأن الفلسفة الماركسية منسجمة مع طريق ماركس، وإلّا هو في الأساس [...].
ثم استعمل منطق الديالكتيك؛ أيضًا منطق الديالكتيك ليس منطقًا ماركسيًا، وإنما استعار هذا المنطق الذي أُسّس أيام سقراط مثلما تعرفون الجدلية ثم تطور في العصور المختلفة. واستعمل منطق الديالكتيك كوسيلة، وبعد ذلك الماركسية بطبيعة الحال حتى تنتقل من مرحلة العلم إلى مرحلة الزعامة، فتساهم في تفجير المجتمع المعاصر لماركس. اعتمد نظرية باسم المادية التاريخية، والتي هي أيضًا ليست جديدة. وإنما الربط بين هذه النظرية الفلسفية المادية، واستعمال المنطق الديالكتيكي، واعتماد المادية التاريخية بتفكير ماركس، تحولت إلى وحدة فعالة من خلالها يعطي ماركس تفاصيل وأبحاث وآراء ومواقف لكل شيء، والسبب واضح. عندما يريد ماركس أن يدعو العمال أو الكادحين إلى حركة، يضع أمامهم تفسيرًا تاريخيًا حتى يقول إنّ التاريخ طول عمره كان يتحول لأسباب اقتصادية والآن حان الوقت كي يتحول المحوِّلون للتاريخ، وإلّا إذا أراد شخص أن يفسّر التاريخ على ضوء سيوف الأمراء والملوك أو رغبة السلطان إلى الزواج أو حب الأمير للغارة هنا وهناك، يعني يصبح تاريخنا رغبات وأهواء الحكام، لا دور للكادحين في العالم في تسخير التاريخ وتحويل التاريخ من هنا لهناك. فأراد أن يعرض للناس صورةً عن التاريخ، ذلك الذي يسمّيه بالمادية التاريخية، فوضع تمهيدًا لتحركه من الوضع العلمي المحض إلى الوضع السياسي أو القيادي الذي وصل إليه ماركس في منتهى وأواخر [...] الأخير من حياته.
فإذًا، هذه المدرسة المشهورة أيضًا تستعين بالمنطق الديالكتيكي وبالفلسفة المادية وبالنظرة المادية التاريخية. تستعير [من] هنا وهناك، وليست منبثقة من أصل المدرسة الفكرية، هذه نقطتان، أنا أوجز الموضوع لأنه بحث طويل:
النقطة الأولى، أننا نكتشف من الإسلام اقتصادًا أو إيديولوجيةً معيّنة.
النقطة الثانية، أن المدارس الفكرية تستعير أو تستعين بالفلسفة أو بالمنطق أو بالنظرة التاريخية من هنا وهناك فتأخذ ما ينسجم مع أهدافها وأفكارها.
بعد هاتين المقدمتين ندخل في حديثنا المعيّن.
ما هي نظرية الإسلام في التطور التاريخي؟
هنـا، كالاقتصاد، علينا أن نقول مذهبًا وليس علينا أن نقول علمًا، لأنه كما أقول إذا أردت أن تفتح القرآن أو تفتح السيرة أو تفتح كتب الدين لا ترى تفسيرًا معيّنًا للتاريخ. هل تريد أن تكتشف من خلال آراء الإسلام في الأحداث، من خلال توجيهات وتعليمات الإسلام في مختلف الشؤون، الرأي الإسلامي في هذا الموضوع؟
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع