علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

الفراغ العجيب

 

  • إنه حركة ناشطة في معركة المعنى. والخائضُ في لجَّته محمولٌ على الظن، أن السؤال الـمُستَنْبَتَ من حجّة العقلِ كفيلٌ بجعلنا ننحني لظهور الحقيقة. لكن الظانُّ إياه، كثيرًا ما يغفل عن أمرٍ يؤيِّده العقلُ، وهو أن السؤال الذي اتُخِذَ سلاحَاً أوحَدَ لنيل الحقيقة المدعاة، سوف يمسي مع الزمن داءً لا شفاء منه. كلما انتهى من سؤال ابتدأ آخر. وهكذا تدور الدوائر وتتوالد الأسئلة الى غير نهاية. حتى ليصير الخائضُ في اللجّة كالظمآن المضطرِّ لماء البحر، كلما شرب ازداد عطشًا.

 

  • لا يولد “الفراغ العجيب” إلا كحاصلٍ مريرٍ لسؤالٍ ثقيلٍ مضى في الصعود حتى بلغ الذروة…

 

  • في “الفراغ العجيب” هلعٌ وتهيُّب ومتعة. من هنا كانت عجائبيته وفتنته.. لا استشعار فيه للمكان ولا للزمان، حتى ليخال الذي هو ساكن فيه، كأنه في تيهٍ لا مُمْسِكَ له. أو لكأنه شيء محاطٌ باللاَّشيء. قد ينسى الساكن في الفراغ العجيب كل شيء إلا نفسه، فإنها تبقى عنده محفوظة من التبدد. ذاك بأنه بها يبقى يقظًا يكابد محنة السؤال.

 

  • الممتحَن في مختبر “الفراغ العجيب” غريبٌ في دنياه. فلا يجد فيها ما يؤنسه في غربته سوى علامات استفهام وإشارات تعجُّب. ليس كغربته غربة ما دام يتعقلّ آلامها، ويرى ما تفعل به رأي العين. إذن.. كيف له ألا يهلع أو يتهيَّب، وهو كمثل واقفٍ بقدمين مهزوزتين يوشك على السقوط من منحدر شاهق.

 

  • الممتحن في “الفراغ العجيب” يستشعر في نفسه ضدَّين يتنازعان بلا هوادة: ضدٌّ يصرُفه عن الامتلاء ليبقيه في بئرٍ دهرية بلا ماء، وضدٌ يتطلع إلى الانعتاق ولا يجد إلى ذلك سبيلًا.. ولولا أن بقي للممتحن حظُّ من العقل والرجاء لمكث في جوف الظلمة أبدًا.

 

  • للفراغ العجيب قابلية الانتحاء نحو كل نحوٍ.. وما على الداخل إليه حالَئذِ إلَّا أن يأخذ بناصية نفسه ويتخيَّر: إما التلاشي في عتمة الفراغ، أو النمو تحت شمس الحضور المنفتح على الأبدية.

 

  • الفراغ العجيب مخصوص بالفرد، وليس للجماعة أن تقترب من حياضه إلا بوصفها أفرادًا متفرقِّين. كل فردٍ في “الفراغ العجيب” يشبه نظيره في البأساء والضرَّاء. لكن لكلٍّ مسلكُه فلا يشاركه فيه أحد. لذا لا يقدر الأفراد المتفرقون ممن جمعهم همُّ البحث عن المعنى، أن يسلكوا معًا الطريقة نفسها. كلُّ فرد له عالـمُه الخاص، وإحساسه، وألـمُه، وأمانُه، وفرحُه، وحزنُه وسؤالُه المرير. وهذا الذي أتعبه ما يتوارى خلف ستارة الجهل يروح يتوسل فردوس العلم لينجو. ولو أنه ظن أن فُتِحَ له باب العلم، فلن يلبث إلَّا قليلًا حتى يعود أدراجه إلى سيرته الأولى..

 

  • المقيم في “الفراغ العجيب” هو على قلق عظيم، فلا ينجيه مما هو فيه إلا يدٌ قدسية تمتد إليه كلما استفرَغَ نفسه من كل سؤال، ثم استكان، ثم مضى في البكاء..

 

  • إنك لتجدنَّ العَجَبَ في منزلة “الفراغ العجيب”: في تلك المنزلة يتوثَّب العقلُ حتى يتمدُّد إلى ما وراء ذاته. هنالك تتكشُّف للعقل اندهاشات ما كان عاينها من قبل، ولا خَبِرَها ذات مرة…

 

  • يقال إن ما يلوح للعقل في لحظة تمدُّده لا يملك أن يحصِّلَه في لحظات نكوصه وانكماشه، بل هو شبه منعدم في أحواله العادية. فللعقل قبضٌ وبسطٌ كما للنفس والقلب. ينقلبُ حينًا إلى العلم وحينًا إلى الجهل. وكل ما في الأمر أن ما يحصل من تلويحات بنبأٍ غير مألوف إنما هي تنبيهات دالّةٌ على ما يحويه “الفراغ العجيب” من مفارقات وأعاجيب.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد