نظريّة «الجمال» في الأخلاق (1)
يوجد فريق من العلماء يعدّ الأخلاق من مقولة «الجمال». وقد يظنّ بعضهم أنّه حتّى لو علمنا بأنّ الأخلاق من أيّ مقولة هي، فهذا العلم لا فائدة فيه من الناحية العمليّة والتربويّة الاجتماعيّة، بل المفيد هو التخلُّق العمليّ والتحلّي الفعليّ بالأخلاق الفاضلة. أمّا تعرُّف مقولة الأخلاق، فهو بحث علميّ صرف ليس غير، تماماً كمَن سُئِل عن «القرمة» وأنّها بالـ«غين» أو بالـ«قاف»، فأجاب: ليست بأحدهما، بل تكون باللحم والسّمن.
لكنّ هذا التصوُّر غير دقيق؛ فإنّ معرفة كون الأخلاق من أيّ مقولة، وأنّها من مقولة واحدة أو من مقولات شتّى، لها تأثير كبير في تكميل أخلاق المجتمع وتتميمها، كما أنّ ذلك يرشدنا إلى نقطة البداية الواجب الانطلاق منها؛ وذلك يختلف باختلاف الأفكار: فمَن يتبع الفكر الهنديّ والمسيحيّ مثلاً، يرى أنّ إشاعة الأخلاق الفاضلة في المجتمع ونشرها يكون عن طريق تكثيف أحاسيس الحبّ وتنمية مشاعر العاطفة، وإزالة عوامل العداوة والتناحر والبُغض. ومَن يعتقد بأنّ الأخلاق من مقولة العِلم -مثل «سقراط» وأمثاله- يرى أنّه يجب تعليم الفرد وتثقيف المجتمع الإنسانيّ وإخراجه من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة، فإذا صار المجتمع متعلّماً ومتنوّراً، فهذا العلم أخلاق، والتعليم هو التربية عيناً. ومن يحذو حذو «أرسطو»، فهو يقول: العلم وحده غير كافٍ، بل لا بدّ من تقوية الإرادة أيضاً، فهو يرى شيئاً آخر.
كذلك مَن يعتقد باعتماد الأخلاق على الوجدان الفطريّ الإنسانيّ، يذهب إلى وجوب إسكات النداءات المخالفة لنداء الوجدان، حتّى يتسنَّى سماع ندائه والإصغاء له؛ ففي باطن كلّ إنسان، منادٍ مقدّسٌ للأخلاق، يدعوه لعمل الصالحات واقتفاء الحسنات، وينهاه عن اجتراح السيّئات وارتكاب قبائح الأعمال. ولكن، ما دام ثمّة ضوضاء ولغط، فلن يتمكّن الإنسان من الاستماع لنداء وجدانه، كما لو أنَّ واعظاً ينطق بكلمات الله ويفسّرها لنا، فما لم ينعم المكان بالهدوء والسكوت، لن يُفهَم ما يقول ذلك الواعظ فهماً صحيحاً. ومثل هذا يأتي في الأبصار، فالرؤية الواضحة الجليّة مشروطة بعدم وجود غبار وظلمة ونحو ذلك من الموانع والسواتر، وإلّا فلن يتمكّن من الإبصار. يقول «سعدي»:
إنّ الحقيقة تضيع إذا ثار غبار الهوى
كما يضيع جَمال المنزل إذا عمَّه الغبار
ألا ترى أنّ العين لا تبصر شيئاً في المكان
المغبّر؟ فكيف إذا كان الإنسان أعمى!
أنت ما دمت تفتح فاك حرصاً وطمعاً
فلن تسمع أُذُنُ قلبك سرَّ الغيب
وأمّا من يعدّ الأخلاق من مقولة الجمال، فيقول: لا بدَّ من زرع الحسّ الجماليّ في البشر؛ لأنّ البشر إذا أحسُّوا بجماليّة الأخلاق الكريمة العالية، فإنّهم سيُقلِعون عن الكذب ويرتدعون عن الخيانة؛ فالعلّة في كذب بعض الناس هي عدم إدراكهم لجمال الحقيقة والصدق، كما أنّ سبب الخيانة هو عدم إدراك جمال الأمانة وحُسنها. وعليه، يجب خلق الذوق الجماليّ وتنميته في الفرد؛ كي يُدرَك الجمال العقليّ والمعنويّ، كما يُدرَك جمال المحسوس.
والحاصل أنّ لهذا البحث أثراً عمليّاً. يُضاف إلى ذلك، أنّه ما لم نشرح ذلك بنحوٍ دقيق ونطَّلع عليه، فلن نستطيع تعرُّف نظريّة الإسلام في الأخلاق.
ما هو الجمال؟
كيف يمكن تعريف الجمال؟ وبحسب اصطلاح المناطقة، ما هو جِنسُه وفَصْلُه؟ من أيّ مقولة هو؟ هل هو من مقولة «الكمّ»؟ أو من مقولة «الكيف»؟ أو من مقولة «الإضافة»؟ أو من مقولة «الانفعال»؟ هل هو «جوهر» أو «عَرَض»؟ وبنظر الكيميائيّ والمادّيّ، من أيّ شيء يُصنَع؟ فهل يمكن تحديد العناصر المادّيّة للجمال وتشخيصها، كما هو شأن الأمور المادّيّة حينما تخضع للتحليل الكيميائيّ، أو لا يمكن ذلك؟
هذه الأسئلة المتلاحقة لم ترَ إلى الآن جواباً لها من أحد، بل يعتقد بعضهم أنْ لا جواب لها أصلاً؛ كون أجلى حقائق العالَم هي تلك الحقيقة الّتي لا يصحّ السؤال عنها بـ:كيف هي؟ فالجمال لا يمكن أن يُعرَّف وتُبيَّن ماهيّته، وقد قال العلماء في مبحث الفصاحة والبلاغة -وهي من مقولة «الجمال»- قالوا: لا يمكن تعريف الفصاحة تعريفاً حقيقيّاً؛ لأنّها «ممّا يُدرَك ولا يُوصَف».
فنحن عندنا أشياء كثيرة في هذه الدنيا يمكن إدراكها، ولكن لا يمكن تعريفها، ومن تلك الأشياء: «الجمال». هذا وقد ذكر أفلاطون أنّ الأخلاق من مقولة الجمال، وقد ذكر تعريفاً للجمال، مفاده: «إنّه تناسب الأجزاء مع الكلّ»، فكما أنّه إذا اتّسقت أعضاء الجسم الإنسانيّ وتوافقت قسماته، صار جميلاً ومليحاً، كذلك «الروح الإنسانيّة» إذا هُذِّبَت ورُبِّيَت، حيث تتوازن قواها وقابليّاتها، ويُعطى كلّ جنبة من جنباتها حقّه دون زيادة ولا نقصان، فستصبح أيضاً جميلة وعظيمة.
فـ«الجمال الروحيّ» عنده هو تعادُل الأخلاق والقوى، وهذا أمره بِيَد الإنسان نفسه. فجمال صورته الظاهريّة أو قبحها ليس باختياره، بل هو يُصوَّر كما يشاء الله تعالى في بطن الأمّ، فيخرج إلى هذه الدنيا وقد قُضِي القضاء في ما يخصّ جسمه من تفاصيل وطول ولون... ولكنّه خلاف ذلك في ما يتعلّق بصورته الباطنيّة وروحه، فإنّ هذه الدنيا هي مكان بناء الروح وتصويرها بالصورة الّتي يختارها صاحبها، وكما يقول «الملّا صدرا»: الدنيا للروح كبطن الأمّ للجنين، فالإنسان بيده جمال روحه وقبحها.
نقد تعريف أفلاطون للجمال
وكيف كان، فما ذكره أفلاطون، من وجود قوى متعدّدة في الإنسان، لا غبار عليه، ولكن يُعاب على تعريفه للجمال، بأنّ «التناسُب» في نفسه أمرٌ نسبيّ يختلف من شيء لآخر، ولا يمكن ضبط هذه النسبيّة لتَطَّرد في كلّ شيء؛ فليست هي كنسبة الأوكسجين والهيدروجين اللازمتَين للماء.
من هنا، فالجمال عاصٍ على التعريف، فهو كالقوَّة الكهربائية لا يمكن تعريفه، وإن لم يُشَكّ في وجوده.
هل الجمال مطلق أو نسبيّ؟
هذا هو السؤال المطروح هنا، وبصيغة أخرى:
هل الجمال -واقعاً- حقيقة واحدة لا يختلف باختلاف الأنظار، فالجميل جميل في نفسه، وإنْ لم يُدرك أحد جماله؛ فيكون من قبيل «وجود» الموجودات؟ فإنّ قمّة جبل «دماوند» -مثلاً- موجودة وتطلّ برأسها على مَن حولها، سواء أدرك أحدٌ وجودها أم لا؛ أو أنّ الجمال رابط خفيّ بين المدرِك والشيء المدرَك، وهذا الرابط يختلف من شخص لآخر؟ فرُبَّ إنسان يرى معشوقه باهر الحُسن والجمال، في حين لا يراه الآخرون كذلك، كما هو حال مجنون ليلى، فقد أطارت لبَّه عشقاً وهياماً، وصار قلبه بحبّها متيَّماً وبدونها ميتّماً، فلا تكاد تقرأ شعراً له إلّا ورأيت ليلى فيه، حتّى إنّ حاكم زمانه وقع في خلده أنّها تحفة زمانها وحوريّة أرضها، لكن حينما أتوا بها من البادية، وجدها امرأة سوداء البشرة ولا فتنة فيها، ولكنّ الحبّ يُعمي ويصمّ. يقول الشاعر:
قال أحدهم يوماً لمجنون ليلى: ابحث
عن جمال أجمل من جمال ليلى
فعلى الرغم من أنّها في عينَيك حوريّة
إلَّا أنّ كلّ شيء عندها فيه عيب
اضطرب المجنون من كلامه، إلّا أنّه ضح
وقال له: إنّك ترى خصلات شعرها، وأنا أرى تموّجاته
وإنّك ترى طرفها، وأنا أرى سحر إشاراته، وإذا
قعدتَ في عيني لن ترى غير جمال ليلى
والشاعر في هذه المقطوعة يقرّر نسبيّة الجمال، وهو كأنّه يقول: إنّ العشق هو خالق الجمال في المعشوق، لا أنّ الجمال سببُ العشق، كما يعتقد بعضهم. فالعاشق إذا عشق شيئاً ما، رآه جميلاً بديعاً، وإن لم يكن كذلك واقعاً. وهذا إفراط؛ إذ لا يمكن إنكار وجود جمال في الخارج بنحوٍ كلِّيّ، فهو حقيقة ثابتة، سواء كان ثمّة عشق أم لم يكن، فهو ليس مخلوقاً للعشق.
والآن، هل الجمال مطلق أو نسبيّ؟ نحن لا نرى ضرورة تدعو للتحقيق في ذلك. القدر المتيقَّن هو ثبوت وجود شيء خارجاً اسمه «الجمال»، سواء أدركه الإنسان أم لم يدركه، فحتّى لو كان أمراً نسبيّاً، فإنّه حقيقة على أيّة حال.
جاذبيّة الجمال
النقطة الثالثة اللازم ذكرها كمقدّمة لبحثنا، هي أنّ الجمال توأم للجاذبيّة والعشق والمدح؛ فأينما وُجِد الجمال وُجِدت معه قوّة جاذبة، وروح عاشقة وطالبة له. فالجمال علَّة الطلب والحركة، وحتّى الفلاسفة الإلهيّون يعتقدون بأنّ حركات هذا العالَم كافّة، بما فيها «الحركة الجوهريّة» الّتي تجعل من قافلة عالَم الطبيعة موجوداً واحداً ذا حركة وليد العشق، وعلى حدِّ تعبيرهم: كتحريك المعشوق للعاشق وتحريك المعلِّل للمتعلَّل. فالميل والانجذاب موجود في تمام ذرّات العالم، ويطلق الفلاسفة عليه «العشق»، وفي هذا الموضوع توجد بحوث كثيرة في محلّها.
جمال العالَم
يُخطئ مَن يعتقد بانحصار الجمال في الوجه الحَسَن لإنسان ما؛ إذ فضلاً عن اختلاف الأنظار حتّى في هذا النوع من الجمال، من شخص إلى آخر، فإنّ عالَم الطبيعة مليء بآلاف الأنواع من الجمال؛ فعيوننا يسحرها جمال الأشجار الباسقة والجبال الشاهقة، والسماوات المرفوعة بنجومها فوق رؤوسنا، وعيوننا يأسرها بهاء الفجر وإشراق الشمس، وخلابة الغروب والشفق، وكذلك نشمّه عطراً في الزهور الجميلة. نعم، ربّما يدرك بعضهم رائحته فقط، فيُولُونه من الأهمّيّة بقدر ما يدركونه منه، وأمّا أولئك الّذين يبصرون جماله ورونقه، فهم يشعرون بما هو أكثر، ومن ثمّ يُولُونه من الأهمّيّة قدراً أكبر؛ لأنّ لكلّ حاسّة جمالاً خاصّاً بها تُدركه، وما تستعذبه حاسّة ما، فهو جميلها ومعشوقها. وهذا الجمال المحسوس مُدرَك مِن قِبَل الأكثريّة الساحقة من الأفراد، فلا يتوهّم متوهِّمٌ بأنّ الجمال مقصور على الجنس والوجوه النضرة، فليس الجمال حكراً على ذلك أبداً، كما يعتقد ذوو الإدراك المحدود، الّذين ما إن يسمعوا كلمة «جمال» أو «جميل» حتّى تقفز أذهانهم إلى جمال المرأة، وما يرتبط بحُسنها.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان