من الصفات التي جُعلت للغة الأيديولوجي حين يتكلَّم، صفة كونها لغة زئبقية لا تستطيع أن توقفها على لون واضح محدد. فإنها مزيج من ألوان، وحروف تترجم أحوالها، وتعكس طبائعها. وهي، في الممارسة السياسية، من التكثيف واللّبس، حتى تكاد لا تنضبط إلا في منطقة التشكيل. أي في تلك المنطقة الرمادية التي يبقى ظهور كل لون فيها رهناً بحضورٍ موازٍ لنظيره.
إن لغة الأيديولوجي في انبساطها السياسي متحركة، متوترة، سيّالة. هي سهلة على الفهم وممتنعة عنه في الوقت نفسه. لأنك سوف تحتاج إلى مشقة التفكيك، والتحليل، والفطنة، والدراية، لكي تتميّز مواطن الصدق والكذب، والكشف والحجب، والخفاء والظهور، وأنت تعاين مسيرتها الشعائرية لبلوغ أهدافها. فكرة الأيديولوجي وموقعيته وغايته هي التي تقرر اللغة المناسبة لما ينبغي أن يكون عليه مساره، وممارسته، ووفقاً لشروط زمان ومكان حراكه داخل الشبكة الإجمالية للقوى المختلفة.
عندما يقول الأيديولوجي قوله لا يعود هذا القول مجرد كلمات مرسلة إلى المخاطَبين، فإن قوله يعود ليرتد إليه على شكل أصداء تؤكد مشروعية الكلمات وصدقها؛ خصوصاً إذا استجاب المخاطَبون إلى تلك الكلمات وتماهوا معها، حتى لتجري في وجدانهم مجرى الدماء في العروق.
اللغة السياسية في خطاب الأيديولوجي، ذات طبيعة وجودية (أنطولوجية). فلا تمر لحظة على واضع الخطاب وإلا وقصد منه مفعولية، تروح فيها الكلمات تحفر في الزمن لتقيمه على نشأة أخرى. حتى لتبدو حركية هذه اللغة متجهة نحو موضوعها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي بوصفه حقلاً للتفكيك، أو إعادة التأليف، أو الأمرين معاً. وهي إذ ترفعه من سياقه الرتيب، فإنَّها تُدخلُهُ في منطقها ليصبح ذلك الحقل بعدئذٍ ظلاَّ لحدودها وعلاماتها ورموزها الدلالية.
تفترض الطبيعة الأنطولوجية لخطاب الأيديولوجي أن تتحول الكلمات المرسلة كذات ناطقة للمرسل وكذلك كذات جمعية للمخاطب المتماهي أو المذعن في آن. فالكلمات صادقة لا ريب فيها بالنسبة لواضع الخطاب. فهو قد تمثّلها من قبل أن ينطقها؛ ثم تمثَّلها كرَّة أخرى حين عادت إليه مزهوة بتمثلها في ضمائر المخاطبين. لقد كان ميشيل فوكو غالباً ما يعرب عن استحسانه ترديد فقرة رائعة من رواية لصمويل بيكيت: يجب أن أقول الكلمات إلى أن تقولني.. إلى أن تعثر عليّ…
يحرص منشئ الخطاب الأيديولوجي على المطابقة بين المرسِل والرسالة والمرسَل إليه. فإنه يدرك أن بطلان المقاصد العليا للخطاب عائد إلى القطيعة، وبالتالي إلى عدم الإنسجام بين الأطراف المشكَّلة لمثلث الخطاب. لذا يبذل جهده لكي يوطِّد صلات الوصل داخل المثلث وصولاً لتحقيق استراتيجيته. لكن حين نتحدث عن تلك الاستراتيجية لا نعني بها باعتبارها غاية نهائية بعيدة المدى للجهاز الأيديولوجي. قد تستهلك القضية الأيديولوجية لكي تنجز استراتيجيتها وقتاً محدوداً. ربما لأسابيع أو شهور أو سنوات. يتوقف الأمر على أن ينجز المخطط العام للقضية الأيديولوجية دورته الكاملة. وهذا يعني أن الإستراتيجية ووسائطها يجريان على نظام تحول دائم، في حين تبدو الكلمات كما لو كانت تتولى صناعة ذلك النظام المتحول.
كان اللسانيون يقولون إن الخطاب معادل للكلام، لأنه منجز لغوي. لكن الخطاب الأيديولوجي لا يتوقف على كونه كلاماً وحسب. فإنه فضلاً عن كونه كذلك، هو خطاب مركّب حيث يتركب فيه الكلام على مواضيعه المستقلة عنه استقلالاً نسبياً ومؤقتاً؛ حتى إذا اكتمل التركيب ظهر في صيغة بيان يترجم ما نشأ وتكوَّن في الواقع. ولأنَّ خطاب الأيديولوجي ذو وظيفة إيصالية بطبعه وطبيعته. فإنه يؤول إلى الإبلاغ عن هدف يراد للمستهدَف أن يبلُغَه، كما يؤول إلى إفهام المبلَّغ (بفتح اللام) أن هذه هي الكلمات التي ينبغي أن يتخذها ليشارك المبلِّغ (بكسر اللام) سعيه في جعل تلك الكلمات أشياء في الواقع.
على هذا الخط، لا تكون لغة الخطاب عند الأيديولوجي هدفاً بحد نفسه. وإنما هي حركة ضمن هذا الهدف. فلا تكاد تبلغه حتى يستغنى عنها، ثم ليستأنف المبلِّغ رحلته إلى هدف تالٍ بلغة جديدة وبكلمات مختلفة. كل الذي حصل هنا هو البيان عن قضية بدأت وانتهت داخل مساحة المكان ومسافة الزمان التي حدَّدتها العلاقة بين المرسِل والمرسل إليه. إن هذا بالضبط ما نعنيه من الاستراتيجية الإيصالية للخطاب. وهي استراتيجية تقوم على نشاط ثلاثة فاعلين:
ـ الفاعل الأول، أي (قيادة الجهاز الإيديولوجي) وهو واضع تلك الاستراتيجية.
ـ الفاعل الثاني، هو اللغة الموصِلة أو الموجّهة لتكتمل جدلية التخاطب فتلعب اللغة هنا دوراً وسائطياً، من دون أن يكون هنالك انفصال مع مرسِلِها، أو مع من سيبلَّغ كلماتُها. وهو ما يُعرف بالرسالة.
ـ الفاعل الثالث، هو الحلقة الأخيرة في توليد العملية الإجمالية للخطاب الأيديولوجي. وهو اكتمال الدورة الخطابية بإفهام المرسَل إليه فحوى الرسالة. فلو تلقَّاها الفاعل الثالث على الدرجة الفضلى، لبلغ البيان مراده، واطمأن المبيِّن إلى أن فكرته باتت حية تسعى في ثنايا الزمان والمكان.
إذا عاينا هذه الجدلية سنرى كأن الخطاب من حيث هو شكل لغوي يقيمه نظام المخاطب، يغيب – بعد اكتمال الدورة المشار إليها- عمَّا يقول، ليبقى ذلك المخاطب نائباً عنه ودالاً على معنى ما يقول. والجدير بالملاحظة أنه كلما طغى حضور المرسِل (المخاطب) بوصفه كائناً باثاً، ازدادت عملية الإيصال وضوحاً وتحققت أهدافها. وما كان ذلك ليكون إلا لأن هدف الإيصال هو نقل فكرة المرسِل، لا نقل لغة الخطاب التي يتم الإرسال بها.
وسنقرأ الجاحظ في “البيان والتبيين” في هذا الخصوص قوله: “إن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع”. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الخطاب الإيصالي في مقصوده، هو المرسِل فيما يريد أن يخبر عنه. وهو بهذا – أي المرسِل – يستمر بقاء لأنه يحقق وجوده الأجتماعي.[1]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر – منذر عياشي – النص: ممارسته وتجلياته – مجلة الفكر العربي المعاصر – عدد (96-97) 1992.
السيد محمد حسين الطهراني
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عادل العلوي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان