علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

العلم الإلهي (1)

العلم في حقيقته هو انكشاف المعلوم لدى العالم، وهو أمر إضافي ينتزعه العقل من تقابل الـمُدرِك والمدرَك مع عدم حائل بينهما، فليس العلم سوى رفع الحجاب الحاجز بين المنكشف والمنكشف لديه، فإذا لم يكن حجاب بين الـمُدرك ومُدرَكه، حصل الإدراك، الذي هو عبارة عن انتقاش صورته في ذهن الـمُدرك على أثر هذا التقابل، سواء أكان عيناً أم معنىً. (1)

فالعلم أمر اعتباري انتزاعي منشؤه ذلك التقابل الخاص.

أما علمه تعالى بالأشياء فهو عبارة عن حضور الأشياء بأسرها لديه تعالى، وكل شيء هو رهن حضوره في محضر القدس تعالى، ليس يعزب عنه شيء.

وكانت صفحة الوجود بأسرها هي صفحة اللوح المحفوظ، المرشحة فيها صور الموجودات، لا بنقوشها وأشكالها، بل بذواتها وأعيانها.

 

ولم يكن هناك حجاب بينه تعالى وبين الأشياء، ومن ثَمَّ كان علمه تعالى حضورياً، وكانت الأشياء بأسرها رهن حضورها في ساحة قدسه تعالى، وحتى الزمان لا يصلح حاجزاً في هذا المجال.

إذن لا يختلف علمه بالأشياء ـ بالنسبة إليه تعالى ـ سواء قبل وجوداتها أم بعدها، حيث صفحة الوجود، في طولها وعرضها، متساوية النسبة إلى ذاته المقدسة، التي لا يحدّها زمان ولا مكان.

نعم، جاء الاختلاف بالقياس إلى ذوات الموجودات (المعلومات لديه تعالى أزلاً) حيث مختلف التعلّقات والإضافات، فقد كان التعلق قبل وجوداتها ملحوظاً في وصف، وبعد الموجود ملحوظاً في ذات، فالعلم المتعلق بالذات، إنما يتحقّق بعد الوجود، وقد كان قبلاً متعلقاً بالوصف.

فهذا الاختلاف في العلم إنما هو بالنظر إلى المعلوم دون العالم، فلم يحصل تغيير في علمه تعالى الملحوظ في ذاته المقدسة، ولم يكن محلاً للحوادث، تعالى اللّه عن ذلك.

 

وعلمه تعالى، كما يتعلّق بالحقائق والماهيّات، كذلك يتعلق بالأعيان والأشخاص، إذ لا فرق بين الكليات والجزئيات في حضورها جميعاً بمحضر القدس تعالى، كلٌّ في صقع ظهوره وفي ظرف وجوده الخاص.

كما لا فرق في تعلق علمه تعالى بالأشياء قبل وجوداتها أزلاً تعلقاً بالوصف، المسمّى عندهم بالعلم الذاتي، أو بعد وجوداتها فيما لا يزال تعلقاً بالذات، المسمى عندهم بالعلم الفعلي، فلا يزال علمه تعالى بالأشياء، سواء قبل الوجود أم بعد الوجود، و إن كان قد تغيّر العنوان بتغيّر المتعلق لا غير.

وقد نُسب إلى أبي محمد هشام بن الحكم الشيباني (2) قوله بأن اللّه تعالى لا يعلم الجزئيات إلاّ عند وقوعها، مستدلاً بقوله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ...﴾ (3).

كما نُسب إلى أبي الحسين محمد بن علي الطيب البصري (4) قوله بتغيّر علمه تعالى المتعلق بالجزئيات حسب تغيّرها. قال سعد الدين التفتازاني (5): "ذهب أبو الحسين إلى أن علم البارئ بالجزئيات يتغيّر بتغيّرها، ويحدث بعد وقوعها، ولا يقدح ذلك في قدم الذات، كما هو مذهب جهم بن صفوان السمرقندي (6)، وهشام بن الحكم من القدماء. وهو (أي البارئ تعالى) في أنه في الأزل إنما يعلم الماهيات والحقائق، وأما التصديقات ـ أعني الأحكام بأن هذا قد وُجد، وذلك قد عُدم ـ فإنما يحدث فيما لا يزال (أي يتجدّد حسب تلاحق الزمان)، وكذا تصوّر الجزئيات الحادثة (أي العلم بها). وبالجملة فذاته (تعالى) توجب العلم بالشيء بشرط وجوده، فلا يحصل قبل وجوده، ولا يبقى بعد فنائه.

 

قال: ولا امتناع في اتصاف الذات بعلوم حادثة، هي تعلّقات وإضافات، ولا في حدوثها مع كونها مستندة إلى القديم بطريق الإيجاب دون الاختيار، لكونها مشروطة بشروط حادثة" (7).

وذكر الإمام الرازي استدلال أبي الحسين على مذهبه الذي خالف فيه مشايخ المعتزلة، قال: "وزعم أن العلم بأنّ الشيء سيوجد يمتنع أن يكون نفس العلم بوجوده إن وجد، واحتجّ عليه من وجوه:

أولها: أن من شرط المثلين أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر، والعلم بأن الشيء سيوجد لا يقوم البتة مقام العلم بأنه موجود الآن، فإنّ قبل وقوع المعلوم لو اعتقد أنه سيقع بعده ذلك، كان علماً، ولو اعتقد أنه واقع الآن كان جهلاً. وأما حال وقوعه ينعكس الأمر، فلو اعتقد أنه سيقع كان جهلاً، ولو اعتقد أنه واقع كان علماً، فثبت أن كل واحد منهما لا يقوم مقام الآخر، وذلك يقتضي كونهما مختلفين في الحقيقة، وإذا وقع الاختلاف في الحقيقة لا يمكن دعوى الاتحاد.

وثانيها: أنّ كونه علماً بأنه سيقع غير مشروط بوقوعه، وكونه علماً بوقوعه مشروط، وما ليس مشروطاً بالشيء يمتنع أن يكون عين ما يكون مشروطاً بالشيء.

 

وثالثها: أن مجرّد العلم بأنّ الشيء سيقع، لا يكون علماً بوقوعه إذا وقع، فإنّ من علم أنّ زيداً سيدخل البلد غداً، ثم إنّه جلس في بيت مظلم لا يتميّز فيه بين الليل والنهار، وبقي على هذه الحالة حتى جاء النهار ودخل زيد البلد، فها هنا هذا الشخص بمجرّد علمه بأنّ زيداً سيدخل البلد غداً، لا يصير عالماً بأنه دخل الآن في البلد، فثبت أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد لا يكون علماً بوجوده إذا وُجد. بلى من علم أن زيداً سيدخل البلد غداً، ثم علم حضور الغد، فحينئذ يتولّد من هذين العلمين علم بأنّ زيداً دخل الآن البلد.

ورابعها: أن العلم بالشيء صورة مطابقة للمعلوم، ولا شك أنّ حقيقة أنّه سيقع مخالفة لحقيقة الوقوع في الحال، فوجب أن يكون العلم بأحدهما مخالفاً للعلم بالآخر (8).

هكذا استدل أبو الحسين البصري دعماً لمذهبه في علمه تعالى بالجزئيات، وأنه متغاير حسب تعلقاته المتغايرة.

 

وأورد عليه مشايخ المعتزلة سؤالين:

الأول: كيف يزول له تعالى علم ليخلفه علم آخر، تحقيقاً لمبدأ التغاير، مع فرض قِدَم علمه تعالى في جملة أوصافه الذاتية القديمة؟

الثاني: هل لا يستلزم التغيير في صفة ذاتية تغييراً في الذات؟

وأجاب الإمام الرازي على السؤالين بأنّ التغيّر الحاصل في علمه تعالى إنما هو في جانب تعلّقاته التي هي إضافات ونسب اعتبارية، وهي لا تؤثر في ذات علمه تعالى (9).

هذا، وقد أنكر الشيخ المفيد صحة نسبة هذا القول إلى هشام بن الحكم، وذكر أنه تخرص عليه، رماه به خصومه من المعتزلة الذين كان يجادلهم في ذات أقاويلهم، وربما تسلّم منهم بعض الآراء جدلاً لا عقيدة.

قال: إن اللّه تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه... وهو مذهب جميع الإمامية، ولسنا نعرف ما حكاه المعتزلة عن هشام بن الحكم في خلافه، وعندنا أنه تخرّص منهم عليه، وغلط ممّن قلّدهم فيه، فحكاه من الشيعة عنه (10)، و لم نجد له كتاباً مصنفاً ولا مجلساً ثابتاً. وكلامه في أصول الإمامة ومسائل الامتحان يدلّ على ضدّ ما حكاه الخصوم عنه (11).

 

وهكذا ذكر السيد المرتضى أن نسبة هذا القول إليه اختلاق من المعتزلة، قال: "فأمّا حدوث العلم (أي إنّ اللّه تعالى لا يعلم الأشياء إلاّ بعد كونها) فهو أيضاً من حكاياتهم (المعتزلة) المختلقة، وما نعرف للرجل فيه كتاباً، ولا حكاه عنه ثقة" (12).

كما أنكر سيدنا العلامة الطباطبائي ثبوتاً للماهيات في صقع الأزل قبل وجوداتها في صقع لا يزال، حسبما اصطلح عليه المعتزلة بالأعيان الثابتة (13). قال: "إن فرض ثبوت ما للماهية في الأزل ووجودها فيما لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود، وأنّى للماهية هذه الأصالة والتقدم؟ (14).

نعم علمه تعالى الذاتي بالأشياء قبل وجوداتها كان أزلاً، لا بذاك المعنى الذي فرضه أهل الاعتزال، بل بمعنى علمه تعالى بذاته المقدسة المنطوية فيها جميع الحقائق بأسرها، علماً إجمالياً في عين التفصيل، وتفصيلياً في عين الإجمال ﴿... وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ...﴾ (15).

 

أما علمه تعالى الفعلي بالأشياء فإنما هو بعد الوجود، حيث الحضور الخاص تفصيلاً.

قال: "علمه تعالى الفعلي بالأشياء، إنما نعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه" (16).

وقد أوضح مقصوده من العلم الفعلي، بأنه العلم الحاصل عند تحقق الأشياء خارجاً، في مقابلة العلم الذاتي الكائن قبل وجوداتها.

قال: "والسمع والعلم وإن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية، التي هي عين الذات المتعالية، من غير أن يتفرع على أمر غيرها، لكن من العلم، وكذا السمع والبصر، ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات، وهي التي يتوقّف ثبوتها على تحقّق متعلق غير الذات المقدسة، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة، المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحيّ وميّت.

 

والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة ومحاطة له تعالى... والجميع كائنة ما كانت علم ومعلومة له تعالى، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى، لا قبل ذلك، ولا يلزم من ثبوتها بعدما لم تكن تغيّرٌ في ذاته تعالى وتقدّس، لأنها لا تعدو مقام الفعل، ولا تدخل في عالم الذات... "، والآية، أعني قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (17)، إنما يعني هذا العلم الفعلي الذي هو نتيجة الملك والإحاطة والخلق والإيجاد، إذ كيف يمكن الجهل بشيء هو مصنوعه وناشئ في ملكه وبإذنه تعالى وتقدس؟ (18).

وبذلك نستطيع توجيه ما نسب إلى هشام من القول بأنّ اللّه تعالى إنما يعلم الجزئيات عند وقوعها، وذلك نظراً لأن العلم في حقيقته هو خرق الحجب الحائلة بين العالِم والمعلوم، وأن العلم بذات الشيء إنما يكون عند تحقّقه وظهوره على صفحة الوجود، والمقصود من الجزئيات هي التشخصات الحقيقية، المحققة لفعليّة الوجود، فقد تساوق علمه تعالى بالأشياء وظهور الأشياء في عالم الوجود، فصح القول بأن علمه تعالى الفعلي بالأشياء ليس سوى حضور الأشياء ذاتها لديه تعالى وكونها بمحضره الكريم، الأمر الذي عرفته من كلام سيدنا العلامة الطباطبائي (قدَّس سره).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قال العلامة الطباطبائي : "وليس العلم سوى حضور شيء لشيء" نهاية الحكمة : 289 .

2. شيخ الإمامية ومتكلمهم المناظر، توفي سنة :190 هجرية .

3. القرآن الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 66 ، الصفحة : 185 .

4. المتكلم على مذهب المعتزلة ، توفي سنة : 446 هجرية .

5. المتوفى سنة : 793 هجرية .

6. قتله نصر بن سيار سنة : 128 .

7. شرح المقاصد : 4 / 126 – 127 .

8. البراهين في علم الكلام : 1 / 116 ـ 119 .

9. م . ن .

10. روى سعد بن عبد اللّه عن أبي هاشم الجعفري قال : "سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد العسكري (عليه السَّلام) عن آية المحو والإثبات، فقال أبو محمد : وهل يمحو إلاّ ما كان، ويثبت إلاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام بن الحكم أنه لا يعلم الشيء حتى يكون، فنظر إليّ أبو محمد فقال: تعالى الجبّار العالم بالأشياء قبل كونها" (بحار الأنوار : 4 / 115) .

11. أوائل المقالات للشيخ المفيد : 21 ـ 22 .

12. الشافي في الإمامة ، للشريف المرتضى : 1 / 86 .

13. ذهبت عامة المعتزلة إلى أن للماهيات ثبوتاً عينياً في العدم، وهو الذي تعلق به علمه تعالى بالأشياء قبل وجوداتها، نهاية الحكمة : 292 .

14. تفسير الميزان : 15 / 275 ، وراجع النهاية : 289.

15. القرآن الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 465 .

16. الميزان : 8 / 169.

17. القرآن الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 129 .

18. الميزان : 7 / 27 ـ 28 ، و راجع صفحة : 26 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد