علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

جوهرانية الصلة بين المتناهي واللامتناهي

على شدة ما يبدو في الظاهر من اختصام بين المتناهي واللاّمتناهين وبالتالي ـ وعلى وجه التعيين، بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، فإنهما محكومتان بمنطق داخلي واحد. وإذن، لا يمكن النظر إليهما إلاّ كذلك. فالعلاقة الناشئة بينهما ليست علاقة بين طرفين بقدر ما هي تمظهر لجدلية واحدة.

 

فلكي يُحسم الغموض بتلك العلاقة القائمة على شكلانية التناقض وجوهرانية الاتحاد، حرص ريكور على وضع الأيديولوجيا واليوتوبيا داخل إطار مفهومي واحد. وقد انطلق من فرضية أن ضمّ هذين الطرفين أو الوظيفتين المتكاملتين إلى بعضهما يقدم الأنموذج لما يمكن أن يسميه المخيلة الاجتماعية والثقافية. وهكذا، يكشف البحث الذي افتتحه ريكور بصدد الأيديولوجيا واليوتوبيا، عن خاصّتين تشترك فيهما الظاهرتان:

 

الخاصيَّة الأولى: إن كليهما غامض لكل منهما جانب إيجابي وآخر سلبي، دور بنّاء وآخر مدمر، بُعد تأسيسي وآخر مرضي.

 

الخاصيَّة المشتركة الثانية: إن الجانب السلبي من بين جانبي كل منهما يظهر قبل التأسيسي، متطلباً منا الانطلاق إلى وراء، من السطح إلى الأعماق.

 

تشخص الأيديولوجيا إذن منذ البداية عمليات تشويهية إخفائية يعبر من خلالها الفرد أو الجماعة عن حالته من دون أن يعلم ذلك أو يدركه. تبدو الأيديولوجيا، على سبيل المثال، وكأنها تعبّر عن الحالة الطبقية لفرد دون وعي الفرد بها. لذلك فإن إجراء الإخفاء لا يعبّر عن هذا المنظور الطبقي فقط بل ويقويه. أما بالنسبة لليوتوبيا فإن لها سمعة سيئة أيضاً بحسب رؤية ريكور ـ إنها تبدو وكأنها تقدم نوعاً من الحلم الاجتماعي دون أن تكترث بالخطوات الواقعية الضرورية الأولى للتحرك باتجاه مجتمع جديد.

 

وغالباً ما تعامل الرؤية اليوتوبية كنوع من الموقف الفصامي تجاه المجتمع، فهي في الوقت ذاته طريقة للهرب من منطق الفعل عبر تشكيلة خارج التاريخ، ونوع من الاحتماء ضد أي إثبات للصحة عبر الفعل الملموس. وضمن سياق هذه الرؤية تذهب فرضية ريكور إلى أن هنالك جانباً يضاف إلى الجانب السلبي في كل من الأيديولوجيا واليوتوبيا، وأن القطبية بين هذين الجانبين في كل مصطلح يمكن أن تتكشف من خلال استقصاء قطبية مماثلة بين المصطلحين. ودواعي هذه القطبية بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، وأيضاً داخل كل واحدة منهما، يمكن أن تُعزى إلى خواص تركيبية لما يسميه ريكور “المخيلة الثقافية”. إن هاتين القطبيتين تحويان ما يمثل بالنسبة الى ريكور التوترات الرئيسية في دراسته للأيديولوجيا واليوتوبيا.

 

أما القطبية بين الأيديولوجيا واليوتوبيا فإنها لا تكاد تخضع للبحث منذ كتاب كارل مانهايم الشهير “الأيديولوجيا واليوتوبيا”. هذا الكتاب الذي يصرِّح ريكور أنه سيعتمد عليه كثيراً، قد نشر مرة عام 1929. وهو يعتقد أن مانهايم هو الشخص الوحيد، على الأقل حتى وقت قريب، الذي حاول أن يضع الأيديولوجيا واليوتوبيا في إطار مشترك، وقد فعل ذلك من خلال اعتباره لهما كليهما موقفين منحرفين عن الواقع. وهما يتباعدان ضمن الجانب المشترك بينهما والمتمثل في اللاتطابق مع الواقع أو التعارض معه.

 

منذ مانهايم، تركَّز أغلب الاهتمام بهاتين الظاهرتين إما على الأيديولوجيا أو على اليوتوبيا، ولكن ليس عليهما معاً. من جانب آخر، هناك نقد للأيديولوجيا، طرحه أساساً علماء الاجتماع الماركسيون وما بعد الماركسيين. وهنا يتذكّر ريكور على وجه الخصوص بمدرسة فرانكفورت التي يمثلها هابرماس وكارل أوتوابل، وغيرهما.

 

مقابل هذا النقد الاجتماعي للأيديولوجيا نجد أن لليوتوبيا تاريخاً وعلم اجتماع. واهتمام الحقل الأخير باليوتوبيا لا تربطه إلا علاقة واهية باهتمام حقل النقد الاجتماعي بالأيديولوجيا. ولكن ربما كنا نشهد تغيراً في الميل إلى الفصل بين هذين الحقلين، هنالك على الأقل اهتمام متجدد بالعلاقات بينهما. وحسب ريكور فإن الصعوبة في ربط الأيديولوجيا باليوتوبيا مفهومة على أية حال، فهما أمران مطروحان بطرق شديدة الاختلاف. الأيديولوجيا مفهوم مثير للسجال دائماً. أما الأيديولوجيا فإنها ليست أبداً موقف الشخص المتكلم، إنها دائماً موقف شخص آخر.

 

إنَّ الأيديولوجيا عندما توصف بطريقة فضفاضة جدّاً تكون بمثابة خطأ ارتكبه الآخر. لذلك فإن الناس لا يقولون أبدا إنهم أنفسهم دعاة أيديولوجية ما، المصطلح موجه دائماً ضد الآخر. من جانب آخر نجد أن كتّاب اليوتوبيات يدافعون عنها، بل هي تشكل جنساً أدبياً محدداً. هنالك كتب تسمى يوتوبيات، وهي تتمتع بمكانة أدبية متميزة لذلك، فإن اللغوي للأيديولوجيا واليوتوبيا لا يتطابق دائماً.

 

اليوتوبيات يدّعيها كتّابها لأنفسهم، بينما الأيديولوجيات ينكرها كتّابها. وهذا هو السبب الذي يجعل وضع الظاهرتين معاً صعباً للوهلة الأولى. لا بد لنا من الحفر تحت التعبيرات الأدبية والدلالية عنهما لكي نكتشف وظيفتهما وعندها نؤسس لرابطة تجمع بينهما على هذا المستوى.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد